مأساة أن تكون أنت هو أنت
قراءة انطباعية في مسرحية القرد كثيف الشعر.
بعدما انتهيت من مسرحية “القرد كثيف الشعر”، وجدت نفسي مأخوذًا ومفتونًا بفكرة واحدة! ومن خلال تمرير تلك الفكرة في عقلي، أصبحت قادرًا على كتابة مراجعة جيدة للمسرحية، وقبل أن نبدأ بتفكيك العمل، “ما كل هذه البساطة؟”؛ كيف استطاع “يوجين اونيل” أن يُحمِّل فكرة بسيطة بهذا القدر تلك الكمية المرعبة من الرمزيات والمعاني! لدي الكثير لأقوله، وكي نتمكن من قول كل شيء سنقسم المراجعة إلى أربع فقرات: في الأولى سنذهب في جولة سريعة للإلمام بالعمل كفكرة، وفي الفقرتين الثانية والثالثة سأبروز لك أكثر ما تأثرت به أثناء قراءة “القرد كثيف الشعر”، وفي النهاية، سألخص كل هذا في سطرين، فلو كان خُلقك ضيقًا على القراءة توجه لآخر سطرين، ولا ترهق نفسك بتفاصيل المقال.
يعد “يوجين أونيل” أحد أبرز كتاب المسرح الأمريكيين، إن لم يكن المسرحي الأبرز في تاريخها، الرجل لا يحتاج اعترافي في شيء، فهو حاصل على نوبل للأدب ١٩٣٦، وأعماله منقولة للكثير من المسارح واللغات، وفي “القرد كثيف الشعر” حاول “يوجين اونيل” أن يصور لنا مأساة الإنسان أمام قدره وصراعه الذي يواجهه للعثور على ذاته، من خلال أحد العاملين في مواقد الفحم في سفينة بحرية ضخمة، البطل هنا معتز بذاته للغاية؛ تجده يكرر: “أنا الصلب”، فهو لا يشعر بتدني مستواه المعيشي، لكنه يرى في يديه سر حركة السفن وتقدمها، وبحدثٍ واحد استطاع “يوجين” تدمير اعتزاز بطله بنفسه، وقام بإلقائه في مواجهة الحياة والذات.
أثناء القراءة توقفت وهدأت قليلًا عندما وجدت النص يكشف عن رغبة الانتماء الكامنة في البطل كما هي في كل إنسان، قطعًا لا يستطيع إنسان أن يحيا بغير أن يشعر بانتمائه لكيان أو جماعة ما، وفي هذه المسرحية حاول البطل “يانك” -بعد تعرية نفسه أمامه وإدراكه لمحدوديته ونقصه- أن ينتمي، مرةً ذهب إلى اتحاد العاملين، ومرة حاول الانصهار في أجواء المدينة، حتى فاض به الكيل وتدحدر إلى حديقة الحيوان، باحثًا في الغوريلا عن الكيان والمعنى.
فالانتماء رغبة بداخل كلٍ منا، وما أراد “أونيل” تمريره هنا هو ضرورة الالتفات إلى أن الإنسان منّا عندما لا يجد ما هو أعلى لينتمي إليه -سواء كان الأعلى إلهًا أو إنسانًا- سيذهب للبحث في الأسفل، وللأسف لن يجد الباحث إلا توهانًا يزيد من تعبه ويعمّق من جراحه النابعة من فقد الإيمان بالنفس.
الفكرة الثانية التي أوقفتني كانت النهاية! تأمل معي هذه الجملة التي صرخ بها “يانك” قبل المشهد النهائي بلحظات قليلة:
“إنه بعيد في القاع، لا تستطيع أن تمسكه، ولا تستطيع أن توقفه، إنه يتحرك فيتحرك كل شيء، ويقف فيقف العالم أجمع، ذلك هو أنا الآن”.
هنا يخبرنا “يانك” أن سر ألمه وعذابه ليس نابعًا فقط من الموقف الذي كشف حقيقته له، لكن الألم الأصلي هو أنه ذاته! فهو لا يستطيع أن يكون إلا “صلبًا”، والعالم لا يعترف بأكثر ما يستطيع فعله ويعتز به، لذلك تجد يانك يخبر الشرطي أن جريمته الحقيقية هو أنه قد ولد في الأصل، ولد بتلك الصورة وبذلك الشكل، شكل يحبسه ولا يستطيع التحرر منه مهما فعل!
ولذلك كانت نهاية “يوجين أونيل” مرعبةً في توفيقها، فقد ختمت المسرحية بيانك محبوسًا داخل قفص الغوريلا -المصنوع من الصلب- يلفظ أنفاسه الأخيرة، وكأن السجن الحقيقي هو ذاتك وما تحب لا الدنيا وما تفعله بك! وللأسف ذلك السجن لا فكاك منه ولا خلاص، إلا بالموت!
أخيرًا، كما ترى الفكرة مبهرة في بساطتها، وعلى بساطة الفكرة تجد أنها تقدم للمسرح ما يحتاجه من النص المسرحي، فهي تصور صراع الإنسان أمام قدره، وتكشف محدوديته أمام ذاته، لكن برمزيات خفيفة وممتعة. أحببت التجربة مع أونيل ككل؛ فهو أثبت بنصّه أن أكبر مأساة في الحياة أن تكون أنت هو أنت، وأعتقد أن خير ختام لهذه المراجعة سيكون جملة “يانك” العظيمة جدًا:
“لقد ولدت، وهذه بالتأكيد هي تهمتي، فاكتبها في السجل، ولدت، أتفهمني؟”
قد يعجبك أيضًا: الموت: عبءٌ يُلقى أم عبءٌ يُزاح؟