ليونورا كارينجتون: الرسامة والنحاتة السريالية التي اتخذت من المكسيك موطنًا روحيًّا (مترجم)
عَرِفتْ الكاتبة والقاصّة ليونورا كارينجتون منذ طفولتها ذلك القلق، الذي يمتلك نفسَِ صاحبِه مُحيلًا إيّاها إلى شظايا لا تعكِس من عوائد الخارج إلا تمرُّدًا على ما درج عليه الجمع، ممعنةً في استقراءِ بواطن نفسها بلغةٍ حدسية، أسّست لاغترابها في مُحيطها العائليّ، الذي تمرَّدت عليه لاحقًا حينَ لحقتْ بركب الحركةِ السريالية؛ لتجدَ في نزعاتها الجامحةِ، ما يتّسق وغرابةَ عالمِها الداخليّ الذي ألفَته منذُ الطفولة.
ولدت ليونورا كارينجتون عام 1917 لعائلةٍ محافظة من طبقةٍ راقية، في مقاطعة لانكشاير. وكان وعيها المُفارق الآخذُ بالتشكُّل في سنٍّ صغيرة، يكشفُ لها تلك القيود التي تُمليها الحياة البرجوازيّة على أصحابها. لم تنصع لينورا لأيّ من تلكَ القوالبِ الذّهنية الصارمة، التي حاول أبواها الكاثوليكيان فرضَها وتكوينها لديها منذ البداية. ففي سنِّ الثامنة أرسَلوها إلى دير القيامة للرّاهبات في مدينة تشيلمسفورد. لم يرُق لها مناخُ الدّير وكانت ترفضُ القيام بأعمالها الدراسيّة، مما اضّطرهم إلى فصلها في نهاية الأمر، وعلى منواله لفَظَها دير سانت ماري في قرية أسكوت، حيثَُ طالب القائمونَ على الدّير والديها بالقدومِ وردّها معهم إلى المنزل. واستقرَّ طبعُ لينورا على التمرُّد والنُفور من إملاءاتِ الكبار، وظلّت عصيّة على التقويم. ممّا أصابَ أمُّها باليأسِ حين فشلت محاولاتها المتتابعة في ضبط سلوكِ ابنتها.
وحينما بلغَ الإحباط مبلغَهم، قرَّرَ والداها القيامَ بمحاولةٍ جديدة، وإرسالِ ابنتهم التي خطّت طورَ المراهقةِ لتوّها، إلى مدرسةٍ معروفة بنظامها الصّارم، وهي ثانويةُ بنروز في فلورنسا، ولم تستطع حتى عناصرُ الطبيعة مجتمعةً في إقليم توسكانا الساحر، على ترويضِ وحشيّة تلك الإنجليزيّة صعبةِ المَراس، التي أخذت تُضاعف سِجِلَّ فصلها من المدارس. وأرسِلت عقبَ ذلك إلى مدرسةٍ باريسيّة لاستكمالِ المرحلة الثانويّة، ونظرًا لتجاوزاتها السلوكيّة فقدْ تعرّضت للفصل السّريع، ولم يستغرق الأمر سوى أشهرٍ قليلة حتى أعادوها إلى منزلها.
مما اضطرّ والدها بعدما عِيْلَ صبره، إلى بعض من التدابيرِ المتطرفة، وذلك بإرسال ليونورا كارينجتون إلى مدرسة داخليّة في باريس تُديرها سيدةٌ تدعى الآنسةُ سمبسون، وهي من الصنف الخشنِ الذي لا يعرفُ المُزاح، وكأنّ عريكتها قُدّت من معدنٍ صلب، وقد نفرت ليونورا كرينجتون من قسوةِ النظام المتّبع، ولمْ تجد بدًا للخروجِ من مأزِقها غيرَ الهُرُوب ذاتَ مساءٍ من المدرسة والعودة إلى منزلها في إنجلترا. وهنا كانت قد استقرّت دواخل لينورا على مقصدٍ واحد، وهو دراسةُ الفن. وعملت على إقناع والديها للسّماح لها بالالتحاق بكليّة تشيلسي للفنون.
وكانت تلكَ نقطةَ التحوّل الأولى في حياة ليونورا كارينجتون. ففي آواخر سنوات مراهقتها عام 1936 وجدتْ الإلهامَ أخيرًا في فصولِ أميديه أوزنفان، الذي صادف عمله كمدرّس في منتصف الثلاثنيات. التحاق لينورا بإحدى فصوله في أكاديمية أوزنفان للفنون بغرب كنزينغتون. والأكاديمية في الأصل مرآبٌ تم تحويله واستصلاحُه من قبل أوزنفان ليباشر فيها تدريس أصولِ مذهبِه في الفنّ. وقد عُرف عنه حزمه وصرامته وإيقاعُه المنتظم، وقد أسلمت ليونورا للمرّة الأولى قيادها إلى تعاليمِ أستاذها، تحذو حذوه حتى وجدت في نفسها ميلًا داخليًّا لاحتراف الفن، قد جرفها بعيدًا عن الحياة الناصلةِ الخامدة التي أعتادتها، إلى أخرى زاخرةٍ بالمعاني الدّاخلية، لاتفتئُ تتفجّر عن ألف لونِ معَ كل إغماضة عين، تمطتي نجمَ إلهامها المتّقد وتسبحُ بعيدًا في مدارِ من العمل الدؤوب، لإنجازِ ما يمليه عليها أستاذُها، الذي علّمها وجوبَ فهمِ طبيعة الأشياء التي تستخدمها، فلزِمها أنْ تفهمَ الكيمياء الدّاخلية للورقةِ والقلم قبل شروعها بالرسم.
وكانت روحُها النّزاعة للفنِ تستثار بكلِّ صنوفه حتى وإنْ كانت تحتَ طوعِ المنهجِ الصّارم لما بعد التكعيبيّة الذي نهجه أستاذها. وهو ضرب من الصفائيّة التحليليّة التي ترومُ النفاذَ إلى جواهرِ الأشياء، بتحطيم الشّكل الخارجيّ وصورتِه المرئيّة، وإعادةُ تمثيله هندسيًّا. ويُذكر عنها أنّها أمضت ست أشهرٍ تحاول رسمَ تفاحة بخطٍ هندسيّ واحد، وقد آيست من نيل رضا معلّمها الذي صدَّها مرة تلو أخرى على مدى شهور، حتى تتخلّص في لوحتِها من أيّ انعكاسٍ لسطحِ خارجيّ.
من بين زملاء ليونورا في الدراسة كانت أورسولا غولدفينغر، زوجة المهندس المعمار المجدد مجريّ المولد إرنو غولدفينجر. وقد دعتها أورسولا إلى حفلِ عشاءٍ مرةً، فصادف ذلك حضور ماكس إرنست الذي التقتْه للمرةِ الأولى حينها. وكان في رحلة فنيّة إلى لندن لإقامة أحدِ معارضه، وقد باشرَ حبّه قلبَها من أوّل لقاءٍ كما وقعَت محبّتها في قلب إرنست موقعًا كبيرًا. وكانتْ حينها قد جاوزتْ العشرين بقليل. ومن الحكايات التي ظلّت ليونورا محتفظةً بذكراها على مرّ السنين، ذلك اليوم الذي ذهبت فيه وماكس إرنست إلى الرّيف ليُطلعها على تقنيّة لفركِ ودلكِ أوراق الشّجر بالأصباغ وطباعتِها كيفما اتّفق على لوحاتٍ نصف جاهزة، وكان هو من استحدثها. ولم يمنَعه زواجُه القائمُ من ماري أورينتشي اصطحابَ ليونورا معه قي عودته إلى فرنسا. وقد أصبحت حينها خليلة علنيّة لماكس إرنست.
لم تأبه ليونورا لرفض إيفان تشيرمايف – المهندس المعماريّ مرموقِ الشأن وراعيها الموصّى من قبل والدِها- واحتدامِ سورة غضبه إلى حدِّ أنّه وصفها بالعاهرةِ الرّخيصة، ومضت في أثر إرنست وجماعته من أنصار السرياليّة، تخلبُ تقنياتهم المستحدثة وسردياتهم الهذيانيّة لُبَّها، وكان همُّها الوحيدُ أنْ تنالَ موطئَ قدمٍ واعترافٌ بلوحاتها في تلكَ الجماعة التي كثيرًا ما اجتمعت في مقاهي سان جيرمان دى بري بفرنسا.
وفي عام 1939 كانت قد رسَمت واحدةً من أروعِ لوحاتِها، ترصُد فيها ماكس أرْنِست وسطَ مشهدٍ جليديّ مرتديًا ثوبًا من ريشٍ أحمقِ، والثوبُ معقوفٌ في آخرِه على هيئة ذنبِ سمكة، ممسكًا بيده ما يشبِه حافظةً بلّوريّة زرقاءَ لحصان صغيرِ بحجمِ جنين، وخلفه تمثالٌ ضخمٌ لحصانٍ جليديّ بعينين متجمدتين. وقد عاشَ الثنائيُّ حياةً هانئة قوامها الإبداع والشطحاتُ الفنيّة، إلى أن أدركتهم الحرب العالميّة الثانية، وقد تمَّ احتجازُ إرنست حينها من قبل السلطات الفرنسيّة كونه مواطنًا ألمانيا، وبعد فترة قصيرة تمَّ اطلاقُ سراحه. غير أنّه وفي عام 1940 تم اقتياده إلى أحدِ المعتقالاتِ النازية في آكس أون بروفانس. ولم تستطع لينورا رؤيته إلا مرّة وحيدةً لم تدُم سوى دقيقتين.
ولما كانت القوات الألمانيّة آخذةً بالاقتراب، لم يكنْ أمامها من خيارٍ سوى الهروب، ودبّرَت لذلك مع صديقها ميشيل لوكاش وخليلته كاثرين. وامتطى ثلاثتهم السيّارة في رحلة سفرٍ حذرة، واتجهوا جنوبًا نحو مدينة بربنيون ومِنها إلى أندورا، حيث كانَ بانتظارِهم قسيس يسوعيّ، موكّل من قبل والدها لتسهيل عبورهم إلى اسبانيا. كانت قواها النفسيّة آخذةً بالتّداعي عند هذه النقطة، وسقطتْ في نوبةِ انهيارٍ عصبيّ حادّة لما اجتمعَ عليها الخوفُ المتواصل من الهلكة وقلقِها على مصيرِ إرنست المجهول. وتم احتجازها في مصحٍ للأمراض العقلية لفترةٍ من الزمن، وقد وثقت أثر تلك الفترة في كتابها المُعنَون “نحوَ الأسفل” الصّادر سنةَ 1943.
كانت روح ليونورا كارينجتون تذوي، تُفقدها إجراءاتُ علاجِها المُتطرفة هويّتها شيئًا فشيئًا، ورغمَ تَخبُّطها في لججِ الألمِ لم ينقطع رجائُها بالعثور على مخرجٍ من أزمتها. ولعلّ الصُدفة وحدَها هي من أنقذت ليونورا حين تدلّى لها في قاعِ كربها حبلُ النجاة المتمثّل بظهورِ ريناتو ليدوك في حياتها، وهوشاعر ودبلوماسي مكسيكيّ تربطه صداقةٌ قوية ببابلو رويز بيكاسو. لم تخدع ليونورا نفسها أو تخدعه زاعمةً حبه، لكنّها كانت آملةً في الحصانة التي تنالها زوجة الدبلوماسيذ ولم يمانع ريناتو. وفي إحدى المرات حين كانت ليونورا في أحد المقاهي بصحبةِ ممرضتها ومربيتها التي جائت لإخراجها من المصح، احتالت عليها بحيلةِ الذّهاب إلى الحمّام فسمحتْ لها. وما إن اختفت عن أنظارِ المَمرضة حتى أطلقت ساقَيْها للرّيح، واستقلّت سيارة أجرةٍ متّجهة بها إلى السفارة المكسيكيّة حيث كان ريناتو بانتظارها لإتمام إجراءاتِ زواجهم. وتوجه العروسين بعدها إلى أمريكا، وأمضت ليونورا فترة من الزمن في نيويورك قبل استقرارها في المكسيك، موطنها الجديد حيث زالت العوائق أمام تفتّق إمكاناتها الفنيّة عن كل غريبٍ ومدهش في لوحاتِها وكتاباتها النثرية.
وفي المكسيك كانت ريميديوس فارو أبرزَ الفاعلين في حياة ليونورا كارينجتون حيث تشاركت الفنانتان السورياليّتان توقُهما للبحث عن مصادر إلهامٍ في مباحثَ غرائبيّة، كالتنجيم وفنّ الرسم الميتافيزيقيّ والأحلامِ كونها البوابة الأولى إلى مزالقِ اللاشعور. كما ربطتها علاقات وثيقة بعددٍ من الفنانين السورياليين من بينهم برتون,ماسون، بونويل وبيير مابيلي الذي شجعها على إنجاز كتابها “نحو الأسفل”، بالإضافة إلى بنيامين بيريت، أوكتافيو باث، دييغو ريفيرا وفريدا كاهلو. ولم تكن ليونورا سعيدةً في حياتها الزوجيّة مع ريناتو إذ عجز الزوجان عن فهم بعضهما وعوقهما حجم الاختلافات الآخذة في الاتضاح بينهما, مما اضطرهم في آخر الأمر لتوقيع أوراق الطلاق عام 1946. ولم يمضِ وقت طويلٌ حتى التقتْ بالمصوّر الهنغاريّ أميريغو وايز وتزوجَته ليصبحَ شريكَ رحلَتها ورفيق دربها حتى فرق الموت بينهما. وأثمرت هذه الزيجة غابريال وبابلو وايز-كرينغتون، أمّا الأوّل فهو أستاذٌ جامعيّ وكاتب، وأما الثاني فاختصاصي في علم الأمراضِ ورسّام، وهو مقيمٌ في فيرجينيا.
في عام 1947 نظم الفنان الأسباني إستيبان فرانسيس زيارة فنيّة لراعي الفنّ السوريالي المليونير إدوارد جيمس، الذي أدهشته أعمال ليونورا ليصبحَ راعيها الفني، وقد كلفها برسم لوحاتٍ جداريّة في منزله المصمّم بأسلوبٍ سورياليّ. كما نظمَ لها معرضًا في جاليري بيير ماتيس بنيويورك عام 1948.
أما الإعتراف بها كفنانة أصيلة في المكسيك قد جاء متأخرًا بعض الشيء، إذ أقامت أولى معارضها عام 1950، وبعدها بعامين أقامت معرضها الأول في باريس بقاعة بيير لوب. وتتابعت بعدها سلسلة من المعارض المنفردة في المكسيك على مدار السنين اللاحقة.
وفي سبعينيات القرن المنصرم، كان نجم ليونورا آخذا بالسطوع بعدما نالت قسطًا وافرًا من الشهرة على نطاق دولي. وانتثرت معارضها على ضفتي الأطلس في شتى البقاع.
ولم تكن شهرة ليونورا كارينجتون أو براعتُها الفنيّة مقتصرةً على رسوماتها أو منحوتاتها، بل تجاوزت ذلك إلى كونِها كاتبةً غزيرة الإنتاج، تنوعت أعمالها بين المقالات والأبحاث والشعر والرواية. ومن أعمالها الأدبيّة كتاب السيرة الذاتيّة الذي ألمحنا إليه آنفا “نحو الأسفل”. أما أكثرَ كتبها شهرة فهما “حليب الأحلام” و “الاستماعُ إلى البوق”، ومن أعمالها أيضًا: :بيت الخوف” عام 1938, “سيدة المدار الإهليلجيّ” عام 1939، “الباب الحجري” عام 1976، “الحمام يطير” عام 1986، “الحصان السابع” عام 1988، ومن أعمالها المسرحية “الظهور الأول” عام 1937,، “رداء النوم القطني” عام 1951، و”بينلوب” عام 1969.
وفي أعقاب احتجاجات 1968 تَكَشّف الشق النضاليّ من شخصيّة ليونورا. وكانتْ من المؤيدين للحراكِ اليساريّ، واضطرها موقفها السياسي المعارض للخروج من المكسيك، وإبان عودتها عام 1969 تابعت نضالها السياسي في سلسلة من الظهورات العامة. وكانت من أشد المتحمسين للحركة النسوية العالمية، وتعد من مؤسسي “حركة تحرير المرأة بالمكسيك”. وكانت ليونورا مؤمنةً بقوى المرأة الفطرية وبمكامن السحر في أعماقها، وبقدرتهن على هزيمة السلطة الأبوية واسترداد حقوقهن المستلبة.
ولم تشكل تلك القناعات السياسية عائقًا يحول دون أن تكون زوجة وأما متوجهة بكليتها لرعاية شؤون أسرتها، وفي عام 2007 كانت قد وقفت جهدها وخصصت وقتها للاهتمام بزوجها المريض الذي جاوز العقد التاسع من عمره حينها. ويذكر أنها أشركت زوجها وولديها في أحد معارضها الفنية عام 2005، حيث ضم المعرض أعمالًا فنيّة مختلفةً لأفراد العائلة.
وفي محطة متأخرة من حياتها تم الاعتراف بها كفنانة عالميّة، وتدفقت عليها طلبات الشركات الدولية، خصوصًا من أمريكا والمكسيك، وتَركَزَ الطلب الرئيسي على المجسماتِ والتماثيل العملاقة. أما في قرارة نفسها فإن شغفها الأوليّ ظل للرسم، وكانت لا تطيق ابتعادًا عن حامل لوحاتها وأصباغها، وعلى مر السنين بيعت كل لوحاتها، ولم يبق لها سوى لوحتين، وأخذتها الغيرة عليهما، فخصصت لهم حجرة موصدة في منزلها تذود عنهم دون الطامعين.
وظلت المكسيك موطنها الروحي الذي تَلَبَسته وتَلبّسها، ملاذ ضمها لمّا ضاقت نفسها بعقلانية الغرب وماديته المفرطة. وقد زودتها الميثولوجيا المكسيكية بالكثير من الأحاجي والمثيرات التي توافقت ومزاجها الفطري، ولطالما ذُكر عنها ولعها بإلهة الموت المكسيكية والتي تصورها الأساطير متزينة بتنورة من الأفاعي، وابنها إله الحرب الذي لا تهدأ ثورته أو ينطفئ لهيب غضبه إلا إذا قدمت له القرابين البشرية. ومثل لها هذا الجو الأسطوري المشحون برموز غرائبيّة تارة ودموية تارة أخرى، معراجًا مهمًّا من معارج الإلهام. وتعد جداريتها المعروضة في المتحف الوطني للأنثروبولوجيا بمدينة مكسيكو “عالم المايا السحريّ”. خير استعراض لتفاعل ليونورا مع غوامض الفلكلور المكسيكي ورموزه الباطنيّة.
ولم تكن رموز الحضارة المكسيكيّة المعين الأوحد لإبداعاتها، إذ ارتشفت لوحاتها من روافد بعيدة ممتدّة بعمقِ طفولتها الغابرة، إذ كانت تراودها هلاوس ورؤى حول موضوعات دينية ترفضها تعاليم المسيحية الأرثوذكسية، وظلّت ليونورا الصغيرة محاصرة بتطواف تلك الأشباح والأطياف في دواخلها كثورة غير معلنة على تربيتها الدينية المتشددة، وقد وظفت تلك المكبوتات في استلهام فني لاحق. وأغلب استيهاماتها وتخيلاتها في هذا الوقت تدور حول مواضيع من الميثولوجيا الكلتية، من أبرز تمثيلاتها: بانثيون الآلهة الكلتية, الأقزام، الجنيات، العمالقة، الأشباح والعفاريت. وفي مجمل أعمالها الفنية وظّفت عناصر الأسطورة وقوى اللاوعي لاستنطاق مكبوتاتها، ضاربة بعرض الحائط منهاج العقلانية وطرقه في فهم العالم ورصده، ولم تكن نزعتها التحررية موجهة لمزاحمة نظرائها في المشهد السوريالي العبثيّ. الذين سخروا طاقاتهم الفنية لتقويض عرى الماضي وخلخلت الرؤى التقليدية عن العالم المعاش. بل كان فنها قناة اتصال بما هو في الأصل كامن فيها من قوى وحشية وغريزية، ومُعليةً من شأن الحضور الأنثوي المتجسّد في التاريخ والأسطورة على هيئات مختلفة بدءًا من الرّبات والعرّافات وانتهاءً بالكاهناتِ والساحرات.
وبرفضٍ قاطعٍ جابهت ليونورا كارينجتون تلك الدعاوى الباطلة، حول انحصارِ دورها كمصدرِ إلهام أو مجرّد سطحٍ عاكسٍ استخدمه نظرائها السورياليون، لم تخضَع ليونورا للعبة التشيُّؤ في أيٍّ من مراحلٍ حياتها. فلقد استهلكت سنين عمرها في التمرّد على الإكراهاتِ والمكافحة في سبيل مشروعها الفنيّ. وقد رحلت ليونورا كارنجتون عن عالمنا عام 2011، بعد أن شُخصت بالتهاب رئويّ حاد بأحد مستشفيات مكسيكو، رحلت وبجوارها أحفادها الأربعة وابنيها بابلو وجابريال ويلز-كارنجتون، وأولئك هم كل أفراد عائلتها الصغيرة، التي اتخذتها عوضًا وملاذًا. مغمورةً بحبّهم مشمولة برعايتهم حتى النزْعِ الأخير.
مصدر الترجمة