مفهوم الدولة عند كلٍ من أفلاطون وكارل ماركس

يعكس مفهوم الدولة تطورًا تاريخيًا معقدًا لا يمكن تجاهله، فهو ليس مجرد مفهوم سياسي بل هو المفهوم الذي تدور حوله كل المفاهيم الموجودة في حقل العلوم السياسية، فلا يمكننا الحديث عن الديموقراطية أو الحرية أو العدالة أو حتى الشعب بدون وجود الدولة حيث أنها الركيزة الأساسية لكل البنى المعرفية والاجتماعية المتعلقة بالتجمعات البشرية، كما أنه حتى وقتنا الحالي لم ينشأ مفهوم يوازي في قوته مفهوم الدولة القومية بشكلها الحالي فمثلًا مفهوم الأمة والعشيرة والقبيلة وغيرها من المفاهيم هي مفاهيم مغايرة ومختلفة بشكل كبير مع مفهوم الدولة القومية التي نعيش في كنفها الآن.
ولم يكن مفهوم الدولة بحديث النشأة فإن نظرنا إلى العصور المختلفة القديم منها والمعاصر سنجد حتمًا وبلا أدنى شك أن هناك شكل ما يعبر عن رمزية ذلك المفهوم وإن اختلف عن الشكل المعاصر للدولة القومية، فنرى مصر القديمة والحضارة الإغريقية واليونانية الاثينية منها والأسبارطية وغيرهم من الحضارات تحمل في طياتها أشكالًا تم الاستعانة بها فيما بعد بشكل أو بأخر لإنتاج الشكل المعاصر للمفهوم؛ حيث أن مفهوم الدولة القومية بشكله الحديث لم يظهر إلا بعد معاهدة وستفاليا في عام 1648 ذلك العام الذي كان ختامًا لسلسلة من الحروب بين الكنيسة الكاثوليكية والمذهب البروتستانتي سُميت فيما بعد بحرب الثلاثين عامًا، لذا فإن تلك الدماء التي راقت في تلك الحرب أضفت على المفهوم نوعًا من القدسية والتقدير مما كان سببًا رئيسيًا في محاولة العديد من المفكرين والفلاسفة تفسير مفهوم الدولة في حد ذاته وكيفية نشأته.
وسنكون معنيين في ورقتنا تلك باثنين من أهم مفكري التاريخ القديم والمعاصر وهما أفلاطون وكارل ماركس حيث سنرى كيف أثر السياق الفكري والواقعي عند كلًا منهما على منظوره وتحليله لمفهوم الدولة ثم سنرى كيف أخرجا ذلك المفهوم للعالم وما هي أوجه التشابه والاختلاف والنقد بينهما.
السياق الفكري والواقعي لكلًا من المفكرين
ولد أفلاطون في عام 427 قبل الميلاد في مدينة أثينا باليونان، وقد أنحدر من أسرة أثينية أرستقراطية عريقة فمن ناحية الأم فقد كان يمكن تتبع نسله وصولًا إلى سولون المشرع الأثيني العظيم ومن ناحية الأب فيمكن أن نرى وجود اثنين من أهم الشخصيات المرموقة آنذاك (1) – فدروس آخر ملوك أثينا وعمه كريتياس الذي ترأس مجلس الثلاثين الذي حكم أثينا بعد حرب البلوبونيز- (2) وبالحديث عن توجهاته الفكرية فوجود أفلاطون في أسرة معادية للديموقراطية جعله بطبيعة الحال متبنيًا لنفس الاتجاه، الأمر الذي تبلور مع تلمذته على يد معلمه سقراط؛ ويستدعي بنا الوقوف قليلًا عند تلك النقطة لما لها من أهمية في فهم فلسفة أفلاطون بعد ذلك، فقد تبنى أفلاطون العديد من المبادئ التي أتى بها معلمه وعلى رأسها أن الحياة عبارة عن فن وأن الفضيلة الحقيقية هي المعرفة وبالتالي فإن السياسة هي جزء من ذلك الفن وأن الممارسات السياسية يجب أن تمارس وفقًا لتلك المعرفة، تلك التي ليست موجودة في الجمعية الديمقراطية ذاتها أو حتى فيمن تعينهم بمحض الصدفة فقد رفض سقراط مبدأ الأعداد في الممارسة السياسية على أساس النسب – أي أنه كلما كثُر عدد من يتخذون القرار كان أقرب للصواب – ورأى أن تكون على أساس الحكمة.
أيضًا فقد كان أفلاطون على علم بعقيدة هيراقليطس التي تقول إن كل الأشياء الحسية في حالة من التغير الدائم ولا يمكن أن تكون موضوعات للمعرفة، (3) كما آمن أفلاطون بأن مكان الفيلسوف السياسي هو الكهف وهو تعبير خيالي قصد به أن يكون بعيدًا عن مقر السلطة السياسية ونتيجة لذلك فقد كرّس حياته للتعليم داخل أكاديميته التي أسسها بعد وفاة معلمه واستمر فيها بتدريس محاوراته التي بلغت حوالي الخمس وثلاثين محاورة جمعت ما بين آرائه الخاصة والتعاليم السقراطية التي حرص على ألّا تندثر بعد موت سقراط لذا فقد جعل الأكاديمية بعيدة عن كل الانتماءات السياسية قاصرة فقط على العلم وإنتاج الفلاسفة. (4)
إعلان
أما عن سياقه الواقعي، فقد عايش أفلاطون عديدًا من الأحداث التي كانت تمثل حجر الأساس في توجهاته الفكرية والتي سبق وأن عرضناها فبداية من ولادته من أسرة أرستقراطية معادية للديموقراطية وتعليمه على يد سقراط الذي كان يفضل أن يكون الحكم على أساس المعرفة مرورًا بإعدام سقراط بتهمة سب الآلهة الذي أثر فيه إلى حد تبنيه لفكرة أن يكون بمعزل عن مقر الحكم واتخاذه الحرص في كتاباته الأمر الذي تجلى بشكل كبير في كتاباته والتي كان أبرزها “الجمهورية” فقد استعان فيها برؤيته المعمارية في بناء صورة مثالية لدولة مثالية تتحقق فيها المثاليات العليا بطريقة غير مباشرة وقد عبرت الدكتورة حورية مجاهد في كتابها قائلة أن “الحوار في الجمهورية وإن بدأ سقراطيًا معبرًا عن آراء سقراط الخالصة، إلا أنه ينتهي أفلاطونيًا معبرًا عن آراء أفلاطون وطاقته الذهنية الضخمة”، (5) من العوامل المؤثرة أيضًا في فكر أفلاطون كان سفره إلى مصر حيث قدّر فكرة تقسيم العمل بين الطبقات وهو ما طبقه بعد ذلك واستفاد منه في جمهوريته، أيضًا فإن سفره لماجنا جريسيا (إيطاليا السفلى وصقلية) ورؤيته للفيلسوف السياسي كريتياس الذي اقترح عليه بعض السمات ليضيفها في الجمهورية كان من العوامل التي أخذ بها. (6)
أيضًا فإن محاولة أفلاطون لتحويل ديونيسيوس طاغية سيراكيوز إلى حاكم فيلسوف – والتي كان يأمل فيها بتطبيق أفكاره في الجمهورية إلى واقع عملي حيث تكون سيراكيوز نموذجًا لدولته المثالية – باءت بالفشل جعلته يتمسك أكثر بعزلته عن الواقع السياسي وإيمانه بعدم القدرة على تحويل الحكام المستبدين إلى فلاسفة، (7) أما عن معاصرته لحرب البلوبونيز وانهيار النظام الأثيني المتسم بالتحضر والمناخ الديموقراطي فقد جعله يعيد التفكير في الخلل الموجود في أثينا محاولًا إنشاء نموذج بديل وعلى الرغم من تأثر أفلاطون بمرارة الهزيمة أمام أسبرطة فقد أُعجب بنظامها العسكري مستعينًا به في دولته المثالية كما أتضح في الجمهورية.
وعليه فإن المناخ العام الفكري والواقعي الذي خالطه أفلاطون منذ ولادته كان مشجعًا له بدرجة كبيرة للهروب من الممارسات الواقعية ومقر السلطة إلى عالم المُثُل لينشأ بذلك يوتوبيا خاصة به واضعًا فيها النموذج الأمثل للحكم من وجهة نظره ومستعينًا به ليكون مرجعًا متسمًا بالكمال تُقارن به الأمثلة الموجودة في الواقع لنرى أيها أقرب لهذا المثال.
أما عن السياق الواقعي لكارل ماركس، فقد ولد كارل عام 1818 بمدينة Trier في بروسيا ولعل هذا كان أول احتكاك لماركس بالنموذج الرأسمالي فقد كانت المدينة في الجزء الجنوبي من إقليم الراين لاند Rhineland غرب نهر الراين، وقد كان من أكثر الأقاليم الألمانية توغلًا في التطور الرأسمالي، ولكنه وعلى شاكلة بقية الأقاليم الألمانية كان يعاني من التفاوت في استيعاب هذا التطور داخليًا، فبينما كان الشمال واصلًا لأقصى درجات التطور الصناعي على صعيد الدولة فقد كان الجنوب لا يزال معتمدًا بشكل أساسي على مقدرات الزراعة مما أدى إلى تكوين الطبقة الوسطى من بيروقراطية الدولة ورجال الدين العاملين في كنائسها وأديرتها العديدة والتجار التقليديين والمهنيين من مدرسين ومحامين وغيرهم، أما الطبقة الدنيا فقد توغل فيها القطاع الحرفي والخدمي المميز لعالم المدن قبل الرأسمالية فاشتملت في أركانها على الحلاقين وصانعي الأحذية وحائكي الملابس والخدم في المنازل الذين كانوا يمثلون هم فقط حوالي 10% من إجمالي سكان المدينة، وإذا ما نظرنا للطبقة ككل فسنجدها كانت تمثل 15% من إجمالي السكان في ترير؛ ولكن مع إلحاق الراينلاند ببروسيا في عام 1815 ومع تحول اقتصاد المدينة الذي كان معتمدًا على الزراعة إلى اتجاهات السوق الجديد بما فيه من منافسة خارجية وحواجز جمركية فقد تفشت البطالة في المدينة لتصل إلى حوالي 25% من إجمالي السكان بحلول عام 1830. (8)
أما التحاق مارك بمدرسة ترير الثانوية والتي كانت تسيطر عليه روح التنوير الليبرالية الأمر الذي كان من المداخل المؤثرة في فكره فقد خالط في هذه المدرسة أشكالًا من المعارضة الليبرالية كان مصدرها الطلاب المناهضين للسلطة السياسية في الدولة والجدير بالذكر أن أغلب طلاب تلك المدرسة كانوا من الطبقة الوسطى والفلاحين والحرفيين مما قد يفسر توجهاتهم التنويرية الليبرالية، وبالرغم من أن ماركس لم يشارك في أي من تلك النشاطات إلا أن مجرد احتكاكه بمثل ذلك النموذج جعله في مقام تحليل الأحداث وتفسير دلالاتها. (9)
ولعل التحاق ماركس بكلية الحقوق بجامعة بون في أكتوبر 1835 وانتقاله منها بعد عام واحد إلى جامعة برلين في أكتوبر 1836 – لسلوكياته غير الجادة حيث تم سجنه بتهمة السكر والإخلال بالسلم العام ومشاركته في الأنشطة الطلابية بغزارة عوضًا عن التعلّم مما زاد من إصرار والده على هذا الانتقال – (10) كان نقطة جوهرية في تشكيل الأفكار الماركسية التي نعرفها الآن مما يستدعي الوقوف والنظر إلى المؤثرات الفكرية التي اثرت على كارل ماركس في كامل حياته بداية من طفولته وصولًا إلى الحدث المفصلي المتمثل في الحاقه بجامعة برلين وما تلاها من إنتاج فكري ماركسي؛ فقد كانت المدرسة الفكرية الأولى التي اصطدم بها ماركس متمثلة في والده “هاينريش ماركس” حيث كان تأليهي تنويري وكانطي ليبرالي، يمزج بين الإعجاب بفولتير وروسو والقومية البروسية وتوقير الملك الفيلسوف فريدريك الأعظم (11) كما كان مؤمنًا بليبرالية القرن التاسع عشر حيث المساواة أمام القانون وحرية التعبير، ليبرالية أبوية ذات طابع بيروقراطي (12) أما المدرسة الفكرية الثانية التي تأثر بها ماركس فكانت خلال مرحلته الثانوية حيث ترسخت أكثر أفكاره التنويرية المستقاة من والده بفعل الروح التي كانت تهيمن على مدرسته في ترير حيث سيطرت عليها الليبرالية التنويرية المناهضة للسلطة السياسية والداعمة لأفكار الثورة الفرنسية فشهد المعارضات والأنشطة الطلابية والبيانات السياسية المعارضة مما جعله مناخًا ثريًا بالأفكار التي احتك بها ماركس في شبابه. (13)
وبانتقاله إلى جامعة بون فقد تعرًض ماركس لنوع جديد من المؤثرات وهي المؤثرات الرومانتيكية الألمانية التي وجدت مناخها المثالي مع التجربة العاطفية لماركس، لتظهر النزعة المثالية الرومانتيكية التي ظلت مسيطرة على كتاباته بعد انتقاله لجامعة برلين والتي ظل يصارعها إلى أن تنتهي مسيرته معها وتبدأ مسيرته إلى هيجل. (14)
مع انتقاله لجامعة برلين عاصر ماركس فترة مليئة بالزخم الفكري حيث الهيمنة الفكرية الهيجلية وقد تأثر كارل بمحاضرات Savigny و Gans القانونية التي حضرها في عامه الأول، كما شهد تطارح الأفكار بينهم فسافيني كان يرفع لواء المدرسة التاريخية للقانون وانطلق في طرحه من رؤيته العضوية للجماعة الاجتماعية فالجماعة أو الشعب هي تكوين تربطه روابط عضوية داخلية وبالتالي فتكاملها لا يُفسر على أسس عقلانية وإرادية تستهدف المنفعة والقانون هو جزء من هذا التكوين فهو في وجوده وتطوره يعبر عن روح الجماعة أو الشعب وهو ما يعني أنه صحيح لمجرد وجوده واستمراريته لأن في ذلك تعبير عن روح الشعب في حد ذاته، وعليه فيجب رفض فكرة القانون الطبيعي التي رفعتها فلسفة التنوير والثورة الفرنسية أمام القانون العرفي والواقع التاريخي. (15)
أما جانز على الجانب الأخر فقد فسّر التاريخ من وجهة نظره على أنه بمثابة عقلنة تدريجية للعالم وفقًا لقوانين الروح التي لا مفر منها؛ وكان الغرض الرئيسي من الفكر الفلسفي هو ملاحظة هذا التطور، حيث كان يُنظر إلى الواقع التجريبي على أنه يتوافق تدريجيًا مع العقل العالمي. (16) وعليه فقد انتقد تركيز سافيني الكامل على القانون الوضعي وإلباسه رداء المثالية الكاذبة بالحديث عن روح الشعب الذي أدى في النهاية إلى حد تقديس الضرورة العمياء وإعطاء الواقع المؤقت صفة الإطلاق وبالتالي فقد أخضع الحاضر للماضي مسبغًا على الأخير نظرة مثالية لاعقلانية وذلك على عكس رؤية جانز والتي تشير إلى أن الصحيح هو الإيمان بالنشاط الخلاق للروح في سعيها لتحقيق ذاتها وعقلنة العالم حيث في إطار تلك الفعالية الخلاقة يتطور القانون ويكتمل نموه. (17) وقد كان جانز يدافع عن نظرية الثورة الفرنسية مما أدى إلى تأثر ماركس بأفكاره وميولها لها لما فيها من اتساق مع تكوينه الفكري في تلك الفترة.
من خلال الطرح السابق للسياق الذي عايشه كارل ماركس نجد أنه منذ بداياته وقد تعرّض للمدارس الفكرية المختلفة والوقائع التي كانت مصدر أفكاره التي رأيناها بعد ذلك فبداية من تعرضه لمجتمع مثل ترير الذي جمع بين الطبقات المختلفة ومرورًا بأفكار والده التنويرية الليبرالية بالإضافة إلى نزعته الدينية التي تم اعتبارها مدرسته الفكرية الأولى لماركس والتي ترسخت مع دخوله المرحلة الثانوية وتفاعله السلبي المتمثل في التحليل فقط مع المعارضة ضد السلطة السياسية والمؤيدة للأفكار الثورية الفرنسية، وثم الانتقال إلى جامعة بون والتي استلهم منها ماركس نزعته الرومانتيكية التي ظهرت في أشعاره وكتاباته خلال تلك الفترة وما تلاها وصولًا إلى جامعة برلين حيث الفكر الهيجلي المهيمن الذي أُحيط به ماركس منذ دخوله ليشهد الانقسام بين تلامذة هيجل وظهور الصراعات الفكرية داخل المذهب الهيجلي نفسه فيما أسماه مع انجلز بعد ذلك “تفسخ الفلسفة الهيجلية” وقد كان ماركس من أشد المناقضين للفلسفة الهيجلية مع أنه كان من أشد المتأثرين بها ففي مرحلة معينة من حياته وجد نفسه وقد انساق للفكر الهيجلي متأثرًا به ومستعينًا به في فلسفته ولكن على الرغم من ذلك فإن تطور أفكار ماركس بعد ذلك سيجعله في مقام الانتقاد لتلك الأفكار طارحًا مكانها رؤية مختلفة بل ومعاكس لها كما أتضح من مؤلفاته الخاصة منها والتي اشترك فيها مع رفيق دربه فريدريك انجلز والتي كان أبرزها بيان الحزب الشيوعي وكتاب رأس المال.
مفهوم الدولة في رؤية كلًا من المفكرين
إن مفهوم الدولة عند أفلاطون يمكن استخراجه من مؤلفه “الجمهورية” فعلى مدار عشرة فصول (كتب) تناول أفلاطون عددًا من المفاهيم التي دارت جميعها داخل نطاق الدولة كما نظر هو إليها وكما تخيلها وإلا فالحديث عن أي شكل أخر غير الذي كان بصدد إنشاءه لا يكون حديثًا عن الدولة، بمعنى أخر فقد وصف أفلاطون الأشكال الأخرى خارج نطاق دولته بأنها ليست دول ولا يجوز التعبير عنها بأنها كذلك بل يمكن تسميتها بأي اسم أخر يكون أعم وأشمل في وصفه. (18)
في كتابه الجمهورية بدأ أفلاطون بالجدال حول مفهوم العدالة فدارت المحاورات حول ما هو التعريف الصحيح لها، ولكن مع صعوبة إدراك المفهوم على المستوى التحليل لدى الفرد انتقل أفلاطون لمستوى التحليل لدى الدولة حتى تتضح الصورة ويسهل التحليل حيث علل هذا الانتقال قائلًا لمحاوره “هب أن شخصًا قصير النظر طلب إليه أن يقرأ حروفًا صغيرة عن بُعد، ثم أنبأه شخص آخر بأن من الممكن الاهتداء إلى نفس هذه الحروف في مكان آخر بحجم أكبر، فلا شك في أنها تكون فرصة رائعة له لكي يبدأ بقراءة الحروف الكبيرة وينتقل منها إلى الصغيرة، ليرى إن كانت مماثلة للأولى أم لا”، (19) وقد كانت هذه هي الانطلاقة التي سيبدأ منها أفلاطون بناءه للدولة المثالية.
إن أساس الدولة في الرؤية الأفلاطونية هو الحاجة فهي تنشأ عن عجز الفرد عن الاكتفاء بذاته وحاجته إلى أشياء لا حصر لها، (20) وقد أطرد أفلاطون الحديث عن تعدد تلك الحاجات من مأكل ومسكن وملبس وغيرها وعن ماهية الأداء الأفضل لسدّها أيقوم الفرد بجميع الأعمال من زراعة وصناعة وبناء لكي يسد حاجاته الخاصة أم أنه من الأفضل أن تقوم الدولة على أساس تبادل المنفعة كل حسب حرفته فيقوم الزارع بزراعة ما يكفيه ويكفي كافة المواطنين الأخرون ويقوم صانع الأحذية بذات الأمر وهكذا دواليك في كل الحرف والمهن؟ وقد كان الشكل الأخير لسد هذه الاحتياجات هو الأفضل والأكثر منطقية، ولكن يجدر الإشارة إلى التفرقة بين نوعان من الدول في رؤية أفلاطون فهناك الدولة البسيطة التي هو بصدد إنشاءها حيث لا تزيد حاجاتها عما تستطيع هي بنفسها أن تسده وهناك الدولة المترفة التي وصفها بأنها دولة أصابتها العلة وشهوة التملك الجامحة فتندلع الحروب وتُثار الصراعات بين الدول وبعضها حيث إن تلك العلة هي أصل كل بلايا الدول والأفراد. (21)
ونتيجة لهذه البلية فستنشأ طبقة اجتماعية جديدة في المجتمع تكون هي محور اهتمام أفلاطون طوال محاوراته فهي الطبقة التي يحدد على أساسها وضع المواطن ومعدنه فإذا كان معدنه أقل من معادن ذويها فسيكون في الطبقة الأدنى وإن كان معدنه أفضل منها يرتقي إلى طبقة الفلاسفة وتلك الطبقة التي نحن بصدد الحديث عنها هي طبقة الحراس أما الطبقات الأخرى فهم طبقتا التجار والصناع أو يمكن إطلاق لفظة العامة عليهم وطبقة الفلاسفة الذين ارتقوا ليتم اختيار الحاكم من بينهم.
فقد كان هذا هو التركيب الطبقي الذي وضعه أفلاطون كَلَبَنة لدولته اليوتوبية فقسم النفس البشرية إلى ثلاثة أجزاء تتنازع فيما بينها حتى تسيطر إحداهما على الأُخرتين وتلك النزعات هي الشهوة أو كما أسماها اللذة والحكمة ومصدرها العقل ونزعة الغضب وعلى هذا الأساس فإن كل طبقة من الطبقات تميزها نزعة منهم فتمتاز طبقة الصناع بالنزوع نحو اللذة وحب التملك وتمتاز طبقة الحراس بنزعة الشجاعة والغضب أما من تتحكم عقولهم بأنفسهم فيصلون إلى الحكمة هم طبقة الحكام، كما قسّم أفلاطون الفضائل في الدولة إلى أربعة فضائل هم الحكمة والشجاعة والاعتدال والعدل، على أن صفة مثل الشجاعة والحكمة كانت تكفي لأن تكون في جزء واحد من أجزاء الدولة لتتصف الدولة بها أما الاعتدال فقد أكد ضرورة توغله في كافة الطبقات حتى يحدث التناغم والانسجام التام بين المواطنين، أما عن فضيلة العدالة وهي العلة الرئيسية لبناء أفلاطون لدولته المثالية فقد توصل إلي أن الدولة تكون عادلة إذا ما وضعت كل فرد في مكانه المناسب حيث قال “أعتقد أن الصفة التي تتيح لهذه الفضائل الثلاث التي عرضنا لها، أي الاعتدال والشجاعة والحكمة، أن تحتل مكانها في الدولة، وتضمن استمرارها ما دامت قائمة، لا بد أن تكون هي الصفة الباقية ونحن قد ذكرنا أن الفضيلة المتبقية، بعد اهتدائنا إلى الثلاث الأخريات، هي العدالة.” (22)
وأشار أفلاطون إلى وجود خمسة أنواع من النفس يقابلها خمسة أنواع من الحكومات على أنه رأى أن شكلًا واحدًا منها هو الشكل القويم والخيّر الذي رآه صالحًا وفقًا لدولته المثالية وهو الشكل الملكي أو الأرستقراطي للحكم شريطة أن يتمتع هؤلاء القادة سواء إذا ما كانوا مجموعة في النظام الارستقراطي أو فرد واحد في نظام الحكم الملكي بنظام التعليم والتهذيب الذي تم وضعه في تلك الدولة، على أن أي شكل آخر من أشكال الحكومات يعد ناقصًا وفاسدًا. (23)
كما قد اهتم أفلاطون بالتعليم والمساواة بين الرجل والمرأة في الأعمال والواجبات على أن أهم ما ميّز الدولة الأفلاطونية كان كيفية إعداد طبقة الحكام والذي أكّد على أنه لا يجب أن يرتقي إليها إلا الفلاسفة فوضع نظامًا تعليميًا يبدأ من سن العاشرة يتعلم فيه الأطفال من العلوم ما يرتقي بهم في سلم الطبقات فيصلون إلى طبقة الجند ليطرح أفلاطون مبدأ الشيوعية المطبق على أفرادها فيلغى التملك خاصة في النساء والأطفال أما الأموال فلا يجدون منها إلا ما يكفي ليظلوا أحياء فكل شيء مشاع بين الأصدقاء. (24)
ويلاحظ أن أفلاطون المثالي الذي حاول بناء دولة افتراضية مثالية لا يحده في بنائها ضابط أو مفروض إلا ما رآه هو الأصلح لها تحول في شيخوخته إلى إنزال تلك الدولة على أرض الواقع فكتب “القوانين” والذي تناول فيه التشريعات التي يجب أن تأخذ بها الدولة وأخفض من قواعده المثالية التي رأى أنها لا تناسب إلا الآلهة فلغى الشيوعية بين طبقة الحراس وهي أكثر ما تميزت به دولته، (25) كما انخرط في انشاء التشريعات والقوانين الضابطة للدولة وبين الأفراد وبعضهم فيمكننا أن نرى نسختان مختلفتان تمامًا من أفلاطون، في الجمهورية كان أفلاطون المثالي الذي أعجب بالنظام الأسبارطي وقرر أن ينشأ مشابه له قائمًا على العدالة وحكم طبقة الفلاسفة وتحقيق السعادة الجمعية عوضًا عن سعادة طبقة معينة من الطبقات والاهتمام بالنظام التعليمي كأساس لقيام الدولة الفاضلة كما كان أفلاطون من أوائل من تحدثوا عن المساواة بين الرجل والمرأة في الأعمال، أيضًا مع تقسيم النفس البشرية إلى أجزاء وفضائل تشبه فيما بينها أجزاء وفضائل الدولة فأفلاطون المثالي لم ير أي فروق جوهرية بين ما يجب أن يكون عليه المواطن وما يجب أن تقوم عليه الدولة فالاثنان يتمتعان بنفس مفهوم العدالة الذي توصل إليه، ولكن وجدنا بعد انتهاءه من بناء تلك الدولة أن أفلاطون لم يكن بصدد إنشاء دولة حقيقية على أرض الواقع ولكن إنشاء نموذج مثالي يتسم بالكمال تُقاس عليه الأنظمة الموجودة بالفعل فيكون كالمرجعية التي نبصر من خلالها أي تلك الأنظمة هو الأفضل والأقرب للكمال، وقد أشار إلى هذا ضمنيًا على لسان سقراط في محاورته مع أحد مجالسيه عندما سأله الأخير عن إمكانية تنفيذ أحد القواعد التي وضعها على أرض الواقع في كتابه الجمهورية قائلًا “دعني أسرح في الخيال قليلا، كما يفعل أولئك الكسالى الذين اعتادوا أن يسبحوا في أحلام اليقظة كلما ساروا على انفراد. فهؤلاء الناس لا يبحثون في الوسيلة المؤدية إلى تحقيق أية رغبة من رغباتهم، بل لا يعبئون بهذا الأمر قط، وإنما يخشون أن يصيبهم العناء إذا بحثوا في إمكان تحقيق ما يصبون إليه أو استحالته. فهم يتصورونه متحققًا، وبهذا وحده يُخيَّل إليهم أنهم قد امتلكوا كل شيء فتراهم يعددون ما سيفعلونه عندما ً تتحقق رغباتهم، ويزيدون بذلك أنفسهم خمولا فوق خمولها الطبيعي”. (26)
أما كارل ماركس فقد فسّر الدولة تفسيرًا مغايرًا تمامًا فإذا كان أفلاطون حاول بناء الدولة ووضع أسسها فإن ماركس وفقًا لتطور التاريخ عنده فإن إلغاء فكرة الدولة هي أكثر ما ميزت مرحلة الشيوعية.
لم ينظر كارل إلى الدولة ككيان مستقل أو محايد، بل كأداة تعكس البنية الاقتصادية للمجتمع وتخدم مصالح الطبقة الحاكمة. في كتابه “الأيديولوجية الألمانية” أكد ماركس أن الدولة هي انعكاس للبنية الاقتصادية والاجتماعية، وأنها تنشأ في كل مرة تظهر فيها انقسامات طبقية واضحة. هذه الفكرة تعني أن الدولة ليست كيانًا فوقيًّا أو مجرد أداة لإدارة الشؤون العامة، بل هي تجسيد للهيمنة الطبقية التي تنشأ عن التفاوت في ملكية وسائل الإنتاج. (27)
أيضًا فقد كانت الرؤية الماركسية للدولة تتمثل في أنها ظهرت كنتيجة للتطور الاقتصادي والاجتماعي عبر التاريخ. ففي المجتمعات البدائية، لم تكن هناك حاجة إلى الدولة لأن الموارد كانت مشتركة ولم يكن هناك استغلال طبقي. لكن مع ظهور الملكية الخاصة وتقسيم العمل، انقسم المجتمع إلى طبقات متعارضة: الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج وطبقة العمال؛ في هذا السياق أصبحت الدولة أداة تستخدمها الطبقة المالكة للحفاظ على هيمنتها وقمع أي محاولات للتمرد أو الثورة. وقد ظهر هذا الدور القمعي جليًا في الأنظمة الرأسمالية الحديثة، حيث تُستخدم الدولة لضمان استمرار الاستغلال الاقتصادي من خلال فرض القوانين وحماية الملكية الخاصة. (28) وقد أكد ماركس على هذا الدور للدولة في إعلانه لبيان الحزب الشيوعي الذي اشترك فيه مع انجلز واصفًا إياها بأنها “لجنة تدير الشؤون المشتركة للبرجوازية” (29) ويمكن تفسير ذلك التشبيه على أنه قد رأى أن الدولة لم تكن كيانًا محايدًا يخدم جميع الطبقات بشكل متساوٍ، بل إنها عملت بشكل أساسي لضمان استمرار سيطرة الطبقة البرجوازية على البروليتاريا؛ كما لم تقتصر تلك السيطرة فقط في استخدام العنف والقوة، بل أيضًا من خلال الأيديولوجيا التي تفرضها الدولة والمؤسسات المرتبطة بها، مثل التعليم والدين والقانون.
وقد اعتبر ماركس أن الدولة ليست أبدية، بل هي مرحلة تاريخية مؤقتة. في رؤيته للمستقبل، فقد توقع أن تختفي الدولة في ظل الشيوعية نتيجة لزوال الصراع الطبقي وتحقيق مجتمع لا طبقي. ففي هذا المجتمع، لن تكون هناك حاجة لوجود الدولة لأن الوظائف التي كانت تقوم بها، مثل قمع الطبقات المضطهدة أو حماية الملكية الخاصة، ستصبح بلا معنى وقد وصف انجلز تلك الظاهرة في كتابه الذي أتمه عن ماركس بعد وفاته قائلًا ” فالدولة إذن لم توجد منذ الأزل؛ فقد كانت هناك مجتمعات تسري بلا دولة وبلا سلطة. وعند مرحلة معينة من التطور الاقتصادي، وهي المرحلة التي رافقت تقسيم المجتمع إلى طبقات، أصبحت الدولة ضرورة طبقًا لهذا التقسيم. ونحن نقترب الآن من مرحلة من التطور الإنتاجي سيكون وجود الطبقات فيها غير ضروري، كما سيكون عائقً إيجابيٍّا للإنتاج؛ وهنا ستنتهي الطبقات بنفس الحتمية التي ظهرت بها في مرحلة سابقة، ومع انتهاء الطبقات ستنهي الدولة بالضروري. وسيضع المجتمع الذي سيُنظم الإنتاج على أسس من الاتحاد الحر والتساوي بين المنتجين، جهاز الدولة حيث يجب أن يكون حينئذ، في متحف الآثار بجانب العجلة والفأس البرونزي”. (30)
على الرغم من تركيز ماركس على الجانب الاقتصادي في تفسيره للدولة، إلا أنه لم يغفل دور العوامل السياسية والثقافية. ففي دراسته لثورة 1848 في فرنسا تناول العلاقة المعقدة بين الدولة والمجتمع المدني. حيث رأى أنها قد تلعب أحيانًا دورًا مستقلًا نسبيًا عندما تكون التناقضات الطبقية شديدة التعقيد لدرجة تجعلها وسيطًا بين المصالح المختلفة. لكن حتى في هذه الحالات، فإن الدولة في النهاية تعمل لصالح الطبقة المهيمنة اقتصاديًا، (31) وكما هو ملاحظ فإن رؤية ماركس للدولة تُعد جزءًا من نظريته العامة عن البنية الفوقية والبنية التحتية. حيث تشمل البنية التحتية العلاقات الاقتصادية ووسائل الإنتاج، بينما البنية الفوقية تشمل المؤسسات السياسية والقانونية والثقافية على أن البنية التحتية تحدد شكل البنية الفوقية. أي أن التغيرات في النظام الاقتصادي تؤدي إلى تغيرات في المؤسسات والأفكار. حيث الوجود الاجتماعي يمثل البناء التحتي الأساسي لوعي الأفراد باعتباره البناء الفوقي، (32) بمعنى أخر حتى تتضح الفكرة فإن وجود الفرد نفسه كشيء مادي يشكل البنية التحتية التي تمتلئ بالعمال والحرفيين ووسائل الإنتاج أما وعيه وثقافته فتشكل البنية الفوقية من المجتمع وبالتالي فإنه إن حدث أي تغيير في مادة الانسان نفسه أي في البنية التحتية فسيترتب عليه بالتبعية تغير في البنية الفوقية أي في وعيه وطريقة رؤيته للأشياء.
وقد كانت رؤية ماركس محورية أيضًا على صعيد تطور الفكر الاشتراكي لاحقًا. لينين، على سبيل المثال، استند إلى أفكار ماركس في كتابه “الدولة والثورة” (1917) لتطوير مفهوم “ديكتاتورية البروليتاريا”، وهو نظام انتقالي يستخدم فيه العمال الدولة كأداة لقمع الطبقة البرجوازية وتفكيك مؤسساتها. لكن هذا الاستخدام المؤقت للدولة يهدف في النهاية إلى تحقيق الشيوعية حيث تضمحل الدولة تمامًا. (33)
من خلال ذلك العرض الشبه مختصر لأفكار كلًا من المفكرين والسياق الذي أحاط كلًا منهما نستطيع الوقوف إلى بعض من أوجه الشبه والاختلاف بينهما، فقد انطلق كل منهما من نفس النقطة وهي البحث عن سُبُل تحقيق العدالة على أن تلك العدالة في جوهرها مختلفة عند كلًا منهما فأفلاطون يتحدث عن عدالة الفرد في تعامله مع أجزاء نفسه المختلفة ورضائه بطبقته التي حددتها له طبيعته البشرية على أن تكمن عدالة الدولة في وضع الفرد في المكان المناسب والملائم له، على الجانب الأخر فإن ماركس تناول العدالة الاقتصادية والاجتماعية في توزيع الموارد والمساواة بين الطبقات فلم يهتم بدور الدولة في هذا الشأن بل بالعكس فإن أسمى مراحل العدالة عند كارل ماركس تحدث في مرحلة الشيوعية حيث تُلغى الدولة بشكل نهائي لأنه لم تعد لها وظيفة في ظل التساوي التام بين الأفراد فقد كانت قبل ذلك أداة تستغلها الطبقة المهيمنة اقتصاديًا لإدارة شئونها وتحقيق مصالحها وهنا اختلاف صريح بين الرؤيتين الأفلاطونية والماركسية فبينما ألغى ماركس الدولة في أخر مراحل تطور التاريخ في منظوره ذهب أفلاطون إلى حد تقديس النموذج الذي حاول تخيله للدولة فبنى دولة مثالية ترعى حقوق الأفراد وتحقق لهم العدالة والخير على أن الغاية الأسمى عنده كانت تحقيق سعادة الجمع والذي تمثل في تلك الحالة في الدولة فتتحقق سعادة الدولة إذا ما تحققت فيها العدالة وتتحقق العدالة إذا ما تم وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، أما ماركس فاهتم بسعادة الأفراد خاصة طبقة العمال فعمل على تغيير الوضع والمناداة بثورة البروليتاريا حتى يصلوا لسدة الحكم فيحققوا المساواة ويلغوا الطبقية.
أما الاختلاف الثاني فيتمثل في الهدف وراء الحديث عن الدولة حقيقةً، فقد كان سعي أفلاطون في بناء جمهوريته ليس لإنزالها من كمالها وتطبيقها على أرض الواقع بل لبناء نموذج مثالي يتسم بالكمال وليس قريب منه، ليقوم على أساسه بتقييم الواقع وبحث أي من الأنظمة الموجودة هو أقرب لهذا النموذج المثالي فتكون هناك مرجعية تستطيع تلك الأنظمة الرجوع إليها وتقييم أنفسها من خلاله فتستطيع التحسين من جودتها به، على أن هناك بعض من القواعد التي وضعها أفلاطون قابلة للتنفيذ بالفعل كما تخيلها هو في تلك الأنظمة، أما ماركس فلم يهدف لبناء نموذج خيالي بعيد عما يتفاعل معه على أرض الواقع بل هدف إلى تحليل الأنظمة الموجودة والتفاعل معها بشكل مباشر ونقدها وتقديم الحلول والبدائل للخروج من قمعيتها فقدّم مع انجلز بيان الحزب الشيوعي الذي سعى من خلاله لتغيير الأوضاع القائمة والوصول حسب تحليله لمراحل تطور التاريخ إلى أعلى تلك المراحل حيث الشيوعية وإلغاء الطبقية تمامًا، وجدير بالذكر مدى اختلاف الشيوعية المقصودة بين كلا من المفكرين، فشيوعية أفلاطون كانت مقتصرة على طبقة معينة من الطبقات وهي الحراس ولم يكن المعني بها الشيوعية الاقتصادية التي عناها ماركس والتي تتمثل في إلغاء الطبقات والمساواة بين الجميع في الموارد والحقول ولكن شيوعية النساء والأطفال حيث كل شيء مشاع بين الأصدقاء.
وعلى الرغم من عدم واقعية أفلاطون في جمهوريته في البداية إلا أننا لا نستطيع أن ننكر مدى أصالة أفكاره في هذا العصر فقد قدم منظورًا جديدًا في تفسير الدولة ووظيفتها فطرح أفكارًا جديدة وبراقة ومختلفة حد الاختلاف لدرجة أنها على قدم ظهورها إلا أنها لازالت براقة وتستدعي التحليل إلى يومنا هذا أما ماركس فلم تكن أفكاره بالجديدة كليًا، صحيح أنها لفتت الأنظار إليها عندما طرحت ولكن تعزى تلك الأفكار إلى السياق الفكري الذي تأثر به كثيرًا حيث لم تكن فكرة الاشتراكية جديدة تمامًا عندما طرحها هو ولكنه قد استقاها من مفكرين آخرين أمثال فرانسيس بابيف وتوماس مور وسان سيمون وأوين حتى أن فكرة مراحل التطور التاريخي التي أخرجها ماركس كان قد تأثر فيها بالأفكار الهيجلية الخاصة بالجدلية والديالكتيك.
ومن أوجه التشابه بين أفلاطون وماركس اتفاقهما على النشأة الطبيعية للدولة فبينما أرجع أفلاطون سبب نشأة الدولة إلى الحاجات الإنسانية حيث يحتاج الأفراد إلى بعضهم البعض في سد حاجاتهم الإنسانية، فإن نشأة الدولة عند كارل ماركس جاءت في سياق تطور التاريخ نتيجة للتطور الاقتصادي والاجتماعي، فمع ظهور الملكية الخاصة وتقسيم العمل أصبحت أداة في يد الطبقات المهيمنة اقتصاديًا لإدارة شئونها المشتركة وتحقيق مصالحها.
ويُعاب على كل منهما الإفراط في التركيز على جانب من الجوانب دون الأخرين، فأفلاطون على سبيل المثال أهمل البُعد الاقتصادي ولم يوله اهتماما كبيرًا حيث اكتفى بمبدأي الشيوعية بين الحراس والتخصص وتقسيم العمل بين كافة المواطنين، وعلى النقيض الأخر فقد أفرط ماركس في الاهتمام بالبعد الاقتصادي في تحليله فاعتمد عليه في تحليل مراحل التاريخ وتقسيم الطبقات وأصبح العدسة التي ينظر من خلالها إلى كافة الموضوعات التي حللها، وقد انتقد أنطونيو جرامشي ذلك الإغراق ضمنيًا عندما أضاف بعدًا جديدًا لتحليل الدولة متمثلًا في الهيمنة الثقافية والأيديولوجية فقدّم مفهوم المجتمع المدني باعتباره ميدانًا أساسيًا للصراع الطبقي، حيث تلعب المؤسسات الثقافية دورًا في تعزيز أو تقويض هيمنة الطبقة الحاكمة.
الخلاصة
في إطار ذلك العرض تم بحث مفهوم الدولة لدى كل من أفلاطون وكارل ماركس حيث تم محاولة التعمق في السياق الفكري والواقعي لكل منهما لمعرفة من أين كانت مصادر الإلهام التي قادت لتلك التفسيرات لديهم وقد كانت خطوة هامة ساعدت في فهم الأفكار والتوجهات التي قدموا بها، أما عن مفهوم الدولة فقد تم عرض كيف كانت نظرة كلًا منهما إليها لنصل إلى استنتاج هام مفاده أنه بالرغم من أن نقطة الانطلاقة لدى الاثنان كانت واحدة وهي تحقيق العدالة، إلا أنه ثمة اختلاف جوهري في تعريف مفهوم العدالة لديهما وفي سبل تحقيقها وحتى في المنهج المستخدم في التحليل وقد انعكس ذلك في رؤيتهما المختلفة للتقسيم الطبقي في الدولة بل وفي رؤيتهما لجدوى وجود الدولة بالأساس، ولعل كل تلك الاختلافات الماثلة أمامنا كانت نتيجة لتشبّك المفهوم نفسه ومدى قابليته ليتم تحليله على أي مستوى أيًا كان فكما تم الإشارة في البداية فإن مفهوم مثل مفهوم الدولة ليس من السهل تحليله خاصة وأنه ترتبط به الكثير من المفاهيم في المجالات المختلفة مما يعني ارتباط الرؤية إلى تلك المفاهيم بكيفية الرؤية لمفهوم الدولة نفسه فإن تغيرت رؤيتنا لأي منهما تغيرت الرؤية للآخر بالتبعية.
قائمة المراجع:
المراجع العربية
1 – كارل ماركس، فريدريك أنجلز، الأيديولوجية الألمانية، فؤاد أيوب (مترجم)، دمشق، دار دمشق للنشر والتوزيع، 1976.
نسخة الاطلاع: https://bit.ly/49S9Tse
2 – كارل ماركس، فريدريك أنجلز، بيان الحزب الشيوعي، العفيف الأخضر (مترجم)، ألمانيا، منشورات الجمل، 2006.
نسخة الاطلاع: https://bit.ly/41M7bT7
3 – أفلاطون، الجمهورية، فؤاد زكريا (مترجم)، القاهرة، مؤسسة هنداوي، 2023.
نسخة للاطلاع: https://www.hindawi.org/books/30280728/
4 – أنطونيو جرامشي، كراسات السجن، عادل غنيم (مترجم)، القاهرة، دار المستقبل العربي، 1994.
نسخة للاطلاع: https://archive.org/details/political-00014/page/n3/mode/2up
5 – حورية مجاهد، الفكر السياسي من أفلاطون إلى محمد عبده، جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 2019.
نسخة للاطلاع: https://www.socioclub.net/2021/06/pdf_2.html
6 – فريدريك إنجلز، أصل نظام الأسرة والدولة والملكية الفردية، مؤسسة هنداوي (مترجم)، القاهرة، مؤسسة هنداوي، 2018.
نسخة الاطلاع: https://www.hindawi.org/books/86907157/
7 – نظرية الدولة عند كارل ماركس، محمد صلاح السعيد، رسالة دكتوراه، جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 1992.
نسخة للاطلاع مرفقة بمكتبة الكلية ومعنونة برقم (2475) في القسم الخاص بالرسائل العلمية.
المراجع الإنجليزية
1 – E. BARKER, M.A. THE Political Thought of Plato and Aristotle, New York: G. P. Putnam’s Sons; London: Methuen, Rutgers University Libraries, 1906. View Version: https://archive.org/details/politicalthought00bark
2 – Leszek Kołakowski, Main Currents of Marxism: The Founders, vol. 1, trans. P. S. Falla, Oxford: Clarendon Press, 1978. View Version: https://archive.org/details/MainCurrentsOfMarxismVol1TheFounders/page/n111/mode/2up
4 – THE EIGHTEENTH BRUMAIRE OF LOUIS BONAPARTE (1852), Karl Marx, Marxists, 7th chapter (conclusion), https://www.marxists.org/arabic/archive/marx/1852/ch07.htm
5 – V. I. LENIN, STATE AND REVOLUTION, NEW YORK, INTERNATIONAL PUBUSHERS, 1932. View Version: https://archive.org/details/state-and-revolution_202312
6 – Karl Marx’, Biography, Aug 08, 2023, https://www.biography.com/scholars-educators/karl-marx
1 – E. BARKER, M.A. THE Political Thought of Plato and Aristotle, (New York: G. P. Putnam’s Sons; London: Methuen, Rutgers University Libraries, 1906), P. 61.
2 – حورية مجاهد، الفكر السياسي من أفلاطون إلى محمد عبده، (جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 2019)، ص75
3 – E. BARKER, M.A. Op. Cit., P. 61.
4 – حورية مجاهد، مرجع سبق ذكره، ص77.
5 – المرجع السابق، ص76.
6 – E. BARKER, M.A. Op. Cit, P. 62.
7 – حورية مجاهد، مرجع سبق ذكره، ص 76.
8 – نظرية الدولة عند كارل ماركس، محمد صلاح السعيد (دكتوراه، جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 1992)، ص3.
9 المرجع السابق، ص5.
10 – ‘Karl Marx’, Biography, Aug 08, 2023, https://www.biography.com/scholars-educators/karl-marx
11 – المرجع السابق، ص4
12 – المرجع السابق، ص5
13 – المرجع السابق، ص5
14 – المرجع السابق، ص12
15 – Leszek Kołakowski, Main Currents of Marxism: The Founders, vol. 1, trans. P. S. Falla (Oxford: Clarendon Press, 1978), P. 97.
16 – Ibid, P. 96.
17 – محمد صلاح السعيد، مرجع سبق ذكره، ص13.
18 – أفلاطون، الجمهورية، فؤاد زكريا (مترجم)، (القاهرة، مؤسسة هنداوي، 2023)، ص 286 ، 287.
19 – المرجع السابق، ص222.
20 – المرجع السابق، ص223.
21 – المرجع السابق، ص228.
22 – المرجع السابق، ص300.
23 – المرجع السابق، ص315، 317.
24 – المرجع السابق، ص288.
25 – حورية مجاهد، مرجع سبق ذكره، ص100.
26 – أفلاطون، مرجع سبق ذكره، ص328.
27 – (كارل ماركس، فريدريك أنجلز)، الأيديولوجية الألمانية، فؤاد أيوب (مترجم)، (دمشق، دار دمشق للنشر والتوزيع، 1976)، ص86-87.
28 – المرجع السابق، ص86-87-88.
29 – (كارل ماركس، فريدريك أنجلز)، بيان الحزب الشيوعي، العفيف الأخضر (مترجم)، (ألمانيا، منشورات الجمل، 2006)، ص5.
30 – فريدريك إنجلز، أصل نظام الأسرة والدولة والملكية الفردية، مؤسسة هنداوي (مترجم)، (القاهرة، مؤسسة هنداوي، 2018)، ص134.
31 – THE EIGHTEENTH BRUMAIRE OF LOUIS BONAPARTE (1852), Karl Marx, Marxists, 7th chapter (conclusion), https://www.marxists.org/arabic/archive/marx/1852/ch07.htm
32 – حورية مجاهد، مرجع سبق ذكره، ص520.
33 – v. I. LENIN, STATE AND REVOLUTION, (NEW YORK, INTERNATIONAL PUBUSHERS, 1932), P. 21-22.
34 – أنطونيو جرامشي، كراسات السجن، عادل غنيم (مترجم)، (القاهرة، دار المستقبل العربي، 1994)، ص 27-28.
إعلان