موجز تاريخ امرئ القيس: الملك الضِّلِّيلُ الذي ماتَ دُونَ مُلْكِه
تمهيد
ذكروا أن امرأ القيس ولد على الأرجح سنة 560 من ميلاد المسيح، وهو من فحول شعراء الطبقة الأولى، ويتَّصل نسبه بملوك كندة. وهو أبو وهب أو أبو الحارث أو أبو زيد امرؤ القيس بن حُجُر بن الحارث بن عمرو بن حُجُر الكِندي. ومعلقته التي يقول في مطلعها: “قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ” من أجود ما قالتْه العرب إن لم تكن الأجود على الإطلاق.
يقول في معلَّقته المشهورة:
أَفَاطِمَ مَهْلًا، بَعْضَ هَذَا التَّدَلٌّلِ .:. وَإِنْ كُنْتِ قَدْ أَزْمَعْتِ صُرْمِي؛ فَأَجْمِلِي
وَإِنْ كُنْتِ قَدْ سَاءَتْكِ مِنِّي خَلِيقَةٌ؛ .:. فَسُلِّي ثِيَابِي مِنْ ثِيَابِكِ؛ تَنْسُلِ
أَغَرَّكِ مِنِّي أَنَّ حُبَّكِ قَاتِلي، .:. وأنَّكِ مَهْمَا تَأْمُرِي القَلْبَ يَفْعَلِ؟!
وَمَا ذَرَفَتْ عَيْنَاكِ إلا لِتَقْدَحِي .:. بِسَهْمَيْكِ فِي أَعْشَارِ قَلبٍ مٌقَتَّلِ!
يقول محمد أبو الفضل إبراهيم في شرح هذه الأبيات: “قوله: “بعض هذا التدلل” أي كُفِّي بعضَ تَدَلٌّلِكِ عني، وأَقِلِّي منه. ومعنى “أَزْمَعْتِ” عزمتِ وأجمعتِ، ومعنى قوله: “سلي ثيابي من ثيابك“، أي أخرجي أمري من أمرك، وقوله: “ذرفتْ” أي سال دمعها، وأراد بالسهمينِ العينين، والقدح: الخَرْق والتأثير في الشيء، والأعشار: القِطَع والكسور”.
ما قبل امرئ القيس
يُقال أنه لما تَسَافَهَتْ أبناءُ بكر بن وائل، وتقاطعت بسببهم الأرحام، ارتأى رؤساؤهم أن يُمَلِّكوا عليهم ملكًا يكون من غيرهم حتى يقبله الجميعُ، وحتى لا يرى أحد على أحد فضلا؛ فانتهى أمر بكر أن مَلَّكوا عليهم حُجُرًا -جد امرئ القيس- الذي سدَّد أمرهم، وأحسن سياستَهُم.
مات حُجُر وخلفه ابنُه عمرو بن حجر، وأُقْعِدَ على كرسي أبيه كرها؛ فسُمِّيَ بالمقصورِ لذلك. وجاء ابنُه الحارثُ خلفًا لعمرو، وكان شديد المُلك، بعيد الصيت.
حاولَ الحارثُ التقرُّبَ من الأكاسرة؛ تدعيمًا لمُلكه الذي ضعف بسبب فتح الأحباش اليمن، وكان الحارثُ يحسد المنذرَ بن ماء السماء عامل الحيرة؛ لمنزلته من كسرى قَبَّاذ؛ ملك الفرس.
وكان قد ظهر في أيام قَبَّاذ هذا رجل يُدعى مَزْدك؛ يدعو الناسَ إلى مذهب ديني قريب من الشيوعيَّة. دخل ملك الفرس في دعوته، ومن ثَمَّ دعا المنذر لقبول دعوة مزدك؛ فأَبَى، ودعا الحارث إلى مثل ذلك؛ فقَبِلَ.
من أجل ذلك شَدَّد قباذ مُلكَ الحارث ودعَّمه وقرَّبَه. لم يدُمِ الحالُ كثيرا؛ فمات قباذ وجاء من بعده كسرى أنوشروان ملكا على الفرس، وكان شديد البغض لمزدك ومذهبه؛ فقتله وأهانه، وتتبع الزنادقة من أتباعه قتلًا وتشريدًا.
استغلَّ المنذرُ فرصتَه؛ فأقبل على أنوشروان؛ فاستعمله وقرَّبَه، ولم يلبث أن طلبَ الحارث بن عمرو الذي تابع أباه على الزندقة؛ فهرب، فلم يكن من أمره إلا أن خرج في طلبه مجموعة من بني تغلب؛ فأدركوه وقتلوه.
فَرَّقَ الحارث بن عمرو المُلْكَ في أولاده قبل موته؛ فمَلَّكَ حُجْرًا أبا امرئ القيس على بني أسد وغَطَفَان. أثقل حجر بن الحارث بني أسد وغطفان بإتاوة فرضها عليهم وألزمهم إياها؛ فضجروا منه، ولما علموا بنكبة أبيه ومقتله طمعوا فيه وتجرؤوا عليه؛ فأظهروا العصيان وامتنعوا عن دفع الإتاوة، وكانوا يضربون رسله ويؤذونهم.
سار إليهم حجر بجنده لما بلغه أمرهم، وجعل يضربهم بالعصا ويؤدبهم؛ فسُمُّوا عبيد العصا لذلك. ورغم استقامة الأمر لحجر في ظاهر الأمر إلا أنهم هجموا عليه؛ فلم يسلم منهم حتى طعنوه دون أن يُجْهِزُوا عليه؛ فكتب حجر وصيَّتَه إلى رجل، وأخبره أن ينطلق بها إلى أولاده، ويدفعها إلى أكثرا جلدا وأبعدهم عن الجزع.
قد يعجبك: نظرة مُحَلِّقَة فوق المُعَلَّقَات الجاهلية عبر العُصُور المُتَتَابِعَة
امرؤ القيس آخذًا بثأره
فَلَوْ أَنَّمَا أَسْعَى لِأَدْنَى مَعِيشَةٍ .:. كَفَانِي -وَلَمْ أَطْلُبْ- قَلِيلٌ مِنَ المَالِ
وَلَكِنَّمَا أَسْعَى لِمَجْدٍ مُؤَثَّلٍ، .:. وَقَدْ يُدْرِكُ المَجْدَ المُؤَثَّلَ أَمْثَالِي
-امرؤ القيس
يقول محمد أبو الفضل إبراهيم: “[قوله]: “فلو أنما أسعى لأدنى معيشة“، أي لو كان سَعْيِي لأقرب معيشة وأدناها لكفاني قليل من المال، ولم أطلبِ المُلْكَ، و”المُؤَثَّل“: المُثْمِرُ الذي له أصل، وهو الكثير أيضًا”.
سرى الرجل بوصية حجر بين أبنائه؛ فتتابعوا جزعا حتى أتى امرأ القيس وهو مع نديم له يشرب الخمر ويلاعبه بالنرد؛ فلما أخبره بخبر أبيه شمَّر عن ساعده وأقسم ليأخذن بثأره قائلا: “ضيَّعَني صغيرًا، وحمَّلني دمه كبيرًا“. ومعنى تضييع حجر ابنه امرأ القيس أنه كان كثير التشبيب في النساء والتغزل بهن؛ فساء حجر ذلك؛ فنهاه فلم ينتهِ، فأبعده وطرده؛ فما زال هائما على وجهه حتى بلغه مقتلُ أبيه؛ فانتهى.
يذكر غازي طليمات وعرفان الأشقر في كتابهما (الأدب الجاهلي) “أنَّ من أشهر أقواله التي ذهبتْ مذهبَ الأمثال قوله بعد مصرع أبيه: “اليوم خَمْرٌ، وغَدًا أَمْرٌ“، ومن أبياتِه التي اتَّخذتْ شكل الحِكَم، وارتبطتْ بتجربته في طلب المُلكِ، قوله في المرارة التي يُحِسُّها الإنسان بعد تَعَاقُبِ الخيبة والإخفاق كأنه يموت مرة بعد مرة: فَلَوْ أَنَّهَا نَفْسٌ تَمُوتُ جَمِيعَةً .:. وَلَكِنَّها نَفْسٌ تَسَاقَطُ أَنْفُسَا“.
قدم على امرئ القيس بعد مقتل أبيه رجال من بني أسد يصالحونه ويساومونه؛ فخرج عليهم امرؤ القيس في عمامة سوداء، وكانت العرب لا تعتمُّ بالسواد إلا لإظهار العداوة والحقد، وأعلن رفضه مصالحتهم قائلا: “لا كُفؤَ لحُجُر في دم“. ثم ارتحل امرؤ القيس بعد ذلك مُسْتَجِيرًا القبائل، مستنجدا ببكر وتغلب؛ فأجابوه.
خرج امرؤ القيس بجيش يطلب بني أسد الذين كانوا قد لجأوا إلى بني كنانة ثم ارتحلوا ليلا. جاء امرؤ القيس بني كنانة؛ فأعمل فيهم القتل إلى أن علم بفرار بني أسد في الليل؛ فخرج على إثرهم طلبا لهم وقد تقطعتْ خيله وقطعَ العطشُ أعناق رجاله؛ فانفضوا من حوله.
لم يمر وقت كثير حتى أمَدَّ كسرى أنوشروان المنذر بن ماء السماء بجيش جعل يُسَرِّحهم في طلب امرئ القيس. بقي شاعرنا هاربا، في حل وترحال، ينتقل من قبيلة إلى أخرى، ومن بطن إلى بطن، حتى انتهى به الحالُ إلى رجل من بني فَزَارَةَ، دله هذا الرجل على السموأل؛ فنزل عليه وأكرم وفادته.
قيصر وامرؤ القيس
بَكَى صَاحِبِي لَمَّا رَأَى الدَّرْبَ دُوْنَهُ، .:. وَأَيْقَنَ أَنَّا لَاحِقَانِ بِقَيْصَرَا
فَقُلْتُ لَهُ: لَا تَبْكِ عَيْنُكَ إِنَّمَا .:. نُحَاوِلُ مُلْكًا، أَوْ نَمُوتَ؛ فَنُعْذَرَا
-امرؤ القيس
يقول محمد أبو الفضل إبراهيم: “صاحبه هذا هو عمرو بن قميئة اليشكريّ، وكان قد مَرَّ [امرؤ القيس] ببني يَشْكُرَ في سَيْرِه إلى قيصر؛ فَسَألهم: هل فيهم شاعر؟ فذكروا له عمرو بن قميئة اليشكري؛ فدعاه، ثم استنشده؛ فأنشده وأعجب؛ فاستصحبه، فأجابه إلى صحبته؛ فيقول: لما صحبني وجاوزنا بلاد العرب واتصلنا ببلاد الروم وأيقن عمرو بن قميئة أنا لاحقان بقيصر حَنَّ إلى بلاده؛ فبكى، والدرب: ما بين بلاد العرب والعجم، [و]قوله: “فقلتُ له: لا تبك عينك“، إنما يصف أنه سَلَّاهُ عن البكاء بأن يصبر على ما يجد حتى يدركان ما يطلبان من المُلك بالوصول إلى قيصر والرجوع إلى قتال بني أسد، إلا أن يحولَ الموتُ دون ذلك؛ فيكون لهما العذرُ؛ إذْ لم يُقَصِّرَا في الطلب”.
طلب امرؤ القيس من السموألِ أن يكتب إلى أحدهم بالشام ليُوصِلَه بقيصر؛ فأجابه إلى ذلك. مضى امرؤ القيس إلى قيصر ومعه عمرو بن قميئة الشاعر؛ فلما كان عند قيصر قَبِلَه وأكرمه. قالوا أنَّ امرأ القيس رأى ابنة الملك فشغفها وشغفته حبا دون علم أبيها.
أمد الملك امرأ القيس بجيش عظيم؛ فلما مضى بمن معه وشى بامرئ القيس رجل من بني أسد وأخبره ما كان من أمر امرئ القيس وابنته، وأنه قائلٌ فيها شعرا لا محالة؛ فأرسل الملك بسبب ذلك حُلَّة مسمومة منسوجة بالذهب إلى امرئ القيس؛ ففرح بها فرحا عظيما، واشتد سروره؛ فلبسها من فوره حتى سرى السم في جسده، وتساقط جلده، ولذلك سُمِّيَ بِذي القروح. لم يعش شاعرنا كثيرا بعد ذلك، لكن أدركه الموت وهو في أنقرة، ودُفِنَ في سفح جبل يُقَالُ له عسيب.
نرشح لك: الشعر الجاهلي قَيْدَ المُحَاكَمَة: كيف كان يرى طه حسين شِعْرَ الجَاهِليِِّين؟!
المصادر: - رجال المعلقات العشر، مصطفى الغلاييني، دار الكتاب الإسلامي، الطبعة الثالثة 1414 هـ. - ديوان امرئ القيس، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، الطبعة الخامسة. - الأدب الجاهلي (قضاياه - أغراضه - أعلامه - فنونه)، غازي طليمات - عرفان الأشقر، دار الفكر، الطبعة الخامسة 2011.