ماذا كان يقصد فريدريك نيتشه حين أعلن موت الإله؟ (1)
(جزء 1)

سارع الأخرق إلى وسطهم واخترقهم بنظراته، أين الإله؟ صاح فيهم أنا سأقول لكم، لقد قتلناه، أنتم وأنا، نحن كلّنا هم قتَلَتُه، ولكن كيف فعلنا ذلك؟ كيف استطعنا أن نفرغ البحر؟ من أعطانا الإسفنجة لمحو الأفق كله؟ ماذا فعلنا بإبعادنا لهذه الأرض عن شمسها؟
-فريدريك نيتشه (1)
لا يوّد نيتشه* من خلال كلامه أن يقول لكم أنّه ملحد، فقد هاتف بهذا في كثيرٍ من كتاباته كتلك التي كانت في كتابه الأخير حين اعتبر الإلحاد طبيعة الإنسان منذ ميلاده. كما لا يُفهَم من هذا الأمر أنّه مؤمن به مثلما زعم روي جاكسون* أن نيتشه كان مؤمنًا بالإله ومتأثرًا أشد التأثر بالروح المسيحيّة التي تنشد الخلاص.
إنَّ موت الإله ليس بالضرورة موته الكلي الذي يلغيه بشكلٍ مطلق، بل بدايات موته الذي يجب أن يتأسَّس على بدايات أخرى، لكن لأجل ميلاد آلهة جديدة يجسّدها الإنسان أو روح جديدة للعالم يقودها العقل، أو بعبارة أخرى ميلاد الإنسان الأرقى، الإنسان المفعم بالصحة والاقتدار الذي بشَّر به نيتشه. وفي هذا العرض الآتي لمقالنا الأول ثلاثة مفاهيم أوليّة تأتي بعدها الثلاثة الأخرى في المقال الثاني شارحة موت الإله، والتي يجدر بكل قارئ أن يأخذها بعين الاعتبار فكل محاولة للفهم هي قدرة، وكل فهم هو نمو للقدرة.
إنّ أفلاطون نفسه يتسم بأنّه أوّل هجين كبير. إنّ نظريته حول المثل تجمع عناصر سقراطيّة وفيتاغوريّة وهيراقليطيّة لذلك فهو لا يمثل نموذجًا صافيًا.
-فريدريك نيتشه (2)
موت الأفلاطونية
لقد أعلى أفلاطون* في فلسفته من منزلة العقل فهو الجوهر الثابت والكلي والواحد والحقيقي، و أينما كانت هذه المسميّات والمفاهيم موجودة، فيوجد بالتالي ما هو متغيّر وجزئي ومتعدّد المظهر وزائف وكل هذا يمثله الجسد الذي يجب على العقل أن يتجبر عليه. إنّ العقل، والنفس، وعالم المعقولات، والأفكار، والمثل، والحقائق يقابل الجسد والمادة وعالم المحسوسات والظواهر والأشياء. هذا العالم الأخير الذي يعتبر مخادعًا إذْ يقدم لنا الحقيقة الكاملة وإنما فضلات فقط ندعوها حقيقة، كما أنّه مجرد محاكاة وظلال للعالم الأصلي الأوّل.
لقد فصّل أفلاطون إذن الكون إلى عالمين: عالمنا نحن الذي نعيشه حيث المعرفة الحسّيّة فقط بالحواس والناقصة والمعرضة للخطأ حيث يوجد الجسد الدنس الذي هو مجرد سجن يسجن نفوسنا. وعالم المعرفة العقلية والحقيقية الكاملة الذي هو الكل والوجود.
بالنسبة لنيتشه فإنّ أفلاطون كان شابًا نبيلًا من عائلة نبيلة، كذلك شخص جميل ورقيق مفعم بالصحة والغرائز عكس أستاذه سقراط* الوضيع نسبًا وصحةً وشكلًا، لقد كان أفلاطون يحب الفنون والتراجيديا والشعر إلا أنه تغير بسبب عدة عوامل، منها الاحتكاك بسقراط الذي كان من بين الأسباب التي جعلت أفلاطون يسلك هذا الطريق عند التعلّم منه.
يقول نيتشه: يمكن لنا أن نتساءل باعتبارنا أطباء عمن قام بنقل العدوى لأفلاطون هل هو سقراط القبيح؟ هل كان بالفعل بإمكان سقراط أن يكون مفسد الشباب؟ هل يستحق كأس السم؟(3)
إعلان
لقد أصاب سقراط أفلاطونَ بالعدوى بواسطة فلسفته التي تُمَجِّد الفضائل العقلية وتجعل من الحقيقة ثابتة وتجادل السفسطائيين: أفلاطون، الذي كان سيسلك طريقًا عكس سقراط لو لم يقابله، غير أنّ أفلاطون بسبب هذه العدوى أبدع فلسفة هجينة اعتنقت عدة فلسفات متنوعة، خاصة ما تعلّمه من سقراط، الشيء الذي خلق أضرارًا بالغة على الفلسفة الإغريقيّة، والفكر العالمي بأكمله حسب ما رآه نيتشه.
إنّ أسئلة أفلاطون من قبيل “ما هو الشيء؟” يذهب مباشرة إلى اعتبار أنّ الشيء موجود في ذاته، ولديه جوهر وهذا خاطئ لأنه مجرد سؤال ميتافيزيقيّ يؤدي أيضا إلى الإنفصال عن الواقع. فسؤال نيتشه الذي يجب أن يطرح بدله هو ” ما هو هذا الشيء بالنسبة لي؟ “ أو “بالنسبة لغيري”، كذلك السؤال عن “من؟” هو سؤال جوهري عكس السؤال الحقيقيّ الذي يجب أن يكون عن “ما” أي السؤال عن إرادة ما (4) لأنّ جميع قيمنا متغيرة. إنّ أفلاطون بذلك قد رسخ مفهوم الجوهر والثبات في الشيء والحقيقة.
كما احتقر عالمنا، وراح يركض وراء عالم باطنيّ مزيَّف ابتدعه حيث وجب على الإنسان أن يصل إليه عن طريق قهر وإماتة الجسد والاستخفاف بالعالم، فمن منظور نستشه فأفلاطون يحتقر الفن والتراجيديا والجسد. وإذا كان عالمنا هو تقليد لعالم المثل كما يعدّه فيلسوفنا الإغريقي فإنّ الفن هو تقليد لعالمنا وبالتالي هو تقليد التقليد الذي يضع مسافتين عن عالم المثل.
فكل ما هو مزيّف وشر ونقص هو في عالمنا، أما الخير والسعادة الحقيقة فتصدر من العالم الباطنيّ والفضيلة التي أساسها العقل الذي بدوره من عالم المعقولات، وقد سار العالم بعده بنفس الطريقة الثنائيّة التي انتهجها أفلاطون، فكبح غرائزه وجسده وهجر الفن الحقيقي المعبر عن الحياة؛ والقوة؛ والصحة، وظل هكذا لقرون متبنيًا رؤية تسخيفية للعالم المادي غير أنه الآن قد تغير ذلك بشكل كبير، العالم الأفلاطوني قد انتهى بشكله العام مع صعود وازدهار العلوم التجريبيّة والفكر النقديّ والأسئلة الجريئة ولو بشكل غير كلي سنراه لاحقًا، إنّ الإله الأفلاطوني قد مات في ثوبه الثنائي هذا.
وبذلك فإنّ الإله ليس تعبيرًا عن موت إله حقيقي أو حتى إلحاد لنيتشه بل “في الحقيقة أنّ هذه الكلمة أو الجملة موجهة إلى أفلاطون، بالتدقيق صاحب فكرة العالم المثالي الميتافيزيقيّ أو ما فوق الحسّيّ فالإله هو اسم لميدان الأفكار وهو اسم كذلك لموقع الفلاسفة المثاليّين”.(5)
إنًَ المثاليون الذين بدأوا منذ سقراط وأفلاطون إلى كانت* وهيغل* يضعون المعرفة في يد العقل فقط أو يدعون لأخلاق كونيّة وروح مطلقة ومدن فاضلة مزيّفة، حيثوأنّ المثالية في فهم نيتشه هي من الأشياء الغريبة على طبيعته كما ادعى.
إنّ الأفلاطونية قد مهدت لتقسيم العالم ولمثالية إيمانويل كانت التي جعلت من الأخلاق مرتبطة بعالم الأشياء في ذاتها وإبعادها عن عالم الظواهر وهي بذلك مجرد ميتافيزيقيا، ففكر أفلاطون هو “تهيئة لا تقدر للمثالية الكانتية”.(6) وعبارة الإله قد مات يجب أن تحل محلها أيضا المثالية قد ماتت كما اقترح ذلك يوجين فينك*.(7)
إنّ عبارة مات الإله إذن ما هي إلا تكريس لتحطيم عالم المثل الأفلاطوني ولفكر مثالي ومتعالي يؤوّل العالم على نحو خرافي على حساب الجسد، ووجودنا الحقيقي الذي ينبغي أن نلتفت إليه ونهتم به مثلما اعتاد عليه العالم الإغريقي قبل مجيء سقراط وأفلاطون.
إنّ المفهوم المسيحيّ لله، الله كإله المرضى، الله الرتيلاء، الله كروح، هو واحد من المفاهيم الأكثر فساد لله مما توصل إليه على وجه الأرض.
-فريدريك نيتشه (8)
موت المسيحية
لقد ذكرنا سابقًا أنّ الأفلاطونية في سبيل توضيحها لحقيقة الوجود قد مهدَّت الطريق إلى تقسيم كل شيء إلى نصفين أيّ عالمين، وإلى ثنائيات متضادة من المعرفة والأخلاق والمفاهيم، كما مهدَّت للمثالية الكانطية، غير أنّ الأفلاطونيّة وقبل أن تفعل فعلها الأخير -أي فرشها البساط للمثالية الكانطيّة- قد قامت قبلًا بتوجيه نفس الهدف إلى المسيحية.
وإن أكّدنا على موت الإله حسب نيتشه: “فإننا بالضرورة نؤكد على موت الأفلاطونية لأنَّ أفلاطون هو أكبر فيلسوف هيأ الأرضية لقيام الديانة المسيحية”. (9)
فلا يوجد أيّ تعارض بين العبارتين: عالم المثل والإله المسيحيّ؛ لأن المسيحيّة في العالم امتداد للأفلاطونية.
إنّ المسيحيّة مثلها مثل الأفلاطونيّة تحتقر الغرائز والجسد والحواس، وتقدم لنا عالمًا مزيفًا قائمًا على الركام الأفلاطوني الثنائي المتضاد. وهي علاوة على ذلك تجعل الشفقة من الفضائل وتقهر الإنسان الذي يجب أن يكون أرقى وتعترض طريقه، كما تتصف بأخلاق الحقد والمحبة العمياء والأمل الذي يبعدنا عن الواقع مثلما يدعًي في كتابها نقيض المسيح.
يكتب نيتشه في كتابه هذا هو الإنسان: كنت أول من رأى التضاد الحقيقيّ: الغرائز المنحلة التي تعمل بحقدها السّري الدفين على محاربة الحياة، المسيحيّة، فلسفة شوبنهاور وحتى فلسفة أفلاطون بمعنى محدد، المثالية في مجملها. (10)
إنّ المسيحيّة إذن هي نسخة من الأفلاطونية والنظرة المثالية للعالم والتاريخ، وإذا كان العالم الأفلاطوني قد سقط فإنّها كذلك تسقط، بأخلاقها التي تُمَجِّد البتولية وتسخف من الجسد وتنفي الحياة وتحلم بعالم لم ولن يوجد مثلها في ذلك مثل الأفلاطونيّة وكل ألوهياتها التي جعلتها مصدر وجود الإنسان الذي لا ينفصل عنها.
يرى نيتشه أنّ المسيحيّة قد خفت سحرها في عدة أوقات، فقد كانت هناك شخصيات سياسية أو فكرية قد ظهرت وأرادت إلغاءها أو قلب تعاليمها رأسًا على عقب خاصة أثناء عصر النهضة غير أنّ هناك من تصدى للأمر وسارع بإصلاح المسيحيّة بغرائه اللاهوتي قبل تمزقها وموتها. فهل يمكن أن نأمل مستقبلًا ظهور شخصيات جديدة بل شعوب تلغيها؟
صحيح أنّ نيتشه يصرّح بأنّ الأوروبيين لا يزالون يحتفظون بإيمانهم في الإله من دون أن يبتدعوا إله ثاني على مدار 2000 سنة. غير أن هذا الإله المسيحي اليوم قد شرع في التلاشي، فهو لا يعود كما كان مسيطرًا ومتسلطًا، إنّه يموت أو يمكن أنّه قد مات فعلًا وبقيت آثار أقدامه فقط التي يجب منا عدم تعقبها بل طمسها للأبد مستقبلًا.
ويزعم نيتشه في كتاب نقيض المسيح، أنّ العالم المعاصر، راح يقوم بتصنيف الإنسان في منزلة الحيوان، بعد أن كان يربطه مع الإله كما كانت المسيحيّة تفعل، كذلك ما عدنا نراه ولا يجب أن نراه مركز العالم كما كان قبلًا، أو صاحب إرادة حرة كما يوجد في المسيحيّة، أضف إلى ذلك، سيطرة العدمية على العالم إذْ نفت الإله المسيحي وهاجمته. ورغم أنّه لا يزال علينا فعل الكثير لنفيه بشكل كلي حسبه.
وإليكم هذا النص الذي وضعه الفيلسوف دولوز* وهو يفسر هذه العبارة على نحو موت الإله اليهوديّ والمسيحيّ كآخر شيء.
“يفسر دولوز معاني موت الإله كالتالي أولا: تشير العبارة في نظره إلى قتل الإله اليهوديّ لابنه ليصير مستقلاً بمعنى أن الوعي اليهودي يقتل الإله المتمثل في شخص الابن، ثانيا يموت الإله ليأخذ الابن مكانه ويصير إلها”. (11)
فالله اليهودي مات على الصليب وحل محله إله من نوع ثاني عالمي لجميع الأمم ليس اليهود وحدهم، هذا الإله الذي يقوم بطمأنة البشر وعدم تخويفهم من القديم ماداموا يتحلّون بروح المحبة التي في نظر دولوز مجرد حب للحياة النافية ضد الغرائز.
ويواصل دولوز القول: “المعنى الثالث هو من تصور القديس بولس مفاده أنّ الآب لا يقتل ابنه لجعله مستقلًا بل لأجلنا نحن، أي أنّه يصلبه حبًا فينا لذلك نتجاوب نحن مع هذه التضحية عندما نحس أنّنا نحن المذنبون وبالتالي ليس الابن من يقتل أباه ولا الأب من يقتل ابنه بل إنّ الأب هو من يموت في الابن ويحيا ضمن أبيه لأجلنا وبسببنا”. (12)
فقتل الإله إذن هو ذنب عظيم، نحن مذنبون به ونتيجة لذلك علينا التكفير عن هذه الخطيئة عن طريق ما توصي به المسيحيّة، تلك المحبة والحقد على الغرائز الذي يراها نيتشه فيها. وبسبب هذا، يدعي دولوز أنّ بولس كان من أكثر المساهمين في موت الإله وتصدير حياة خالية من المعنى عبر جهاده المسيحي ذلك وتبشيره بموته وقيامته.
لقد تغيّر إذن كل ما ألفناه من حياة عاشها الإله بكل غرور وتجبر، وهو يدوس فوقنا نحن التابعين، وما عادت ألاعيبه المسيحيّة تجدي نفعًا، صحيح أن الكثيرين لا يزالون يؤمنون به حيثما يجدونه في طيّات فلسفات ومذاهب معينة معتقدين أنهم بعيدون عن جثته الإلهيّة التي تفوح بالميتافيزيقيا والثنائيات المتضادة، غير أن كل شيء قد تغير فالعالم اليوم يبشّر بموته.
كل من يريد أن يكون مبدعًا في الخير والشر، عليه أن يكون أولًا مدمرًا وأن يحطم القيم.
-فريدريك نيتشه (13)
موت القيم
تعرَف فلسفة نيتشه بفلسفة قلب كل القيّم كما أنها نقد لمركزية العقل وتجبُّره على الجسد وحيازته للسلطة حيث يعرف باللاعقلاني. لكن أي قيم يريد نيتشه قلبها؟
تلك القيم التي تأسست من بواعث الدين، واللاهوت، واللغة الإنحيازية، والعقل المركزي، والأفلاطونيّة، أي قيم الميتافيزيقيا الثابتة والواحدة التي لا تقبل الصيرورة والتعدد، وهذه بالذات هي ما يريد نيتشه قلبها واستبدالها. وبهذا فقد اختص في الجينيولوجيا التي توغلت لاجتثاث حقائقها وتشكّلاتها الأولى مثل البحث عن كيفية تشكل الشرّ والخير، والمدّنس والمقدّس، وما إلى ذلك من مفاهيم تفصل العالم أو تمنح له أصولًا تراها إلهيّة، وما هي في الواقع محض ابتكارات بشرية وجب علينا أن نتتبع آثارها في التاريخ.
لقد ظلت نفس القيم السابقة حتى بعد الثورة الفرنسيّة وعصر التنوير والفلسفات والنزعات العقلانية والإنسانوية التي تنقد الإله لكن تتحاشى الفرار من مفاهيمه، أو قيمه المستوردة من الدين. بالتالي ظل الابن حاضرًا فيها.
وهي بحسب اعتقاد نيتشه قدّمت نفسها على أساس خادش للإله على نحو خجول ولم تكن جريئة في ذلك. فقامت باستبدال الإيمان بالعقل والإرادة الإلهيّة بالإرادة الحرّة والأمر القطعي بدل الأمر الإلهي. فكان الأمر مثل إله جديد لا يختلف عن الآخر أو إلهان، ففي هذه الفلسفات ثمة مركز يدور حولهم الإنسان دومًا مثل العقل أو الإرادة أو الضمير الأخلاقي أو الحريّة والقانون والروح. كما أن الإنسان فيها هو صاحب اليقين والحقيقة. وما كل ذلك حسب فيلسوفنا سوى مجرد أصنام جديدة تشتتنا.
لذلك نجده يحاول “الخروج من تلك الثنائيّة من خلال إعلانه موت الإله والنتيجة أنّ المركز ذاته قد تلاشى.. وما قام به نيتشه أنه قتل الإله من أجل إحياء العالم”. (14)
فالعالم كان متمركزًا على الإله بطرق غير مباشرة، وإذا ما تم قتل الإله فستُقتل تلك القيم كذلك، ووجب أن تأتي قيم بديلة تحل محلها؛ قيّم تجسد إرادة الاقتدار والصحة والقوة والإثبات، قيم تستمد نفسها من الحياة لا العالم الآخر الإلهي أو العقلي البحت.
لقد نظر نيتشه في القيم بوصفها مجرد اختراعات تاريخيّة وبدايات حيث تتبعها بالجينيولوجيا التي اقتفت آثارها تاريخيًا في كل المجالات، كما قرأ لصديقه بول ري الذي كان من الأوائل الذين رأوا فيها مجرد تاريخ ينبغي تتبع نشأته. يقول نيتشه: “الحق أنّ الناس قد أعطوا أنفسهم خيرهم وشرهم، والحق أنهم لم يتلقوه ولم يجدوه ولم يهبط عليهم من السماء”. (15) ناهيك أنه يعتبر أنّ القيّم نسبيّة وبذلك فتغييرها محتمل.
يعتقد نيتشه بأنّ هناك قيّم تعبر عن التعدّد والاختلاف بدل الواحدية، وقيّم تتميز بالصيرورة بدل الثبات، وقيم تتميّز بالوقوف مع الأقليّة بدل الأكثرية؛ وقيم تتميّز باللامركزية بدل المركزية، وقيم تتميز باللاعقلانية بدل العقلانية، وقيم تتميز باللاهوية بدل الهوية، وقيم تتميز بالكثرة والعفوية بدل التخطيط والوحدة. فالعالم حسبه هو صيرورة وتغيّر ونسبيات كذلك. وما رآه في الديانات والفلسفات السابقة مجرد كذب حول ثبات ووحدة وجوهر مزورين، فالفلاسفة تحلّوا بالروح اللاهوتية التي لم يستطيعوا التنصّل منها مثل إيمانويل كانت كمثال بدل أن يفصلوا فكرهم عنها.
لقد عثر نيتشه على حقيقة التربية في مجتمعنا الحالي التي يكون الهدف فيها يسير فقط نحو حفظ البقاء والتكيّف والاهتمام بمنفعة المجتمع بنفس الطرق التي كانت سائدة قديمًا، معتقدين أنّ في ذلك ارتقاء وهو ليس ارتقاء. ويذكر في نقيض المسيح، بأنه قد وُجدِت قيم حقيقية في عدة مراحل سبقت عصرنا مع أنها قديمة، ومجرّد صدف غير مخطّط لها، فليس بالضرورة أن كل تقدّم هو ارتقاء، إنّ تقدمنا هذا نسبة لرؤيته مجرد فكرة حداثية زائفة والأوروبي اليوم -في فترة نيتشه- هو أقل تقدمًا من أوروبي عصر النهضة الذين أرادوا قلب قيم المسيحية بمجملها لولا تدخل مصلحين وفلاسفة لاهوتيين.
إنّ مجتمعنا يظنّ أنه كلما يحفظ بقائه ويتقدم فهذا الأصوب غير أن هذا خطأ، فهذا الارتقاء مجرد ارتقاء زمني لا غير لأنّ الارتقاء الحقيقي هو نقد الحاضر وتشخيصه كمريض يحتاج معالجة وفحصه وهو التفكير في المستقبل وما يمكن أن يؤسّس إليه لا عيش الحاضر المربوط بقيم ماضيه.
لم يقدّم نيتشة حقيقةً أو قيمًا يجب عليها الثبات، بل ترك الباب مفتوح لمن سيصنع هذه القيم ويكون طريق الإنسان الأرقى فتحدث لنا عن فلاسفة المستقبل في عدة مؤلفات تحت أسماء “الفيلسوف إنسان الغد، الفلاسفة الحقيقيون، الفلاسفة المقبلون”. (16)
إنّه بعد موت الإله يجب على فلاسفة الغد قلب كل القيم التي ألفناها من شفقة وتسامح ومساواة ونبذ الحس والعالم المادي وتثبيت الحقيقة في القوة، والتراتب الطبيعي، والاهتمام بالجسد، والعالم الوحيد الذي نملكه.
وهو يولي النسيان أهمية خاصة، لأنّ النسيان شرط ضروري في قلب القيّم، فالنسيان هي ملكة وقوة كما أنّه قطيعة مع الماضي ليس الماضي كليًا، فالحس التاريخي يجب أن يكون موجودًا دومًا في فلسفته، والبحث عن منشأ القيم المزيفة المحتقرة للعالم، بل القطيعة مع الماضي بوصفه كان حقيقة خالصة، ومع ذاكرته المليئة بالإلاهيّات، والأخلاقيّات، والفلسفات المختلطة باللاهوت وأخلاق الارتكاس، فعلى الإنسان أن ينسى الماضي وحتى الحاضر والتفكير في المستقبل فقط وفي نفس الوقت عليه أن ينسى حتى الزمن كله ويعيشه بعفويته. فما دمنا غير مقيدين باللغة والزمن فسوف نعيش دوما على النحو الذي يجب أن نعيشه. (17)
إنّ نيتشه إذن يعلن موت القيم نتيجة لموت إلهها الذي خلقها وابتدعها وقدّمها للبشر، حقائق جوهريّة غير نسبيّة لا تتبدل ولا يمكن التفكير في هدمها على الإطلاق، وما على الإنسان إلّا أن يصنع قيمه بنفسه لكن قيم من عالمنا هذا وليس عالم آخر حيث كلها اقتدار وصحة وحب للحياة، وتجنب الوقوع كذلك في أخطاء فلاسفة الأنوار كما تحدثنا عنهم.
شرح المفاهيم والمصطلحات:
روى جاكسون (تاريخ الميلاد غير متوفر): كاتب وأستاذ في فلسفة الدين وباحث إنجليزي اهتم بالثقافة الإسلامية، من كتبه: خمسون شخصية في الإسلام، نيتشه والإسلام.
فريدريك نيتشه [1844 – 1900]: فيلسوف ألماني وفيلولوجي؛ وموسيقي؛ وشاعر؛ ومؤلف، عني بدراسة الأخلاق والفن والجمال والميتافيزيقيا والقيم والتاريخ، مثل نقلة ثورية في الفلسفة سواء عن طريق أسلوبه أو منهجه، يعرف بعدة أفكار منها إرادة الاقتدار، قلب كل القيم، أخلاق السادة والعبيد، المعرفة والسلطة والحقيقة. الإنسان الأرقى.
أفلاطون [427 – 347 ق.م] : فيلسوف إغريقي، تلميذ سقراط وأستاذ أرسطو، من أشهر أعلام الفلسفة الإغريقية والميتافيزقيا، مؤسس مدرسة الأكاديمية معروف بمفاهيم مثل “عالم المثل”، ” العقل والفضيلة ، من أهم مؤلفاته: الجمهورية.
إيمانويل كانت [1724 – 1804]: فيلسوف أخلاقي ألماني من مؤلفاته المعروفة: نقد العقل الخالص، تأسيس ميتافيزقيا الأخلاق، الدين في حدود مجرد العقل.
-جورج فيلهلم هيغل [1770 – 1831]: فيلسوف ألماني من أبرز أعلام المثالية، من أول المؤسسين لفلسفة التاريخ، تعتمد فلسفته على الجدلية، من أهم أعماله: فينومينولوجيا الروح، محاضرات في تاريخ الفلسفة.
– سقراط [470 – 399 ق.م]: فيلسوف إغريقي من أهم فلاسفة الفكر الغربي، كان أستاذ أفلاطون، حكم عليه بالانتحار جبريًا عن طريق تجرع السم، لم تصلنا منه مؤلفات.
يوجين فينك [ 1905 – 1975 ]: : فيلسوف ألماني تلميذ الفيلسوف هوسرل ، قدم حول نيتشه بعنوان : فلسفة نيتشه.
جيل دولوز [1925 – 1995]: فيلسوف فرنسي أبحر في عدة مجالات متنوعة في الفلسفة، كما كرس وقته لشرح فلسفة عدة فلاسفة، مثل: نيتشه وكانت وسبينوزا، من مؤلفاته: نيتشه، فلسفة كانت النقدية، سبينوزا.
نرشح لك: ماذا كان يقصد فريدريك نيتشه حين أعلن موت الإله ؟ (2)
المراجع: 1 - كلمات نيتشه الأساسية ضمن القراءة الهايدغرية، فوزية ضيف الله، منشورات الإختلاف منشورات ضفاف، ص:260، 261. 2 - نيتشه والإغريق، عبد الكريم عنيات، منشورات الإختلاف منشورات ضفاف، ص: 142. 3 - نفس المرجع السابق، ص: 123، 125 4 - نفس المرجع السابق، ص: 129، 130، 131. 5 - نفس المرجع السابق، ص: 134. 6 - نيتشه ومهمة الفلسفة، عبد الرزاق بلعقروز، منشورات الإختلاف منشورات ضفاف، ص: 134. 7 - نيتشه والإغريق، عبد الكريم عنيات، مرجع سابق، ص: 135. 8 - نقيض المسيح، منشورات الجمل، فريدريك نيتشه، ترجمة علي مصباح، ص: 48. 9 - نيتشه والإغريق، مرجع سابق، ص: 136. 10 - هذا هو الإنسان، منشورات الجمل، فريدريك نيتشه، ترجمة علي مصباح، ص: 81، 82. 11 - كلمات نيتشه الأساسية ضمن القراءة الهايدغرية، فوزية ضيف الله، مرجع سابق، ص: 259. 12 - مرجع سابق، ص264 13 - هذا هو الانسان، فريدريك نيتشه، مرجع سابق ص: 155. 14 - من موت الإله إلى موت المؤلف، بحث محكم، مؤمنون بلا حدود، بدر الدين مصطفى، ص: 6. 15 - نيتشه، هنداوي، فؤاد زكريا، ص: 55، 57. 16 - نيتشه والمستقبل، بحث محكم، مؤمنون بلا حدود، فوزية صيف الله، ص: 6. 17 - انظر: نفس المرجع السابق، ص: 18. - فوكو قارئا نيتشه، نور الدين الشابي، منشورات الإختلاف منشورات ضفاف، ص: 83.
إعلان