مراجعة رواية الفيسكونت المشطور

في رواية الفيسكونت المشطور يأخذنا الكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو إلى حرب الفيسكونت ضد الأتراك، ويرصد لنا قلمه مظاهر الحرب والتي منها موت الجياد ثم الفرسان، وتحوُّل طيور اللقلق والبجع والنعام إلى طيور جارحة؛ فأضحت آكلة للحوم البشر؛ لأن المجاعات قضت على الأخضر واليابس والجفاف ضرب البلاد.
وقد اختفت جميع النسور والغربان. وظهر الطاعون الضارب للكل، الجثث الظاهرة والساقطة على التراب من أطراف، وأصابع، وسيقان. كل ذلك ليضعنا في قلب المعركة في قلب الحرب، ويتركنا مع الراوي ذلك الطفل الصغير صاحب الثماني سنوات فالبطل خاله وهو الفسكونت مداردو ذاك الذي شطر إثر اصابته في الحرب.
أيعقل أن يشطر إنسانا لنصفين متساويين، فلا يتبقى منه سوى ذراع واحد، قدم واحدة، عين، وأذن، ونصف ذقن، ونصف جبهة، أي لم يتبقى سوى نصفه الأيمن فقط.
وأين ذهب النصف الأيسر؟ وهل سيبقى مداردو الآن حيًا مشطورًا؟ وهل إن بقى مشطورًا هل سيظل كما هو كسابق عهده أم سيتغير وكيف؟ وإلى أين سيصل به التغيير؟ هل تغيرنا الحرب حقًا وتخرج أسوأ ما فينا أم نحن بالأصل كتل شريرة، ولسنا بحاجة إلى انشطار نصفي كي ننشر قوى الشر في العالم المحيط بنا؟ كل تلك الأسئلة تعصف بنا إن قرأنا رواية الفيسكونت المشطور وهي الجزء الأول من ثلاثية أسلافنا للكاتب الايطالي إيتالو كالفينو.

الفيسكونت المشطور وجانب الشر 

سنبدأ في تلخيص ما حدث مع مداردو عندما شطر وتبقى الأيمن فقط أما الأيسر فضاع أو دفن، فعندما عاد لبيته إثر إصابته أرسل له والده (أوليفر) طائرًا جميلًا كي يؤنس وحشته فقد عرف عنه ولعه الشديد بالطيور، غير أنَّ الطائر يشطره نصفين مما أدى إلى موت الأب حزنًا عليه، كما يتجلَّى الجانب الشرير في مداردو بعد انشطاره في شنقه لعدد كبير من الفلاحين، وتبريره بأنهم لم ينفذوا ما أمرهم به، إلى جانب اشعاله الحرائق في ممتلكات الفلاحين من الأراضي والشجر والغابة بأكملها، فحتى مدينة براتوفونجو تلك التي يسكنها مرضى الجذام لم تسلم من اشعاله بمنازلها بساكينيها لدرجة أن الجماجم سلخت من العذاب.
ولم يكتف بذلك بل امتد شر مداردو إلى ممتلكاته الخاصة حيث قصره فقد وصلت النيران لجناح الخدم حتى كادت تودي بحياة مربيته ومرضعته سباستينا التي لم تسلم هي الأخرى من شره وقسوته، ولم يتوقَّف الأمر على هذا بل أقصاها إلى براتوفونجو بحجة أن الجذام طالها، كما أمر بيتروكيودو بتزويد عدد المشانق والابتكار فيها
ذهب مداردو للهوغونيون وتعرف هناك على عيسو وحازقيال وعلى قبيلتهم التى هربت من فرنسا؛ بسبب بطش ونازية الحاكم الذي يقتلهم بسبب دياناتهم، لذلك فهم عانوا من العنصرية والعنف وعندما لاذوا بمدينة الفسكونت مداردو لم يجدوا سوى العنف والقسوة والأذية والشر؛ كرهوه كسائر أهالي المدينة، لكنهم أحسنوا ضيافته الأمر الذي جعله يعرض عليهم أن يكونوا حلفاؤه بدلا من الكاثوليكين الذين يتمنوا قتله لكنهم رفضوا.

“مداردو” الفيسكونت المشطور بين الخير والشر

قابل مداردو باميلا ووقع في حبها وتقدَّم لطلب يدها لكنها تكرهه ككل المدينة، ورغم قسوته وافتراءه وأذيته لكل الأهالي، الَّإ أننا سنفاجئ بمشاهدته يعطف على الفقراء والأرامل ويوصل الأطفال التائهين لبيوتهم، وفي إنقاذه لابن أخته الراوي من سم العنكبوت الأحمر وقرصه بدلا منه، ومشهد انقاذ الطبيب تريلاوني من الغرق، وستبدأ الحيرة في أمره أهو يحب الخير أم مخلوق شرير؟ فنفاجئ أنَّ من يفعل أعمال الخير هو نصف الفسكونت الأيسر الذي ضاع في الحرب أو هكذا هيئ لهم.
وهنا تبدأ نقطة جديدة تحول مسار الرواية النصفين يحبوا باميلا الطيب والشرير، وعلاوة على ذلك نحن نجد الفسكونت الطيب يبالغ في المثالية حتى يكره الناس أفعاله فإن كنت فاضلًا فالأجدى أن تمارس فضيلتك دون مبالغة، وعندما تمت زيجة الفسكونت الطيب من باميلا وشاط الفسكونت الشرير غضبًا وقرَّر قتله، وفى المبارزة أصاب كل منهما الآخر إصابة بالغة وتدخَّل على الفور الطبيب، وأعاد كل نصف لنصفه وأصبح في القصر جريح واحد، وهكذا عاد الفسكونت رجلًا كاملًا لم يعد جزء منه شريرًا والثاني طيبًا بل مزيجًا من الشر والخير، وهذا في الظاهر لا يختلف عما كان قبل أن يشطر، غير أنَّه أصبحت لديه خبرة كل نصف منهما مجتمعين معا.

أخيراً

ما زال اعجابي ليست الفكرة بحد ذاتها فالفكرة ليست بجديدة لأنَّ الصراع منذ قديم الأزل بين الخير والشر، ما فما نال اعجابي حقًا هو طريقة معالجة الكاتب للفكرة وتناولها بهذا الشكل، انشطار الخير عن الشر كل على حدة في نصف تفرَّق عن الآخر، وكيف يتألَّم كل نصف بعيدًا عن نصفه الثاني، فالألم له صور عديدة قد يكون منها القسوة غير مبرَّرة والأذى اللانهائي.
لقد طرحت الرواية في نفسي تساؤلًا هامًا، وهو ما الذي يشعر به الإنسان إذا أصبح نصف إنسان؟ كيف سيرى العالم وكيف سيتعامل مع الآخرين وماذا يشعر حينئذ حقًا؟ وكيف لم ننتبه إلى أننا جميعا كالفسكونت مشطورين نصفين كل منا يحوي نقائص العالم بداخله، وهذا في حد ذاته انشطار وانقسام معنوي ، فحتى إن وجدت المثالية أو الفضيلة التامة فسيتخلَّلها النقص، لأنها ستتحول لإكراه الآخرين على فعل الخير فتقابل بكراهية ونفور، لذلك أنا أعود لسؤالي ما معنى أن يكون المرء نصف انسان؟

إعلان

اترك تعليقا