نظرة مُحَلِّقَة فوق المُعَلَّقَات الجاهلية عبر العُصُور المُتَتَابِعَة
تمهيد
لفظُ “المعلقات” من أقدم المصطلحات التي عرفها تاريخ الأدب العربي، وقد أُطلِقَ على مجموعة مشهورة من القصائد التي أُثِرَتْ عن فحولِ الشِّعْر في الجاهليَّة[1]. ويختلف الشراح والنُّقَّادُ في عدد المعلقات وعدد أصحابها؛ فبعضهم يجعلها ثمانيًا، وبعضهم يجعلها عشرًا. والقول المشهور أنها سبع وأنَّ أصحابها هم امرؤ القيس وزهير وطَرَفَة ولبيد وعنترة وعمرو بن كلثوم والحارث بن حِلِّزَة[2]. أما من جعلها ثمانيًا؛ فيضيف إلى أصحابها النابغة، ومن جعلها عشرًا؛ فإنه يضيف إليهم الأعشى وعبيد بن الأبرص[3].
اعتلت هذه القصائد عرشَ الذاكرة العربية، فشغلت الناس منذ صَدْر الحضارة العربية حتى يوم الناس هذا.
أحاول في هذا المقال أن أمرَّ مرورًا على تلك الكتب التي تناولتْها بالدارسة والبحث عبر العصور المختلفة حتى العصر الحديث، وما قد يميز هذه الدراسات بعضها عن بعض.
قضية التعليق وما دار حولها من خلاف
ترد قصة التعليق قائلة إن العرب اختاروا من شعر فحولهم قصائد، وذَهَّبُوها على الحرير، وناطوها بالكعبة تشريفًا لها، وتعظيمًا لمقامها، واعترافًا بحسن سَبْكِها، حتى أصبحت العرب تترنَّم بها في أنديتها[4].
وردتْ أقدمُ إشارة إلى هذه القصة على لسان ابن الكلبي (ت 204هـ)؛ إذ يقول:
وأول ما عُلِق في الجاهلية شعر امرئ القيس..
صمت المهتمون بالأدب بعد ذلك عن هذه القضية مدة تزيد على قرن من الزمان لتعودَ مرة ثانية على لسان ابن عبد ربه (ت 328هـ) مقرِّرًا لها، ومرة أخرى على لسان ابن النحاس (ت 338 هـ) منكرًا للقصة من أساسها. ويتتابع العلماء من بعدهما؛ فريقٌ يقبل قصة التعليق، وفريق ينكرها ويردها، والذي يمكن قوله هنا دون شك أن هذا الاسم (المعلقات) قد اطّرد عَلَمًا على هذه القصائد، حاجبًا ما عداها من أسماء.
جاء المعاصرون بعد ذلك وحركتهم أسطورة التعليق وداعبت خيالهم؛ فدار حولها جدل كبير ما بين مؤيد ومعارض.
نُفَاة
من أهم النافين لقصة التعليق نولدكه الذي يرى أن اختلاف رواة الشعر في ضبط أبيات المعلقات دليل على عدم صحة التعليق، وأن قصة التعليق نشأت تفسيرًا لظاهر التسمية لا سببًا لها. ويأتي كريمير مشيرًا إلى الاستعمال اللغوي للفعل “عَلَّقَ” الذي يعني النسخ والنقل والتدوين، وأن كلمة التعليق جاءت؛ لأن هذه القصائد دُوِّنَت بعد فترة طويلة من النقل الشفهي. أما أهلورد فيرى أن كلمة التعليق جاءت من تعليق البيت أو الأبيات بما سبقها. ويرى تشالزليال أن التعليق اشتُقَّ من “العِلْق”، وهو الشيء الثمين.
يرى الرافعي أن قصة التعليق على الكعبة خبر موضوع خَفِيَ أصلُه حتى وثق به المتأخرون. وأحسن وجه في تسميتها بهذا الاسم -في رأي محمد الخضر حسين– علوقها بأذهان صغارهم وكبارهم لشدة عنايتهم بها. أما شوقي ضيف؛ فيرى أن قصة التعليق من قبيل الخرافات والأساطير.
انقسم النافون إذن إلى قسمين؛ الأول: يرفض القصة دون أن يعيرها أي اهتمام كما فعل ابن النحاس قديمًا والرافعي حديثًا، والثاني: يرفض القصة مع قبول الاسم؛ فيشغل نفسه في إيجاد تعليل لهذا الاسم.
مؤيدون
وإذا انتقلنا إلى أصحاب الرأي القائل بصحة التعليق نجد جرجي زيدان يرى أن تسليم هذا العدد الكبير من الباحثين مُرَجِّح قوي لصحة التعليق، ويتساءل: وأي غرابة في تعليقها وتعظيمها بعد ما علمنا من تأثير الشعر في نفوس العرب وتعظيمهم أصحابَه؟ والتعليق عند أحمد حسن الزيات سنة جاهلية بقِي أثرها في الإسلام، ومن ذلك تعليق قريش للصحيفة مقاطعةً لبني هاشم وبني عبد المطلب؛ فلم لا يكون الأمر كذلك في هذه القصائد؟! والعقل -في رأي محمد هاشم عطية– لا يرى مانعًا من القول بصحة التعليق، ولا يوجد سبب معقول يدعو إلى تكذيب الروايات التي تَوارَد عليها الرواة في مختلف العصور كما يقول بدوي طبانة. يرى سليمان الشطي أن عدم منافاة التعليق للعقل والعادة وانسجامه مع بعض الأحداث المُسَجَّلَة لا يعني ضرورةَ وجوده. [5]
إطلالة على شروح المعلقات
بدأت العناية بهذه النصوص الشعرية مبكرًا؛ فسعى الساعون إلى فكِّ مغاليقها أمام القارئ. وتنهض أقدمُ إشارة إلى أول هذه الشروح عند ابن النديم في الفهرست ناسبة إلى الأصمعي (ت 216 هـ) كتابًا باسم “كتاب القصائد الست”. وليس من الثابت أن يكون شرحًا لقصائد ست من هذه السبع المشهورة؛ فقد يكون مختارات شعرية. والذي لا شك فيه أن للأصمعي جهودًا نراها في كتب الشروح المختلفة.
إن أقدم نص مشروح بين أيدينا هو تلك النسخة الفريدة الباقية من شرح أبي سعيد وأبي جابر، وتعود تلك النسخة في أصلها إلى أوائل القرن الثالث. يُرَجِّح سليمان الشطي أن هذا الشرح يعود في أصله إلى أبي سعيد الضرير، أحد ثلاثة اصطحبهم عبد الله بن طاهر حين ولاه المأمون خراسان، وكان مؤدِّبًا لأولاده. وواضح من الأخبار التي بين أيدينا أنه كان مهتمًّا اهتمامًا خاصًّا برواية الشعر وتفسيره، ولم يذكر المترجمون له سنة وفاته، إلا أن صاحب معجم المؤلفين يذكر أنه كان حيًّا سنة 217 هـ.
أما أبو جابر هذا الذي قاسم أبا سعيد الضرير شرحه فإنه لم يُتَوَصَّلْ إلى شخصه وهُويته، وهو يشاطر أبا سعيد الشرح كله، ويمكن فصل كلام كل واحد عن الآخر بسهولة.
تبرز في هذه النسخة شخصية جامعها من خلال بعض الملاحظات المنثورة في ثنايا الشرح؛ فليس ناسخُها ناسخًا عاديًا، ويرجح الشطي إمكان أن يكون كاتب هذا الشرح أحد تلاميذ هذين الشارحين أو أحدهما.
نأتي إلى طريقة أبي سعيد في شرحه، وهي نفسها ذات الطريقة التي سار عليها قسيمُه أبو جابر وكثير من الشراح بعدهما.
يبدأ أبو سعيد شرحه بإثبات المعنى العام مع إيراد الإعراب واللغة والأحداث التاريخية بنوع من التوازن والاختصار في المعلومات وعدم الإسراف في بسط آراء الآخرين، كما أنه وازن بشكل مُعْجِب بين الاهتمام اللغوي والإحساس بالمعنى، ويأتي أبو جابر بعده يؤازره في تقديم معنى متكامل للبيت المشروح. ومما يمتاز به هذا الشرحُ قدرته على التحرر من الأقوال المأثورة والمشهورة، فتُحس فيه بحضور شخصية الشارح.
لم تكن مساهمة أبي سعيد وأبي جابر هذه المساهمة الوحيدة في القرن الثالث الهجري، إنما كان لابن السكيت (ت 244 هـ) مساهمة واضحة في هذا المجال؛ فقد ذكرت بعضُ المصادر أنَّ له شرحًا لهذه القصائد السبع. لعله مما لا شك فيه أن كان لابن السكيت عناية بهذه القصائد؛ فقد تردد اسمُه في شروحها ترددًا واضحًا ومطردًا مما يؤيد وجهة النظر التي تقول أن قد كان لهذا العالم نص مكتوب أو أَمَالٌ ودروس وعاها من نقل عنه. وقبل أن نودع القرن الثالث الهجري نشير إشارة إلى ابن كيسان (ت 299 هـ) الذي أقام شرحًا متكاملًا بقيت آثاره عند بعض الشراح.
تستوي الشروح نشاطًا متكاملًا في القرن الرابع بعد أن توافرت صورة واضحة للشعر الموثق الذي يسره الرواة والعلماء وصُنَّاع الدواوين. ولعلَّ أهمَّ شرحَين بقيا من هذا القرن شرح ابن الأنباري (ت 328 هـ) “شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات“، أما الآخر فشرح أبي جعفر النحاس (ت 338 هـ). ضاعت شروح كثيرة في هذا القرن ومنها شرح ابن درستويه (ت 347 هـ) المُسَمَّى “تفسير السبع الطوال“، ومن أبرزها شرح أبي علي القالي (ت 356 هـ)، وغيرهما.
تتوالى الشُّروح بعد القرن الرابع، ومن أهم الشروح المُتَمَيِّزَة في هذا العصر شرح الأعلم الشَّنْتَمَرَي (ت 476 هـ)، وأبي بكر البطليوسي (ت 494 هـ)، ومن الشخصيات المتميزة حقا الزُّوزَنِي (ت 486 هـ) في شرحه المشهور. ومن جاء من بعد هؤلاء فهم نقلة وملخصون من مثل التبريزي (ت 502 هـ)، وتلميذه الجواليقي (ت 540 هـ). وتتوالى بعد ذلك الشروح العديدة التي تعتمد في أغلبها الأعم وكثرتها على الأصول الأولى.
وإذا ما وصلنا إلى القرن العشرين نجد أن شروحها قد تكاثرت بصورة يصعب حصرها، ولكن يمكن القول إن النهج القديم في شرح المعلقات قد وجد صداه عند أصحاب الاتجاه الإحيائي للتراث العربي ومن ذلك شرح الشنقيطي (ت 1913 م) المسمى “شرح المعلقات العشر وأخبار شعرائها”. أما أصحاب الاتجاه الحديث؛ فحاولوا الاعتماد على الثقافة الحديثة والدراسات المعاصرة في تناول هذه الأشعار، نذكر من هذه الدراسات مثلًا كتاب عبد الملك مرتاض المسمى: “المعلقات: مقاربة سيمائية/ أنثروبولوجية لنصوصها“.[6]
الاتجاهات التعليمية في تَنَاوُل المعلقات
رسخ في الأذهان أنَّ الشعر الجاهلي هو الأساس الأول للثقافة اللغوية والأدبية، ولما تراكم الزمان وبعدت الأجيال عن هذا الأصل احتيجَ إلى شروح وتعليقات تُقَرِّبُ هذا الشعر للأجيال الجديدة.
كانت شروح الشعر الجاهلي قبل ظهور هذه الحاجة التعليمية الملحة تنحصر مهمتها في إيراد كل ما يتعلق بالنص من معلومات لغوية وتاريخية وبلاغية مع إيراد الخلافات حول رواية النص وتفسيره وفق كل رواية مع الإطالة في عرض الخلافات الدقيقة في النحو والصرف والبلاغة وغير ذلك. أما الطريقة التعليمية فقد اتجهت إلى شرح النص مع أقل قدر ممكن من المعلومات المفيدة المتصلة بالبيت تسهيلًا على طلبة العلم وعموم المثقفين.
يمكن النظر إلى الشروح التعليمية ضمن ثلاث اتجاهات رئيسة، وهي: المنهج التعليمي اللغوي، والمنهج التعليمي الفني، والمنهج التعليمي التلفيقي.
أما أصحاب المنهج التعليمي اللغوي، فهم يهتمون اهتمامًا بالغًا بالعلوم اللغوية أثناء شرحهم، ويعتمدون على من سبقهم مع عناية بالاختيار وعدم تحرج من الحذف وإعادة الصياغة. أما أصحاب المنهج التعليمي الفني؛ فالنص عند هؤلاء هو الأصل الذي يدور حوله الكلام، مع إيراد كل ما يخدم النص الأصل ويقرب روحه إلى المتلقي. وعن أصحاب المنهج التلفيقي؛ فهم ينطلقون من نفس الأصل الذي ينطلق منه أصحاب المنهج اللغوي لكنهم يكتفون باختيار الشروح القديمة التي يعتمدون عليها؛ فيختصرونها ويوفقون فيما بينها مع خضوع تام لهذه المراجع.
البطليوسي (ت 494 هـ) ممثلًا للمنهج التعليمي اللغوي
يدخل الشارح غمار النص اللغوي واضعًا نصب عينيه كشف الجانب اللغوي قصد إفادة المتعلم في شقها اللغوي؛ فالنص الشعري عند هؤلاء نص لغوي أولًا وأدبي في مرحلة تالية.
يأتي البطليوسي شارحًا نصوص الجاهليين وهدفه كشف النقاب عن الجانب اللغوي منها؛ فيتضاءل إحساسه بالمعنى بدرجة واضحة. والخط الأساسي الذي يمثله البطليوسي كما وضحنا اهتمامه اللغوي بالنص وغريبه وإعرابه وخلافاته متَّكئًا في ذلك على من سبقه من العلماء من دون إضافة تُذْكَر اللهم إلا في عملية الاختصار والتنسيق والاختيار.
الأعلم الشنتمري (ت 476 هـ) ممثلًا للمنهج التعليمي الفني
من أهم الشراح الذين مثَّلوا المنهج التعليمي الفني الأعلم الشنتمري. يضع الأعلم أمامنا ستة ملامح رئيسة ينتظم فيها شرحُه؛ أولها: اهتمام بجلاء وتوضيع معنى اللفظ الغامض، وثانيها: إدراك جوانب المعنى وفهمه، وثالثها: الاهتمام بالغامض من الإعراب، ورابعها: الإيجاز من دون إخلال أو إملال في النقاط السالفة، وخامسها: التناسب بين اللفظ والمعنى، وسادسها: الوفاء بحاجة الطالب المبتدئ. مما تميز به هذا الشرح: التناسب والتوازن؛ فلا هو مثل ابن الأنباري يستطرد ويوسع دائرة الأقوال، ولا هو مثل ابن النحاس يركز على القضايا اللغوية للنص كما سيأتي بيانه.
التبريزي (ت 502 هـ) والجواليقي (ت 540 هـ) مُمَثِّلَيْنِ للمنهج التلفيقي
قلنا إن الشارح في هذا الاتجاه يؤلف بين شروح سابقة ويجمع فيما بينها دون أن يكون له ثمة تدخل ما؛ فلا نكاد نرى أي بروز لشخصية المؤلف؛ لأنه ينقل من الآخرين نقلًا.
وقد حاول التبريزي التلفيق بين مصدرين هامين هما شرح ابن الأنباري وشرح ابن النحاس؛ فاعتمد عليهما اعتمادًا وجعل ينقل منهما وينسخ. والناظر في شرح التبريزي يرى نوعًا من التوازن في عرض المعارف قياسًا على غيرها من الشروح، ويرى أنها تساعد المتعلم كذلك على اختراق حاجز اللغة والمسميات في فهم أولي لمعنى الشعر.
ويأتي الجواليقي شارحًا المعلقات شرحًا يميل إلى الاقتضاب الشديد معتمدًا فيه اعتمادًا كليًّا على أستاذه التبريزي؛ فلا يزيد شرحه عن كونه تلخيصًا لشرح أستاذه من قبل.[7]
دراسة المعلقات على أنها نص لغوي قبل أي شيء
إن خطًا عامًّا يتفق عليه أصحابُ المنهج اللغوي وهو أن دراسة الأدب يجب أن تُعنى بمادته الرئيسة وهي اللغة، ومن هذه الأرضية المشتركة ينطلق أصحاب هذا المنهج نحو إزالة إبهام الكلمات من خلال تَقَصِّي معناها ودلالتها وموقفها المتميِّز في النص.
التفَّتْ كثير من الشروح العربية القديمة للشعر حول الثقافة اللغوية وثقافة العصر الذي تم الشرحُ فيه. إن منهج اللغة بمعناه الاصطلاحي وعلومه وفهم قوانين اللغة وتراكيبها وصلتها بالأداء الفني هو الأساس الذي قام عليه شرح ابن كيسان وابن الأنباري وابن النحاس؛ فابن كيسان يعد المقدمة الطبيعية لشرحَي قسيميه، ويلتقي ابن الأنباري وابن النحاس في الاهتمام باللغة؛ فتتقارب شخصيتهما تقاربًا شديدًا.
شرح ابن كيسان (ت 320 هـ) مقدمة طبيعية لأصحاب المنهج اللغوي
في شرح ابن كيسان تجتمع الأسس الأولية لأهم شرحين عرفناهما وهما شرح ابن الأنباري وشرح ابن النحاس، وقد كان مصدرًا أساسيًا للشرح الثاني. والنسخة التي بين أيدينا -الموجودة في برلين- ناقصة ومضطربة، ولا يُعْتَمَد عليها في بيان الطريقة التي كان يسلكها ابن كيسان في شرحه.
ولكن، فلنحاول أن نتلمَّس الخطوط العريضة لمنهجه قائلين إنه يُعنى أول شيء بشرح المفردات والمصطلحات، ويشير إلى الصور والكتابات إن وُجِدَتْ، وينتقل بعد ذلك إلى المعنى العام، ويستشهد كذلك بالشعر إن وجد ضرورة، وهذا الأسلوب كما نرى هو الذي اعتمدت عليه الشروح اللغوية ما بين موجز مقتضب ومسهب مُفَصِّل.
ابن الأنباري (ت 328 هـ) وثقافة النص
يُصَدِّر ابنُ الأنباري شرحه بحديث عن المناسبات التي رافقت أو مست طرفًا من الأحداث التي كانت سببا في إنشاء القصيدة ثم يشرع في شرح أبياتها.
وإذا ما أردنا أن نتكلم عن ملامح شرحه؛ فيمكن إيجازها في سبعة ملامح رئيسة ينتظم فيها شرحه كله.
أما الملمح الأول فهو التوثيق؛ فيبدأ شرحه غالبًا بتوثيق البيت موردًا الخلاف سواء كان في شطرة كاملة، أو في شكل الكلمة، أو في ضبطها، أو في ترتيب الأبيات مُرَجِّحًا نهاية الرواية التي يختارها. والملمح الثاني هو العناية بالمصادر؛ فنرى ابن الأنباري ينسب الأقوال إلى أصحابها مستفيدًا من جهد السابقين مع عناية فائقة في جمعها وتبويبها. وعن الملمح الثالث؛ فهو إزالة الإبهام عن الألفاظ؛ لأنَّ فهم الألفاظ ودلالاتها الدقيقة كما عرفتها بيئة الشاعر تعين على فهم النص. وتأتي ملامسة المعنى على المستوى اللغوي للشاعر ملمحًا رابعًا؛ فلا يحرص على جمع المعنى في سطور، وإنما يكتفي باستطراده الملازم لشرح الألفاظ، ويحرص في أحيان أخرى على إيراد شرح كامل للمعنى، وأحيانًا يشرح المعنى على مستويين؛ مستوى ظاهر يمكن إدراكه مباشرة، وآخرخفي دقيق يحتاج إلى إعمال ذهن. ويعنى الملمح الخامس بإيراد الشواهد والاستدلالات من قرآن وحديث وشعر وأقوال؛ لتوضيح معنى لفظ من الألفاظ، أو توضيح معنى دقيق. ويأتي الاهتمام بالبنية النحوية ملمحًا سادسًا؛ فقد اعتاد على أن يختم شرح كل بيت بإعراب أهم ما جاء فيه من وجوه إعرابية. أما عن الملمح السابع فهو إيراده بعضَ الملاحظات البلاغية التي جاءت بشكل طفيف. ويأتي إيراده بعض الملاحظات العروضية العابرة ملمحًا ثامنًا وأخيرًا.
ابن النحاس (ت 338 هـ) والمنهج اللغوي الخاصّ
يكاد يتفق ابن النحاس مع المسلك العام الذي سلكه ابن الأنباري من قبل، ولكنَّ أهم ما يميز شرحه أنه مثّل البعد اللغوي خالصًا من أي شائبة؛ فابن النحاس في مقدمة شرحه يسجل على السابقين من أهل اللغة أنهم كانوا يكثرون من غريب الشعر، وأنهم يغفلون كذلك لطيف ما فيه من نحو؛ لذا جاءت خطته تنحصر في اختصار غريب هذه القصائد، واستقصاء أكثر ما فيه من نحو، وعدم الإكثار من الشواهد والأنساب.
جاء شرح ابن النحاس عبارة عن دروس وآراء متفرقة لعلوم النحو مطبقًا على الشعر. إن ابن النحاس كان واضحًا على سبيل المثال في دخوله المباشر على شرح القصائد دون الوقوف على مقدمات من أي نوع، ودون إكثار من الأخبار في ثنايا شرحه نفسه، وهذا ما يميزه عن ابن الأنباري. وقبل أن ننتقل عنه تنبغي الإشارة إلى أن اهتمامه باللغة لا ينفي تعرضه لشرح معنى الشعر، وتقديمه ملاحظات جيدة، ومن شرحه استمد من جاء بعده. [8]
الزُّوزَنِي (ت 486 هـ) ونظراته الفنية
استطاع الزوزني صهرَ كل المعلومات المهمة، ساكبًا إياها في شرحه المختصر؛ فكان خير من مثل الانتقاء والتوازن والقدرة على التعبير عما في هذه القصائد.
إن أهم ما يميز هذا الشرح هو تلك النظرة الفنية التي لم تخرج عن إطار الفهم اللغوي، ولكنها جاءت في سياقه. وعندما نقول النظرة الفنية؛ فإننا نقصد النظر إلى النص الشعري على أنه فن، وأن شرحه هو الأساس، أما العلوم الأخرى فهي معينة ومساعدة، والاقتراب منها يكون بقدر الحاجة.
جمع الزوزني في شرحه بين محاسن أصحاب المنهج اللغوي مختارًا ومختصرًا، وحصر فهمه في النص الفني وبيانه، واحتفظ بالتوازن المطلوب يين المعارف التي يقدمها؛ فظل النص الشعري هو البارز دائمًا أمام المُتَلَقِّي.
وهو في شرحه للمفردات تشعر بهذا الإحساس الفني الرفيع؛ فيبدأ شرحه بتفسير المفردات ذات الدلالة المعينة أو التي لها صعوبة خاصة مع الاكتفاء بالقليل وما يؤدي المعنى؛ فيعطي اللفظ حقه ويحدد اتجاهه داخل البيت مع ربطه بالسياق العام، ولا نجده يتوقف طويلًا عند الألفاظ إلا إذا دفعته الضرورة إلى ذلك. جاء تعامله إذن تعاملَ من يريد الوصول إلى فهم البيت والإحاطة بما يريد الشاعرُ قولَه.
أما شرحه للمعاني؛ فنراه لا ينثر البيت نثرًا بسيطًا كما كان يفعل الشراح قبله، ولكنه يضفي على شرحه للمعاني لمسات فنية محاولًا التعبير بأقل الكلمات وأكثرها نفاذًا عما يريد الشاعرُ قولَه وإيصاله للناس. وهو في استشهاداته لا يورد إلا ما يتعلق بالبيت تعلقًا مباشرًا، وكذلك نراه لا يهمل هنا إيراد الملاحظات البلاغية؛ فهو يتابع الأسلوب البلاغيَّ العام للنص؛ فيستخدم ما اصطلح عليه النقاد من حديث عن فنون البلاغة داخل هذه القصائد؛ مما أكسب شرحه صبغة فنية، وهذا يمكن تلمسه في مواقع كثيرة من شرحه.[9]
المعلقات: نظرات نقدية
لم تخلُ أنظار القدماء من توجهات نقدية نالت تلك القصائد الجاهلية حظًّا منها، وكانت نظراتهم النقدية تتراوح بين نقد التفسير الشعري الذي اتبعته التقاليد العربية، أو نقد يطال النص الشعري نفسه.
ومن أمثلة النقد التفسيري ما جاء به ابن طباطبا في “عيار الشعر” من ضرورة الإحاطة بالبيئة التي قيل فيها هذا الشعر؛ فنحن لا يمكن أن نفهم النص الشعري دون الإحاطة بالإطار الزمني الذي وقع فيه، والمجتمع الذي تشكل فيه وتقاليده وسننه.
ومن أمثلة نقد النص الشعري نفسه ما كان يتحاور به القدماء حول نص معين ما بين مجيز مستسيغ، وآخر مخطئ، وثالث يبحث عن التوفيق بين هذه النظرات.
ومن أهم ما وصلنا من نقد طال النص الشعري نفسه نقد الباقلاني لمعلقة امرئ القيس في كتابه “إعجاز القرآن“. وانحصر نقده في جانبين هما: نقد المعنى، ونقد اللفظ والشكل الفني الذي جاء عليه.
أما نقد المعنى؛ فعاب أن بعض أبياتها لا تنحو نحو الكمال، وإنما كانت ناقصة المعنى، وأنها لم تخل من تناقض صريح، وأنها تجانب الصحة في بعض جوانبها، هذا غير أنها احتوت على معانٍ خلقية ممجوجة.
أما ما يتعلق بقضايا اللفظ والشكل الفني؛ فعاب على الشاعر استخدام الوحشي من الكلام دون طائل، وتفاوت النسج بين الوحشية والسهولة، بل جاءت بعض ألفاظها تجانب السلامة اللغوية، هذا غير تفكك القصيدة من جهة وحدتها الفنية داخل البيت الواحد، وموقع البيت أو الأبيات من القصيدة ككل.[10]
العصر الحديث بين قديمه وجديده
في العصر الحديث اتجه اهتمام أصحاب حركة الإحياء إلى الشعر الجاهلي، ووجد فيها أصحابُ التعليم والنظرة المدرسية مجالًا لنفض الغبار عن دراساتهم، وقد اتجه إليها أيضًا أصحاب النظرة الجديدة يقذفون حولها بذرتهم لتكسب مشروعية القبول؛ فكان أصحاب النظرة الذوقية التأثرية، وكان أصحاب النظرة الجمالية، وكان النفسيون، وغيرهم. وهنا سنلمح سريعًا إلى اتجاهين سادا عند دارسي مرحلة الإحياء، وهما: الشروح التعليمية، والنظرات الذوقية.
الشروح التعليمية المعاصرة
لا يخرج أصحاب النظرة التعليمية عن شروح القدماء وما قرروه في العصور الأولى، ومن هذه الشروح شرح النعساني المسمى “نهاية الأرب في شرح معلقات العرب“، والناظر في شرحه يدرك أنه لم يخرج عن حدود المأثور من المعلومات المتناثرة حول هذه القصائد المشهورة، ويبرز فيها الهدف التعليمي والطريقة التلفيقية التي اتبعها التبريزي والجواليقي قبل ذلك.
ولا ينفرد النعساني بذلك؛ فنحن نجد الاتجاه نفسه عند الشنقيطي في “شرح المعلقات العشر وأخبار رجالها“، والغلاييني في “رجال المعلقات العشر“.
تطورت جهود الباحثين فيما بعد واكتسبت ملامح جديدة، ومن الدراسات الحديثة التي اهتمت بالمنهج التعليمي مع الاستفادة من تطور الدراسات الأدبية، دراسة بدوي طبانة في كتابه “معلقات العرب: دراسة نقدية تاريخية“.
يبدأ بدوي كتابه بمناقشة قضية التعليق، ثم يدير حوارًا حول الشعر الجاهلي، ثم يعرض سيرة الشعراء كما وردت في المصادر القديمة.
يبدأ شرحه بإجمال أغراض القصيدة نثرًا مع بعض الملاحظات التوثيقية، ثم يورد أبيات كل قصيدة. لا ينتقل بدوي بعد ذلك إلى دراسة كل معلقة دراسة تفصيلية كما عهدنا، ولكنه يحاول تقديم ما تضمنته من معان بصورة كلية، جامعًا معلوماته من مجموع هذه القصائد. ومما يميز هذه الدراسة طغيان الجانب التاريخي والاجتماعي على الجانب الفني.
جاءت دراسة بكري شيخ أمين في كتابه “المعلقات السبع” مستفيدة مما وصلت إليه دراسات الأدب العربي في نهاية هذا القرن، راصدًا أبرز التيارات النقدية مع الحفاظ بالسمة التعليمية.
يمهد بكري بمقدمة يتحدث فيها عن خطوط حياة الشاعر الرئيسة، ثم يتعرض لأبيات المعلقة بأقسامها الرئيسة، ويبدأ شرح الأبيات المختارة بتركيز لعناصر المعنى في القصيدة، ثم يعرض الأبيات مُصَدِّرًا كل قسم بعنوان يمثل المحور الرئيسي فيه، ومن ثم يسوق المعنى نثرًا.
ومن الملامح الجيدة في هذا الكتاب استفادته بالدراسات الصوتية الحديثة وأثر البنية اللغوية الصوتية في المعنى، بل ويحاول الاستفادة من الدراسات النفسية كذلك لفهم دلالة الأبيات.
النظرة الذوقية: طه حسين نموذجًا
يدخل أصحاب النظرة الذوقية إلى حياض النص بنفس مستجيبة متأثرة محاولين مشاركة الشاعر نفسه مشاعره ومراده؛ فالنفس هنا واعية، ولكنها منفعلة طائعة للمؤثر الفني، ومن ثم تحاول نقل ما أحسته إلى المستمع والقارئ دون الوقوف أو دون الاهتمام بالتعليل كثيرًا.
ولعل طه حسين يكون أقرب الدارسين العرب المعاصرين إلى تمثيل هذا المنهج الذوقي (انظر كتابه: “حديث الأربعاء” على سبيل المثال). يُجسِّدُ طه حسين المنهج النقدي الذوقي الذي يعتد بالمنهج العلمي في توثيق النص لغويًّا وتاريخيًّا، وهو في الوقت نفسه ملم بثقافة عصره وعلومه مع ما استقر في أعماقه من آثار المنهج القديم. يستخدم طه حسين كل هذه الأدوات في تعامله مع النصوص الشعرية؛ فهو يتموَّجُ مع النص تموُّجَ مُسْتَجيب له.
نظرات فلسفية
حاول بعضُ المُحْدَثِين تطبيق النظرات الجديدة في النقد الحديث، وقد كان أصحابُ المذهب الجماليّ الذين يعنون بالشعر من حيث هو تركيب لغوي يحفه التفكير الأسطوري من أكثر الناس اقترابًا من هذا الشعر الذي وفر لهم فرصة نادرة للتطبيق.
مصطفى ناصف ونظرته الاستطيقية
يعد مصطفى ناصف أهم من مثَّل هذا الاتجاه في مجال دراسة النصوص القديمة، وقد عرض لطريقته في كتابين هما: “دراسة الأدب العربي“، و”قراءة ثانية لشعرنا القديم“. اهتم في الكتاب الأول ببيان الخط النظري لفكرته الجمالية، وحاول تطبيقها في كتابه الثاني على الشعر العربي القديم.
يرى ناصف ضرورة تحرير النص الأدبي من نفس صاحبه، وألا نهتم كثيرًا بأخبار صاحبه، بل ينبغي التوجه بدلًا من ذلك إلى التحليل اللغوي الاستطيقي الذي يجعلنا ننفتح على النص انفتاحًا جديدًا ونقرؤه قراءات فيها نوع من الإبداع. إن القصيدة من وجهة نظر الكاتب لا وجود لها بمعزل عما تعنيه لي -كقارئ- ولك.
يرى سليمان الشطي أن النظرة الجمالية تحمل في طياتها ثراء طيبًا يفتح أبوابًا جديدة لفهم الشعر، ولكنها تبعدنا عن روح النص ومراد الشاعر إبعادًا حقيقيًّا، وتسلك بنا سلوكًا خياليًّا مفرطًا يؤدي بنا إلى أفكار غائمة يمكن أن يستخدمها كل باحث ذو خيال خصب، ويبقى النص الفني بعد ذلك لا ندرك ما يخصصه ويميزه.
يوسف اليوسف والنظرة النفسية
أخضع يوسف اليوسف المعلقات وقصائد جاهلية أخرى للدراسة النفسية في كتابيه: “مقالات في الشعر الجاهلي“، و”بحوث في المعلقات“.
قام يوسف اليوسف بتحليل المعلقات على أنها نتاج البدائية، وأن الحقبة الجاهلية تجسيد للبدائية العربية التي وصلتنا عنها نصوص مكتوبة. إن الجاهلية في وجهة نظره تكشف عن الأنسنة وبدايات الوعي المتحضر الذي يتجاوز المرحلة الوحشية من مراحل التطور البشري.
بذل يوسف اليوسف جهدًا ملحوظًا في دراسته هذه التي حفلت بملاحظات وانتباهات تفصيلية تثري نظر الناظر إلى هذه القصائد. لكن، يرى سليمان الشطي أنه قد تعلق منهجيًّا بمعطيات مجلوبة مفروضة على النص من خلال استعارة مناهج تحتاج إلى جهد كبير للنظر.
كمال أبو ديب والنظرة البنيوية
تمثل دراسة كمال أبو ديب للشعر الجاهلي المسماة “الرؤى المقنعة: نحو منهج بنيوي في دراسة الشعر الجاهلي” أشهر الدراسات التي اتجهت إلى اختيار المنهج البنيوي لدراسة هذا الشعر.
يرى أبو ديب أن بنية القصيدة تتألف من وظائف تمثل وحدات مكونة له، ويؤدي ترتيب هذه الوظائف داخل القصيدة إلى خلق شبكة من العلاقات التي تميز تلك القصيدة عن غيرها، وأن عددًا من هذه الوظائف تشكل مزدوجات أو ثنائيات ضدية تشكل بنية النص الشعري، وبعد إدراك الناقد لهذه الوحدة التكوينية للنص عليه أن يحزم العلاقات بين هذه المزدوجات سواء كانت علاقات تشابهية أو ضدية. ينظر أبو ديب إلى النص الجاهلي إذن على أنه كيان واحد، وكل متواز على الدارس أن يفهمه.[11]
خاتمة
يقول سليمان الشطي:
تبقى بعد ذلك المعلقات نصًّا مفتوحًا غنيًّا تنجذب إليه عيون العصور المتعاقبة؛ فيقودها إلى مغامرة الرؤية في أغوار يتلألأ في داخلها عمقُ الإبداع[12].
[1] شرح المعلقات العشر الطوال المذهبات، ياسين الأيوبي – صلاح الدين الهواري، عالم الكتب، الطبعة الثانية 2009، ص 5. [2] المُفَصَّل في تاريخ الأدب العربي، أحمد الإسكندري - أحمد أمين - علي الجارم - عبد العزيز البشري - أحمد ضيف، مطبعة مصر، 1934، ص 48. [3] رجال المعلقات العشر، مصطفى الغلاييني، دار الكتاب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1414 هـ، ص 48. [4] رجال المعلقات العشر، مصطفى الغلاييني، دار الكتاب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1414 هـ، ص 47. [5] المعلقات وعيون العصور، سليمان الشطي، عالم المعرفة، عدد 380 سبتمبر 2011، ص 11 : 40. [6] المعلقات وعيون العصور، سليمان الشطي، عالم المعرفة، عدد 380 سبتمبر 2011، ص 41 : 68. [7] المعلقات وعيون العصور، سليمان الشطي، عالم المعرفة، عدد 380 سبتمبر 2011، ص 69 : 120. [8] المعلقات وعيون العصور، سليمان الشطي، عالم المعرفة، عدد 380 سبتمبر 2011، ص 121 : 192. [9] المعلقات وعيون العصور، سليمان الشطي، عالم المعرفة، عدد 380 سبتمبر 2011، ص193 : 234. [10] المعلقات وعيون العصور، سليمان الشطي، عالم المعرفة، عدد 380 سبتمبر 2011، ص 235 : 286. [11] المعلقات وعيون العصور، سليمان الشطي، عالم المعرفة، عدد 380 سبتمبر 2011، ص 287 : 354. [12] المعلقات وعيون العصور، سليمان الشطي، عالم المعرفة، عدد 380 سبتمبر 2011، ص 354.