قصص قصيرة لـ أمل المصري
ولكن في جسدٍ واحد
جسَدهُ مثقلٌ، وأعباءٌ كثيرة تحيطُ به.
إن السّاعة قاربَت الواحدة بعد منتصف اللّيل. توقّفَ قليلًا … وجلَسَ على المقعَد الّذي يقابل الميناء، يمكنكَ بالكاد سماعَ نبضاتِ قلبِه ، شيءٌ ما يدورُ في ذهنه و يحدثُ له صداعاً مؤلماً ، انفصلَ عن العالم لِدقائق إلى أن وضعَ شخصٌ ما يدهُ على كتفهِ المرتجف.
إنّه شخصٌ غريبٌ، فلَم يسبق له أن عرفه أو ربما ذاكِرته لا تُسعفه الآن، جميلٌ أن نَلتقي بالغرباء فنحن أيضاً يعجبنا أن نكونَ غرباء كذلك.
_ ما الّذي تفعَله في هذا الوقتِ يا بنيّ ؟!
كانَ يبدو على وجه هذا العَجوز علامات الاستفهام، جلسَ بجوارهِ بانتظارِ إجابةٍ منه، أجابَ بعد برهةٍ من الوقت:
_ إنَّ هذه الأصوات اللعينة لا تكفّ عن الصراخ في رأسي، لكن هَل حقاً تريد أن تعرِف ما الّذي أفعله ، مِن جهتي أنا لا أعرِف ما أفعله يا عمّ.
مدّ يدهُ حاملًا فيها ورقة كانَ يبدو أنّها وصفةٌ طبية أو تحليلٌ مخبري أو ما شابَه، أردفَ الشّاب:
_ إنّ زوجتي في انتظارِ هذه الورقة الآن، أَتعلَم ما هي هذه الورقة؟!
إنّها نتيجةٌ لتحليلِ السّرطانِ الّذي أجرتهُ منذُ ثلاثة أو أربعة أيّام … ذاكرتي لا تُسعفني الآن.
حينها خرجَت منه صرخات مميتة، مؤلمٌ سماعها:
_ كيفَ لي أنْ أحمِل لها ورقةِ وفاتها و أدخل بها إلى المنزلِ ، وغيرَ ذلك ما الّذي سأقولُه لها؟ هل أقولُ لها أنّ الأطبّاء قدّروا موعد وفاتها و حتى السنواتِ الّتي سوف تعيشهم؟ هل أزّف لها خبر إصابتها بسرطانِ الرّئة؟
ألا يكفيها أنّها لم تحظَ بطفلٍ و عشرُ أعوامٍ مرّ على زواجنا؟
هل عرفتَ الآنَ ما الّذي أفعله هنا؟.
بالكادِ استطاعَ الوقوف، وكأنّ السرطان أصابهَ هو، لن يخبرَ زوجتَه عن مَرضها، هو يفضّل أن تموتَ مرّة على أن تموت أمامه مئة مرّة، التفتَ إلى العجوز قائلاً له:
_أعتذرُ منك عن الإزعاج الذي بدر منّي .
ورحل . . .
إنّ المرضَ و الموت أحيانًا يصيب اثنينِ و لكن يحدثُ في جسدٍ واحدٍ، إنّه القدَر!.
سندٌ لروحٍ معلَّقة
في قسمِ غسيل الكلى، دخلتُ متردّدةً ..
وجوهٌ كثيرةٌ تحملقُ فيَّ، أطفالٌ لم تُسعِد الحياةُ قلبهم يومًا .. ينظرونَ إليَّ بعيونٍ مُرهقة، لأوّل مرّةٍ أشعرُ بالذّنب من شيءِ لم أقترِفهُ .. ”مكانُكم ليسَ هُنا” كنتُ أودُّ قولَها لَهم، البعضُ نيامٌ خشيّةَ الألمِ .. والبعضُ مستيقظونَ لكنّ قلبَهُم غائبٌ.
لم أقِف طويلًا، أسرعتُ إلى السّرير في زاويةِ الغرفة، إلى سريرِ أخي …
لَرُبّما لو تبادَلنا الأدوار حينها لكانَ الأذى أهون، ولكانَ الوجعُ أقلّ إيلامًا، ينامُ هوَ كملاكٍ ذو عينينِ جميلَتين جدًّا لا تستحقّ كلّ ذلك البؤس، شبكتُ يدي بيدهِ، كنتُ أريد أن أتقاسمَ الأسَى معهُ، و لأنّ ذلك العذاب كانَ ثقيلاً على جسدٍ واحد ٍ لا يتجاوزُ حجمهُ حجم دميةٍ صغيرة …
أراقبُ عيونَ والدتي بحَذر، أرتقبُ أيّ دمعةً تسيلُ مِنها، مسكينةٌ هي.. لم تستَطع يومًا أن تتأوّه حتّى، كان يتوجّب عليها دائمًا أن تكونَ الشّخص الأقوى بَيننا، وأن تكونَ الحلّ لكل مشكلاتِنا، القولَ القاطع لحيرتِنا، صبرُها هي كانَ الأطول، تعبُها هي كانَ الأصعب.
كانَت دائمًا تقول أنّه مع كلّ ألمٍ يوجدُ أمل، لم يخذل اللهُ ظنّها حين خذلها الجّميع، لم يتركها الله حين وُضِعَ الحمل الأكبر على عاتقها، سمعَ الله دعائها فأجابها.
أمّا أبي فلم يَكُن أقلّ صبرًا منها، كان جمودهُ و سكونه مخيفٌ لي، لم يصرخ .. لم يبكِ أمامنا، منذُ أن علمَ بإصابةِ ابنهِ الصغير بالفشل الكلوي أصبح يفكّر كثيرًا .. عيناهُ الّتي يشوبها شيءٌ من الأحمر كانَت تكشفُ أمره في كلّ مرة .. كانت تقول لي بأنّ البكاء داهمهُ منذ قليل.
٢٠١٦/٦/١٤ :
كانَ موعد العملية الّتي تقتضي أن ينزعَ والدي كليتهُ اليُسرى وأن توضعَ في جوفِ بطنِ أخي، أخبرنا الطّبيب أنّه لا خوفَ من العمليةِ ذاتها، قال لنا أنّ ما يلي تلك العملية الجراحية هو المهمّ ..
كانَ منظرهُما مميتٌ بالنّسبة لي، أبي و أخي برداءٍ أزرق جاهزينَ للدخول إلى قسم العمليات، لا أحد فقط أمي كانت تساندهُم في مدينةٍ تبعدُ عن مدينتنا أكثر من أربع ساعاتٍ، بلا أحد .. بينما أمطرنا الجميعُ بكلمات العطفِ والمودّة لم يكن من أحدٍ هناك، صدّقني لن تجد شخصاً واحداً فقط يقف معكَ في محنتك، الكلّ يتخلّى عنكَ ويمضي.
اليوم والدي و أخي بصحةٍ جيدة بعض الشّيء، لكنّ أمي وأبي قد كَبرا مئة عامٍ منذُ تلك الجائحة، أيقنتُ كلّ اليقينَ أنّه ليس لي ولا لنا من أحدٍ سواهم، لا أحد سوف ينتشلني من ضعفي ونكبَتي غيرهم، هم فقط.
ولادة مسبقة
كانَت السّاعةُ تشيرُ إلى الثّانية عشرة، وقبلَ أن تنتهي ورديّتُها المسائيّة؛ خلعَت رداءها الأبيَض وراحَت تتجوّل بينَ غُرَف قسمِ الولادةِ، بدأَت تتفقّدُ الغُرفَ قبلَ أن تتركَ المناوبةَ للممرّضةِ الأخرى، وصلَت إلى آخرِ غرفةٍ في الممرّ، كانَ النّوم قد سَرَق والدةَ هذا الطّفلِ الوسيمِ أثناء إرضاعِها لهُ، أخذت الطّفلَ من بينِ ذراعيها، كانَ النّورُ يشعُّ من أجفانهِ المستغرقةِ في النّوم، حدّقت فيهِ لٍثوانٍ ثمّ قالَت بصوتٍ يكادُ لا يُسمعُ:
_ لَو تدري يا صَغيري كَم أشعرُ بالأسى تجاهَك! كيف تتركُ رحِمَ والدتكَ الدّافِئ و تأتي إلى هذا العالِم الباردِ القاسي لا أفهَم! يا تُرى هَل تعلَمُ أنّكَ وقبلَ أن تخرجَ إلى هُنا أحدُهم قامَ باختيارِ اسمكَ والّذي هوَ اسمُ جدّكَ الأكبَر؟ وكأنّك وليُّ عهدٍ أو أميرٌ في زمنِ الدّولةِ العثمانيّةِ ولكيّ تستمرَّ السلالةُ الملكيّةُ حملْتَ اسماً ثقيلاً ولا يناسبُ وجهَكَ الفاتِن، ولَم يكتفوا بهذا فَحسب؛ بَل أنّ شخصاً ما الآنَ أفسحَ مجالاً في حائطِ منزلِكُم لشهادَتكَ الجّامعيةِ وقامَ بحجزِ مكانٍ لكَ في كليّة الطّب المُعقَّدة، لقَد قرّروا مصيرِكَ حتّى قبلَ أن تلامسَ قدماكَ الأرض، لا تَقلق فقَد فعلوا نفسَ الشّيءِ مع والِدكَ وستفعلُ -إن لَم تُدرِك قباحةَ ذلك- ذات الشّيءِ مع أولادِكَ، لا تَقلَق يا بنيّ فهنالِكَ ما هوَ أسوأ: ستبدأُ الحياةُ برميِكَ بكلّ أسلحَتها القَذِرة، وستقابلُ أحقَرَ الأشخاصِ في هذا العالَمِ، سَتحبُّ فتاةً أو على الأغلبِ فتياتٍ سوفَ يحطّمنَ قلبكَ ويجعلنَهُ كالزّجاجِ المُهَشَّم، سوفَ تعملُ في وظيفةٍ تكرهُها كلَّ الكُره، لا عليكَ! فلَن يهتمَّ أحدٌ بسعادَتِكَ، سوفَ تكونَ مهمّتُكَ هي جمعُ الأموالِ كالمجانينِ ومن ثَمّ سوف تتزوّجُ امرأةً لا تحبُّها بل لا تعرفُ عنها شيئًا سوى أنّ والدتكَ أُعجِبَت بمَظهرِها، وما من مجالٍ للاعتراضِ فهذا يخالفُ قوانينَ اللّعبة، لتُنجِبَ أطفالاً تكون حياتُهم مثلكَ تماماً !
تجاهَلْهُم، وكُن أنتَ..
خيِّبْ آمالهُم وافعلْ ما تُحبّ، كُن فظًّا ولا تسمَع نصائحهُم السخيفة، لا تَدعهُم يعبثونَ بك، أرجوك…لا تعِش حياةً أنتَ لا تريدُها!.