ظاهرة “هو الدين هكذا”، وتزييف القِيَم/ لـ عبد الرحمن المهداوي
في مجلة “أقلام” في العدد الثامن لسنة 1965 ترجمَ عبد المغني برادة قِصَّةً للقَاصّ الصينيّ “لوسان”، والتي كانت بمثابة عُنْصُر هامٍ في تحوّلٍ وتغيُّرٍ واستقرار وتعديل الكثير من الأفْكَار المؤدلجة من غير تأسيسٍ للشَّعْب الصينيّ.
ومما لفت نظري أنْ وجدتُ توصيفًا عبقريًّا من لوسان في قِصَّة “مذكِّرات أحْمَق”، يكاد يصفُ الأزمة التي تعيشها الشُّعُوب بسبب تسييس القِيَم العليا الكبرى السامية، لخدمة سلوكيات وعقائد تتصارع في أعالي كهف الانْحِطَاط والدمار، حيثُ يقول واصفًا وضع التغييب الحاصل للشَّعْب الصينيّ:
“في العُصُور القديمة كان الإنسان كثيرًا ما يأكل الإنسان، لكنني لـم أعد متأكدًا من هذه النقطة، فأخذت كتاب تاريخ لأدرس وأتحقَّق من هذه النقطة بالذَّات، لكن هذا الكتاب لا يحمل أي تاريخ وكُتِب على كل صفحاته من مختلف الجهات هذه الكلمات: «الإنسانيَّة» «العدالة» «الفضيلة»”.
هنا إسْقَاطٌ عبقريّ، بنعومةٍ فِكْريَّة ألمعيَّة إبان سردٍ طبيعيّ لأحد القِصَص، حيث إنّ الإنسانَ مجبولٌ على تبرير الأفعال بأخلاقياَّتٍ، بل حتى عند المجرمين من القتلة المتسلسلين “the serial killers” قد تجدُ بعض الأخلاقيَّات مُبرَّرة داخل قالب عبارات مثل: “الانتصار للفضيلة”، “تطهير الإنسانيَّة”، “إنْقَاذ المتألِّمين”، ويُصنِّف بعض القتلة هؤلاء أعمالهم كأعمال فضيلةٍ وانتقامٍ لآخرين متضررين من وجود البشر الذين قُتِلوا.
لذا، فلا عَجَبَ أن يتخذ البعض من رِجَالِ الدِّين والسَّاسةِ المُستبدين هذه المفاهيم، ليعطوا مشاعر التابعين لهم رضًا عمَّا يفعلون، وقناعةً بما يتلقون.
ولهذا سنحاول مناقشة هذا المنطق وَفْق المنظومة الدِّينيَّة الفِكْريَّة السائدة في المجتمع العربيّ، وتغييب الشُّعُوب من خلالها عن طريق إيهامهم بكونها “هي هكذا” و “الدِّين هكذا”، وكل ما تنطلق به ألسنتهم أو يرومه فؤادهم حقٌ مُطلق، لا تستطيع أن تخالفه، وإلا أخللت بمفاهيم: الإنسانيَّة والفضيلة واستقرار المجتمع والأخْلاَق والدِّين، وهَلُمَّ جَرًّا وهَلُمَّ جَرْجَرة.
المَنْطِق المعرفيّ والفَلْسَفيّ للفِكَر الدِّينيّ السائد:
ينتشر في الوسط الدِّينيّ السائد التَّشْدِيد على أنّ الأخْلاَق إنْ لم تكن دينيَّة فلا قيمة لها، لأنها تأتي من “الله” الذي يعلم خفايا الأمور وما تكنَّه الصدور، وهو الوحيد الذي نستطيع أن نَثِق به كمصدرِ معرفة لا يَضِلّ ولا ينسى، وبالطبع فهذه الفِكْرة بهذا الشكل مُبرَّرة فَلْسَفيًّا ومؤسَّسة على مَنْطِقٍ محترم، ولها رُوَّاد كبار من الفَلاسِفة، وقريبةٌ حتى من الأُدَباء والمَنْطِق الشَّعبيّ، ولا يأتيا، المَنْطِق الشَّعبّي وحكمته من فراغ، ولنا أنْ نستذكر ما يشتهر عن الرَّاوِي الروسيّ دوستويفسكي بالفحوى:
“فإن لم يكن هنالك إله، فكلّ شيء مباح”.
وطبعًا هذا مُنْطِق رِجَال الدِّين السَّائِد، وأقولُ السَّائِد لوجود نماذج أخرى من رِجَال الدِّين ترى أن المعرفة الأخلاقيَّة ليست محصورة بإتيانها من مصدرٍ أعلى له صفات الكمال ونُعُوت الجَلال، بل من الممكن أن تكون موجودةً من غير أن يكونَ الدِّين هو المُوجِد الأوحد لها، وناقش علي عزت بيجوفيتش هذه الفِكْرة في كتابه: (الإسلام بين الشرق والغرب)، وكمُفكِّرٍ إسلاميٍّ خَلُصَ إلى أنّ: غالبَ المجتمعات الملحدة تَحمِل جذورًا دينيَّة، لذا لا نستطيع أن نَحْكُم كَوْن هذه الأخلاق مُسْتَمَدة من الدِّين الإلهيّ، أم من اجتهاداتٍ بشريَّة، وهو شَكّ معقول عقلانيّ خرجَ به.
وبعيدًا عن مناقشة الفِكْرة الأخلاقيَّة فَلْسَفيًّا، وكونها مرتبطة بالدين فقط أم أنّ للبشريَّة يدٌ فيها، والمصائر التي تُستبشر إنْ ضبطَ الدِّين الواقع، والمصائب التي تُتَوقَّع إن غاب الدِّين عن الساحة إلخ..، نريد أن نأتي هنا للحديث عن تسييس هذه القِيَم النبيلة لأفكارٍ معينة إن لم تُتَبنى، ليس للقِيَم النبيلة مكانٌ في غيرها من الأفكار.
المصدر الإلَهيّ والاختلافات البشريَّة حوله:
إن وجود النَّصّ، محض النَّصّ، وغياب أسباب نزوله، ومقاصد حِكْمَته، وطبيعة مُخاطبته، ومرامَ استقباله، يجعلُ منه ساحًا لا تنتهي من الأفكار، ومنبعًا لا يَنْضَب من الاحتمالات، فلذا كانَ ضَابِط العقلانيَّة الواقعيَّة، هو الأحقّ بأن يتبنى، وقد ظهرت التفاسير مختلفةً ما بين الطوائف الإسلاميَّة المُتباينة: أشاعرةً، ومعتزلةً، وسلفية، وشيعة إمامية، وباطنيين، إلى آخرهم من الطوائف والمذاهب، وكلّ مذهب ومشرب كانَ له قولٌ يُسقَطُ بالضرورة على المفهوم الأخلاقيّ والقِيَميّ.
ولمَّا كانَ الفِقْه ضَابِط العِبَادَات والمُعَامَلات والحدود والعُقُوبات، كانَ له الحظ الأوفى في الحُكْم على الواقع والوقائع، واستُمِدّ الفِقْه من النُّصُوص الشَّرعية “الكتاب والسُّنَّة”، وكذلك ما اختلف على حُجِّيته مثل: “رأي الصحابي وآراء آل بيت النبي”، وبطبيعة الحالِ، فإن المرء إذا ما نظر لنفسه قبل سنوات سيجد تغيُّرات كبيرة كان يلحظها أم لا، فقد وجدت، وسيرورة المجتمعات والحياة الواقعية والشُّعوب إلى التغيير دائمًا، ولا يعني التغيير التوحُّد بعالمٍ مختلف كالعالَم الغربيّ، ولا يعني أيضًا غياب القِيَم والمفاهيم الدِّينيَّة بشكلٍ تام، ولكن يعني اختلافُ النَّظر إليها وَفْق زوايا جديدة بزغت قد تضيف للإنسان وتجعله يعرف كيف يُعامِل نفسه وغيره ورَبُّه ودنياه.
إنّ ما يدمِّر المجتمعات إنكارُ الحقائق والاحتمالات المُمكِنة، وعدم مُصالحة الواقع والتوافق معه بما يجعل الدنيا أكثر راحةً، وهذا هو مَقْصد الدين، ولا تغيب العَلاقة المصلحيَّة “البرجماتيَّة” عن البشر حتى في العبادات، فهو يريد لها مقابلًا يكون الجنة مثلًا، وهو ما يُضفي عليه راحةً في الدنيا، فلذا مجيء الدِّين مرتبط باستقرار المُبشَّرين به من البشريَّة، وتطييب حياتهم قدر الإمكان.
وعندما تظهر أمور ممكنة لتفسير النُّصُوص بما يتوافق والواقع، مدللٌ على التفاسير بأدلة لغويَّة وعقليَّة ومقصديَّة “ضمن مقاصد الشَّرع والدين”، نرى أن الكثير من رِجَال الدِّين المتمحورين حول المفهوم التُراثيّ فحسب، يَنْبَرون للدفاع عن الدِّين، رغم أن صاحب التفسير الجديد لم يهاجمه، إنما قدَّم تفسيرًا يراه أصوبَ للواقع، وأسلمَ للخَلْق، وأرضى للخَالِق، وهذه “بارانويا” عجيبة، ويقولون بشكلٍ دوري: وهل دين الله يتبدَّل؟ وفي الحقيقة هو لا يتبدَّل كدِّينٍ في غايته، إذْ أنّ أبا حنيفة عندما قدَّم تفسيره الدِّينيّ، ثُمَّ جاءَ مثلًا الشافعي وخَالَفه في مسألةٍ ما، هل الشافعي بدَّل دين الله؟ أم أنّه فقط يحاول أن يأتي بالأصلح وما يُرضي عقله وضميره.
قال بوذا يومًا: “التعلُّق جِذْر المُعَاناة”، يوافقه الشيخ الأكبر ابن عربي: “لقد صارَ قلبي قابلًا كل صورةٍ”، وبهذا فإنَّّنا إن لم نعترف بقوانين وسُنَن الحياة، لن نعيش الدنيا ولن نرجو الآخرة.
الخُلاصة:
تُبَدَّل بعض الآراء الدِّينيَّة، ليس بالضرورة هجومًا على الدِّين وانْقِضَاضًا من أجل تغيير غاياته وماهيته، إنما هو إقرار بسُنةٍ حياتيَّة هي وحدها لا تتغيَّر: الدُّنْيا تسير نحو التغيُّر، ومن هذا التغيُّر، تعديل بعض المفاهيم التي تعطي الدين قيمته الحقيقية في الحياة.