هيرمينوطيقا النص الدانتوي: النظم التأويلي عند حنا عبود
قراءة في (الكوميديا الإلهية - دانتي أليجييري) (1/2)
إن الكوميديا الإلهية نص مكتنز بالرمزيات والتأويلات المختلفة، إنه نص شائك يحمل بين أشعاره تراثًا بأكمله، إنه نص تعانق فيه الخيال والواقع، تمازج فيه تراث المسيحية ووقائع التاريخ الإيطالي في قولبة أدبية رفيعة، إننا هنا أمام ملحمة شعرية وأثر أدبي يقدم أعظم مخيلة توصل إليها الجنس البشري. فما يقدمه دانتي في كوميدياه هو الكون الأدبي الواسع الذي لا يمكن أن نتوسع فيه، أو نقلص منه. إنه تراث البشرية وآخر حدود الخيال، إذ لا يمكن أن نضيف إلى العالم العلوي عالمًا آخر، ولا نجعل تحت العالم السفلي عالمًا آخر، ولذلك فإن قراءة الكوميديا هي قراءة تراث الإنسانية وخلاصة مخيلتها. إننا أمام أثر أدبي موسوعي الثقافة يعتبره العديد من أفضل الأعمال والملاحم الأدبية التي خطت بأقلام بشرية. وأوضح دانتي أن كوميدياه قابلة لقراءات أربع: حرفية، ورمزية، وشعرية، ولاهوتية فما برح شعره يستنطق الحداثة الشعرية العالمية ويثير في مختلف اللغات الترجمة تلو الأخرى.
وفي طبعة (دار ورد) للكوميديا بترجمة حنا عبود يوضح لنا المترجم أن صعوبة الكوميديا الإلهية تتأتي من مصدرين أساسيين: أولهما هم عدم فهم دانتي نفسه، بينما الثاني فهو الدخول إلى عالم الكوميديا بوهم مسبق يوحي بأنها عمل شاق وصعب، فتكون قرائتها رهينة وهم صعوبتها، فتختل الساحة النفسية للقارئ، ويسير بها قفزًا أو يمر ببعضها مرورًا عابرًا. ولذلك يحاول حنا عبود في مقدمته إيضاح نقطتيين بارزتين تعتبران من ضروريات الدخول إلى عالم الكوميديا وهما: كيف نفهم دانتي؟ وكيف نقرأ الكوميديا الإلهية؟[1]
كيف نفهم دانتي؟
يري حنا عبود أن حياة الشاعر هي وسيلة لفهم شعره في آحايين عدة، وقد يَصدُق ذلك إذا كان الشاعر عاديًا، لكن شاعرًا مثل دانتي فلا يخضع لتلك القاعدة، لذلك يقدم لنا المترجم عدة مفاتيح لفهم دانتي وملحمته التي أراد بها السخرية من بابوية تلك الأيام ومن العقائد الدينية المتعصبة:
- الوحدانية المسيحية:
وتلك النقطة يراها حنا عبود هي المحور الأساسي الذي يجعلنا نفهم دانتي وموقفه في الكوميديا. فالوحدانية المسيحية هي مجموعة الأفكار والعقائد التي انتشرت في روما وبقية الأقطار الإيطالية لتقف وتكافح الثقافة اليونانية السابقة، وهي ثقافة قائمة علي التعددية؛ حمايةً لمصالحها، وتوكيدًا لشخصيتها، واحتكارها القرار الإلهي، فدانتي لم يكتف بالوقوف ضد الممارسة الأبوية فحسب، بل طرح أيضًا العقائد الوحدانية وناقشها، ووقف ضد بعضها تصريحًا أو تلميحًا.
والوحدانية المسيحية كأي وحدانية آخرى، تقوم على قمع الصوت الآخر، وجعل عقيدتها/مصالحها أساسًا لقياس شخصية الفرد، سلبًا أو إيجابًا. فالإيمان بالمسيح، وكل الشخصيات الكارزمية شرط أولي لكل إخلاص وخلاص. والإيمان هنا يعني الانصياع لإرادتهم. والويل كل الويل لمن لايتوافر فيه هذا الشرط. إنه يخضع لكل أنواع النبذ أو التعذيب أو النفي أو القتل. ولم يقتصر الأمر على العقاب الفردي كما تمثله محاكم التفتيش، بل كانت هناك أيضا إبادات جماعية.[2]
إن التصور الوحداني تصور شمولي في دائرة مغلقة تبدأ من الخالق لتعود إلى الخالق. فالتاريخ الماضي والحاضر والمستقبل لا يتعديان ما تتصوره الوحدانية المسيحية، أو أي وحدانية آخرى. فهي ترفض أي عقيدة عن الخلق سوي عقيدتها وتنكر أي تصور للمستقبل غير تصورها (ستقوم الساعة ويحل يوم الدين ويفرز الناس إلى أصحاب ميمنة وإلى أصحاب ميسرة، إلا من توسط الطرفين، ولكل فريق مكان: الجحيم أو المطهر أو الفردوس)، وفي الكوميديا اعتمد دانتي هذا التصور كإطار روائي. أما من حيث العقائد فلم يكن متفقًا معه. - اليونانية:
إن عدم اتفاق دانتي مع الوحدانية المسيحية ينبع من ثقافته اليونانية، فقد اعتمد على الفكر اليوناني في قولبة الوحدانية المسيحية وتخليصه من ضيق الأفق والتعصب. فقد كان يأتي بشخصيات وثنية تزيد الشخصيات المسيحية في الروعة والجلال والفاعلية.
فالوثنية اليونانية تقوم على أربع فضائل شبهها دانتي في كوميدياه بالحوريات الأربع وهي: (الحكمة والعدالة والعفة والشجاعة) وهي فضائل طبيعية يمكن أن نراها ونلمسها في الشخص، فهي صفاتٌ تتجلى في الممارسة العملية فلا نفاق فيها ولا تصنع. بينما تقوم الوحدانية المسيحية علي ثلاث فضائل شبهها بالعذراوات الثلاث وهي: (الإيمان والرجاء والمحبة) وهي فضائل إنسانية، لكنها لا تُضبَط ولا يمكن تلمسها كالفضائل الوثنية. وجمع دانتي في المطهر بين الفضائل المسيحية والوثنية وقدم أمثلةً عن الفضائل الطبيعية، بينما في عرضه لأمثلة الفضائل المسيحية فسيرى القارئ وجود نزعة تشككية ساخرة في خلال رحلته المطهرية مع أستاذة فرجيل.
ويتجلى أيضًا تأثر دانتي بالثقافة اليونانية في مواضع عدة، فهو يسمي المسيح “جوبيتر” ويختار الغريفون الوثني رمزًا للمسيح، وأيضًا تأثر جحيم دانتي بأخلاق أرسطو، وفردوسه بالنظام الشمسي البطليمي.[3] وقد وضع دانتي تصنيفًا ذو قسمين أحدهما يخضع لنزعته التحررية، والآخر وضع وفق التصور الوحداني المسيحي، مع العلم أنه سخر من التصور المسيحي في تلك الآونة. - حرية الإرادة:
كان دانتي من أنصار حرية الإرادة، فقد كان يرى أن الوحدانية ليست سيئة في حد ذاتها، بل سيئة لأنها تفرض عقيدتها فرضًا على الآخرين، مما يلغي الصوت الآخر، ويسحق الإرادة الحرة التي تؤمن بالتعددية، وليس بالوحدانية.
وفي كوميدياه يلجأ دانتي إلى التشكيك والسخرية من وجوه الوحدانية، فقد يمنح الله نعمته وفقًا للون الشعر، وليس لكفاءةٍ ذاتية أو عمل مشرفٍ أو إرادة حرة، فالنعمة تمنح بصورة مسبقة، كما ذكر في (سفر التكوين 21:15) في قصة عيسو ويعقوب. وفي سرد دانتي لتلك القصة في الفردوس نتبين سخريته اللاذعة وتشكيكه لقانون النعمة الإلهية الذي يتغير بتغير الأزمان، فخلاص المرء في الأزمنة الأولى مرتبط ببراءة الأبوين، لكن الخلاص بعد العصر الأول يتم بالاختتان، أما بمجيء المسيح فلا يتم الخلاص إلا بالمعمودية. ويتسائل دانتي هل يقبل البشر بمثل تلك القوانين التي تتغير طبقًا لمزاج النعمة؟.
وقد امتلك دانتي مقدرةً في التحايل والتسويغ والالتفاف حتى يجد مخرجًا يتحاشى به غضبُ الكنيسة بعدما وجّه لها العديد من السخريات والانتقادات للعقيدة الوحدانية ولممارتسها. إن الخوف الشديد من بطش الوحدانية جعله يسلك مثل هذا المسلك.[4] - الإحراج الساخر أو السخرية المبطنة:
وهو اتجاه يسلكه دانتي في كتابته لهذا السفر، فهو يطرح مسألة ما ويناقشها بجدية، ثم يرمي بكلمة صغيرة تبعثر كل مهابة المسألة، أو تراه يقتنص تشبيهًا أو استعارة أو رمزًا أو صورة، فيضع فيها قنبلةً تفجّر كل المعتقد الوحداني الذي هو بصدده، فيقول في المطهر:نغم عذب ملأ الهواء المشعشع
عذب حتى أنني رحت ألوم جدتنا
حواء على خطيئتها، كيف تجرأت واقترفتها؟
امرأة واحدة، منذ أن خلقت رفضت
الحجاب الذي فرضه عليها كلي القدرة،
في حين أن السماء والأرض لأمره يخضعان
ولو أنها بقيت كقندلفت الله تحت الحجاب
لعرفت من قبل ولزمن طويل
تلك المباهج التي لا حد لها
-(مطهر 29:22 – 30).ففي هذه الأبيات يجعل حواء تتمرد منذ خلقت على أوامر خالقها، واستخدامه للفظ “كلي القدرة” الذي تخضع له الأرض والسماء، وضع قبله “امرأة واحدة” عصت أمره، والمقارنة بين كلي القدرة وامراة واحدة توضح السخرية المبطنة، ويوغل في السخرية عندما يقول إنها كانت ستتمتع بالمباهج لو رضخت لأمرة رضوخ القندلفت، فحياة القندلفت هي حياة خاوية تقوم على الإذعان والخدمة للكنيسة.[5]
وعندما يتحدث عن باولو وفرانشيسكا (جحيم 5:116 و 2:6) ينفطر قلبه على هذين العاشقين اللذان ظلا وفيين حتى في العالم الآخر، ووضعهم دانتي في الجحيم طبقًا لمقتضيات العقيدة الوحدانية المسيحية، وليس وفقًا للعقيدة الوثنية. وعطفه عليهما دليل استنكاره ورفضه حشر عاشقين مخلصين في أروقة الحجيم. - بياتريس:
يرى حنا عبود أنه لابد في البداية أن نفرق بين بياتريس الحقيقية وبياتريس الفنية، فبياتريس الحقيقية لم تظهر في الكوميديا إلا بجمالها واسمها، بينما بياتريس الفنية فهي نمط أولي من الأنماط الأنثوية اللازمة للتلقليد الأدبي. فبياتريس في الكوميديا شخصية متماسكة فنيا تجمع بين البراءة والجمال، فجعلها «مركبًا» يجمع بين الفضائل الطبيعية والفضائل الروحية، بين جمال الجسد وبراءة النفس.
إن نزاع دانتي إلى الفكر اليوناني وخوفه من الوحدانية المسيحية، كان أحد أسباب وجود بياتريس فهي مركّبٌ يجمع بين الفريقين، فالموكب السماوي الذي مهد لظهور بياتريس يشمل: العربة (الكنيسة) والغريفون (المسيح) وتلاميذه وأصحاب الأسفار القديمة وبعد ظهورهم تظهر بياتريس محاطه بالعذارى الثلاث (الفضائل المسيحية الثلاثة) والحوريات الأربع (الفضائل الوثنية الأربع) فكأنما يرفض أن تكون الحياة وقفًا على الاتجاه النسكي الذي فرضته الوحدانية المسيحية أو النزعة الزهدية.
ففي الفترة التي كتب فيها دانتي الكوميديا كانت معالم المدينة/الدولة قد اكتملت وبدأ الصراع بين البابا والامبراطور، فأحيانا تكون السيادة للأول وأحيانا آخرى للثاني. وكل سيادة يدفع ثمنها الشعب دمًا وجوعًا وحرمانًا، فلابد إعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله -أي الموازنة بين الأمور المادية والأمور الروحية- وكانت تلك هي وظيفة بياتريس فهي موكب توفيقي بين الوثنية والمسيحية أو بين الطبيعة والروحانية أو بين الجسد والنفس. إن بياتريس الفنية هي نتاج المدينة. وهي شخصية فنية للأنثى المثالية، استطاع دانتي بفنية واعية، استخدامها ببراعة، لتلبي متطلباته الفكرية والأدبية.[6] - الجيبليون والجولفيون:
كان دانتي ينتمي إلى حزب سياسي له شأن عظيم في فلورنسا وهو “الحزب الجولفي” وهو حزب كان يؤيد الامبراطور جولف الرابع ويقف موقفًا شديد العداء مع البابا إنوسنت الثالث. وعندما نجد هذا الموقف نعرف أن العداء مع الأيام لن يقف عند البابا، بل يتخطاه ويصل إلى العداء مع البابوية بمبادئها وعقائدها وممارساتها. أما حزب الجيبليين وهو الحزب المناوئ للجولف كان مواليا للبابا وللبابوية. وقد اشتدت الصراعات بين الحزبين لفترة كبيرة، ولم يقتصر الصراع على الثقافة والسياسة فقط، بل تعداهما إلى حروب دموية مريعة.
وفي الأجزاء الثلاثة للكوميديا سيجد القارئ أسماء أعلام ومعارك ومذابح كلها تدور في إيطاليا. فإن لم يقف القارئ على موقف دانتي السياسي لرأي أن كل هذه الاحداث إرهاقا للكوميديا. وعلاقة القارئ المعاصر بهذه الأحداث ما هي إلا صورة لما كان يحدث في إيطاليا في العصور الوسطى من صراع بين الإمبراطور والبابا. ومن الناحية الأدبية والفكرية فهي تطعيم واقعي لعالم خيالي يجوس دانتي أرجاءه، فالأديب يلجأ -في معظم الأحيان- إلى هذا الأسلوب لإيهام القارئ بواقعية عالمه، بحيث ينسي أنه في عالم إسكاتولوجي.[7]
كيف نقرأ الكوميديا؟
يتفق حنا عبود مع دوروتي سايرز في رأيها عن كيفية قراءة الكوميديا الإلهية: فيرى أن الطريقة المثلى لقرائتها هي أن يبدأ القارئ من أول بيت شعر فيها حتى آخر بيت، ماخوذًا بقوة السرد وبالحركة الخاطفة للشعر، غير آبه بالتفسيرات التاريخية والشروح المنطقية التي لا تقع أصلًا في قلب نص الكوميديا. لكنه يري أن ثمة بعض المعلومات التي يحسن معرفتها قبل قراءة الكوميديا لإيضاح مدلولات النص الدانتوي وتفسيره.
لقد كان دانتي يؤمن بالنجوم ومدي تأثيرها على طبائع البشر ويظهر ذلك جليا في نصوص الكوميديا وشرحه دانتي بما فيه الكفاية، بالإضافة إلى إيمانه بالأرقام وذلك يظهر في التنسيق العام الذي سار عليه في الكوميديا. والتنسيق العام يعتمد على النسق الثلاثي، باعتبار الوحدانية تؤمن بالأقانيم الثلاثة، فهي مؤلفة من ثلاث أجزاء: الجحيم والمطهر والفردوس. وكل جزء يحتوي على ثلاثة وثلاثين نشيدًا، وهو عمر المسيح، إلا أن الجحيم يزيد على الجزأين الآخرين بنشيد واحد. ويرى حنا عبود أن ذلك يعود إلى أن هناك بسملة تعتمدها الوحدانية المسيحية تقول: باسم الأب والابن والروح القدس، إله واحد آمين. فلابد حتى تكتمل البسملة أن يأتي بثلاثة، ثم بواحد، حتى يُعرَف أن الأقانيم الثلاثة مجموعة في واحد. بل إنه اعتمد الترزايما (القافية الثلاثية) رمزًا للأقانيم الثلاثة. ويري أيضًا أن اختيار دانتي لهذا النسق الثلاثي حيلة يختبئ ورائها وليس بدافع الإيمان بالوحدانية، لأن التساؤلات المحرجة التي رماها دانتي في وجه المسيحية تعتبر مآزق فعلية من الناحية العقائدية.[8]
وينظر حنا عبود في الإطار الرئيسي العام: الجحيم والمطهر والفردوس. فخطايا الجحيم أو خطايا أصحاب الجحيم (الشهوانيون والشرهون والجشعون والمبذرون والغاضبون) هي خطايا لا تغتفر، لا أمل لأصحابها في الخلاص، فهؤلاء مقضيٌّ عليهم بالعذاب السرمدي كما كتب على عتبة بوابة الجحيم:
أنا الطريق إلى مدينة الخراب
أنا الطريق إلى العذاب الأبدي
أنا طريق الخلق الهالكين
-(الجحيم 1:3 – 3).
بينما خطايا أصحاب المطهر (الشهوانيون والشرهون والجشعون والمبذرون والغاضبون) فعذابها مؤقت، فبعض خطايا المطهر تتشابه مع خطايا الجحيم إلا أن عذاب الجحيم أبدي بينما عذاب المطهر وقتي، فيري حنا عبود في ذلك أن دانتي جعل الصاعدين إلى الفردوس لا يختلفون عن أضرابهم الذين في الجحيم وبذلك لا يعود هناك فرق بين الفردوس الذي يتباهي به الوحدانيون المسيحيون، والجحيم الذي يرزلونه. وبهذه الطريقة نسف كل البناء العقائدي الضخم الذي تعبت في مداميكه أجيال وأجيال من آباء الكنيسة الأوائل. فلا فرق بين جحيم دانتي ونعيمه. بالإضافة إلى أنه جعل حياة الفردوس باهتة مريعة.[9]
ويوضح أيضًا أن إدانة البشرية التي تتكرر كثيرًا في الكوميديا، تختلف كل الاختلاف عن الإدانة الدينية التي ورثتها البشرية من الجدين الأوليين (أدم وحواء)، نتيجة عصيانهما الأوامر الإلهية، فالإدانة الأولى نابعة من الطبيعة البشرية التي تبقى بريئةً في مرحلة الطفولة،فما إن تمر هذه المرحلة حتي تنتهي البراءة وإلى الأبد. أما الإدانة الثانية فلم تكم نابعة من الطبيعة الإنسانية للبشر، بل يمكن القول أنها عقاب خارجي فرضه الله على البشر لعصيانهم أوامره. ولم يتم الخلاص إلا بنزول المسيح، ليمحو بدمه الخطيئة الأولى.
ولكن دستور دانتي يختلف كل الاختلاف عن هذا المنحنى المسيحي، فالطبيعة البشرية تسير وفق تكوينها الخاص ولا يمكن حل الأمر بالأوامر الدينية التي فرضتها الوحدانية المسيحية على الجسد، فهذا يؤدي إلى مزيد من التعقيدات، فالحل الوحيد هو احترام الجسد البشري، وإفساح المجال أمام الحرية الطبيعية التكوينية لهذا الجسد، بعيدًا عن أي قسر. ومن دون فهم مكونات الطبيعة البشرية يستحيل معرفة الطريق السليم. إن القمع والإذعان والترويض والتدجين ليست سوى إرجاء للمشكلة فهي لا تحلها بل تربكها وتزيدها تعقيدًا.[10]
ويشير حنا عبود إلى نقطة أخرى في نهاية تحليله وهي أن أسلوب دانتي لا يحمل إلينا الصفات التي كان يتسم بها، فأسلوبه على عكس شخصيته، مراوغ خبيث يكثر من الخداع والاستدراج والتلميح. ويرى أيضًا أن أي استسلام لظاهر النص، أو لشخصية دانتي الواقعية، يبعدنا عن الأغوار التي نفذ إليها. فالأسلوب الدانتوي فيه من الخبث والزوغان ما يجعل القارئ حائرًا، إذ يعتقد أنه يتحدث بصراحة وصدق فإذا هو يغمز أو العكس، فلا يجب على القارئ الاستسلام لظاهر القول. ومن الاستسلام لظاهر القول إضافة كلمة «الإلهية» كصفة للكوميديا، فهذه الكلمة أوحت للعديدين أن الكوميديا كُتِبت لتُثَبِت الإيمان في القلوب، ولتسبيح عظمة الله وعدله وسرمديته. ومثل هؤلاء القراء يدخلون الكوميديا ولديهم شعور مسبق بأن الكوميديا صخرة وطيده للإيمان المسيحي، في حين أنها أعظم مصدر للشكوك وضعضعة الإيمان.[11]
إن كلمة «الإلهية» يٌقصَد بها «المقدسة» أو بالأحري «العظيمة جدًا» فالكلمة موضوعة لوصف روعة النص وليس لوصف الموضوع، فالمديح واقع على نص دانتي، وليس على موضوع الكوميديا، بمعنى أن هذا الأثر عظيم وراقٍ وبديع إلى حد لا يسمو إليه كاتب. وهو بالفعل كذلك.
المراجع:
[1] الكوميديا الالهية - دانتي أليجييري، الطبعة الاولي 2002، ورد للطباعة والنشر والتوزيع، ص5.
[2] نفس المصدر السابق ص 6.
[3] نفس المصدر السابق ص 8.
[4] نفس المصدر السابق ص 10.
[5] نفس المصدر السابق ص 13.
[6] نفس المصدر السابق ص 15.
[7] نفس المصدر السابق ص 20.
[8] نفس المصدر السابق ص 21.
[9] نفس المصدر السابق ص 24.
[10] نفس المصدر السابق ص 26.
[11] نفس المصدر السابق ص 28.