“فيلسوف الدولة” في تاريخ مصر المعاصرة
يُقصَد بتعبير “فيلسوف الدولة” ذلك المفكِّر الذي صار عَقلاً للدولة، وبطبيعة الحال لا يوجد في تاريخ الفلسفة نموذجٌ كاملٌ للحاكم الفيلسوف الذي نظَّرَ إليه أفلاطون ثمّ الفارابي من بعده، ولكن لدينا بالفعل في تاريخ الفلسفة فلاسفة ٌومفكرون وصلوا إلى مناصب عليا وأثّروا على المؤسسات والجمهور، ونستبعد هنا رجال الدين الرسميين؛ فهم جزءٌ أصيلٌ من تلك المؤسسات.
إن فيلسوف الدولة هو المفكّر الذي ليس ضلعًا أساسيًا في تركيبها، جاء من خارجها أصلاً، لكنه بشكلٍ ما صعد إلى مواقع السلطة، ووجّهت أفكارُه أضلاعَ الحُكم، لا الجمهورَ بشكلٍ مباشر.
وأشهر نموذجٍ لفيلسوف الدولة الحقيقيّ، لا التخيليّ الأفلاطونيّ-الفارابيّ، هو هيجل. وعلاقة هيجل بالدولة الليبراليّة-الاستبداديّة (لا تناقضَ هنا عنده) معروفةٌ في الكتب. لقد اعتبَر هيجل -عبر مسارٍ فلسفيٍّ طويلٍ معقَّدٍ ينظم التاريخَ كله في حكاية واحدة- أن دولته القائمة هي نهاية التاريخ وحلُّ كافة التناقضات، ثم توالى تلاميذه الداخلون في علاقات متفاوتة من القوة ومختلفة في النوع مع مؤسسات الحُكم، وكان أكثرهم جذريّةً هو ماركس كما هو معروف، لكن ماركس لم يعش ليصير فيلسوفًا للاتحاد السوفييتيّ أو الصين، وكان ماركس –على عكس هيجل- مطارَدًا في كافة الدّول التي أقام فيها والتي هاجر منها، ولهذا لم يتمتّع ماركس بالإستراتيجيّة التنفيذيّة، وإنْ تمتَّع بكل تأكيدٍ بالابتكار الفلسفي، والتأثير على التاريخ اللاحق بشكلٍ غير مسبوقٍ في تاريخ الفلسفة والعلوم الاجتماعيّة.
وفي تاريخ مصر المعاصر في القرن العشرين برزت أسماءٌ هامّةٌ توصّل بعضها فعلاً إلى مناصب تنفيذيّة، وأشهرها هو طه حسين، الذي تولّى من المناصب ما يفوق غيره في تلك الفترة، وركب عواصف السياسة، ولم يغرق إلا ليطفو. وإذا قارنّا مجملَ إنتاج طه حسين الفلسفيّ بمجمل إنتاج عباس العقاد، خصمه العتيد، أو تلميذه –تلميذ طه حسين- عبد الرحمن بدوي، لوجدنا أنه أقلّ في الإبداع والكمّ، ونلاحظ أن أغلب شهرة طه حسين جاءت من هجوم خصومه عليه، لا من قوّة أطروحاته التي أثبت المؤرّخون خطأها (مدى أصالة الشعر الجاهليّ)؛ فلا الشعر الجاهليّ متشابه البحور إلى هذه الدرجة، ولا كأنّه بقلم رجلٍ واحدٍ أو مجموعةٌ متجانِسَةٌ يشتبه في تواطُئها، ولا أدلّة تاريخية على انتحال هذا الشعر، ولا هو معبِّرٌ فعلًا عن المجتمع الإسلاميّ.
وسنجد أنّ أطروحة عابد الجابريّ العكسيّة أكثر وجاهة؛ فالجابريّ يعتقد أن المجتمع العربيّ استمرّ بعد الإسلام لا العكس، ومن أدلّة وجاهة هذا الطرح أن “العُرْف” الاجتماعيّ هو من مصادر التشريع الإسلاميّ في علم أصول الفقه، ويُطلَق عليه اصطلاحًا كذلك “استصحاب الحال”، كما يُطلَق عليه كذلك “البراءة الأصلية”، وكل هذا يعني أن التشريع الإسلاميّ نفسه –على أيدي الأصوليين- قد استمدّ كثيرًا من موادّه من المجتمع العربيّ، ومن كل مجتمعٍ وصل إليه الإسلام وانتشر فيه في الحقيقة.
هذا بينما تقوم أطروحة طه حسين على أنّ الإسلام أعاد بناء صورةٍ تخيّليةٍ عن المجتمع الجاهلي، وفي الواقع أن العلاقة بين الجاهلية كمجتمعٍ وبين الإسلام كانت جدلية، وفيها تبادُل تأثير؛ هذا إلى جانب لغة طه حسين الأدبية المُطنِبة، والتي لا تتحمّل مواجهة صياغات عباس العقاد المنطقية، الصارمة، الرياضية، وهو طبيعي؛ فالعقاد كان يعتبِر برتراند راسل أعظم الفلاسفة، وكانت أطروحات العقاد تحليليًا أكثر وجاهة، وأغزر، وأعقد، وأبدَع.
وأغلب إبداعات بدوي كانت في مجالين: محاولته لصبّ المقولات الوجوديّة الهيدجريّة في قوالب الظاهريّات الماهويّة في “الزمان الوجودي”، وهو ما كان سيستغربه هيدجر نفسه، لو كان قد قرأه؛ فهو تراجُعٌ مؤسَّسٌ عن التفسيريّة الظاهراتيّة.
أمّا المجال الثاني فهو تأصيل الوجوديّة في “تحوّلات الصوفيّة”، وهي محاولةٌ موفّقةٌ من حيث الأهداف، لكنها جاءت متعثرةً وباسِرَةً في التطبيق، وهو ما سيبدو بوضوحٍ إذا قارنّاها بمحاولة حسن حنفي لإعادة بناء علوم التصوّف الإسلاميّ في موسوعته: (من الفناء إلى البقاء).
إن تأويل التصوّف الإسلاميّ بما هو تجارب وجوديّة، ومواقف حَدِّيَّة، لا يتطلّب أقلّ من موسوعة، ولا يمكن أن يقتصر على رابعة العدويّة، وشطحات الصوفيّة؛ ليس فقط لأنّ مساحة البحث أكبر بكثيرٍ من ذلك، ولكن لسببين: الأول هو إغفال المنهجيّة؛ فالمنهج الإشراقيّ يحتاج إلى فحصٍ دقيقٍ وشاملٍ من أجل تحقيق التأويل الوجوديّ للتصوّف الإسلاميّ في مقابل المنهج الظاهرياتي، وهو ما كاد بدوي يغفله تمامًا! والسبب الثاني هو أنّ التصوّف الإسلاميّ، إذا كان قد قام في نشأته في القرون الثلاثة الأولى للهجرة على “التحوّلات”؛ فإنّه، وبدايةً من القرن الرابع، قد انطلق بالقصور الذاتي بعد تبلوره كعِلم، وتربية، و”طريقة”، وهو ما يعني –على الأقل- أنّ جوهر التصوّف الإسلاميّ ليس معتمدًا فقط على التحوّلات، ويحتاج تأويلاً أشمل من ذلك لم يقدمه بدوي.
وفي مقابل الجناح الوجوديّ في الفكر الإسلاميّ بزعامة بدوي جاءت مساهمة الجناح اليساريّ-الإسلاميّ بزعامة حسن حنفي أكثر شمولاً، وعمقًا، ووجاهة.
إنّ أطروحة حنفي تقوم على أنّ التصوّف يتضمّن فعلاً تجربةً وجوديّة، ويتضمّن فعلًا منهجيّةً ظاهراتيّة، لكنّه “اتجاهٌ” أكبر وأوسع من ذلك، ويؤثّر على المجتمع بشكلٍ يتعارض مع ما قام عليه من “تحوّلات”؛ فصار مجالاً للخلاص الفرديّ الذي يفتّت وحدة المجتمع في مواجهة مشكلاته الواقعيّة؛ فأغلب الصوفيّة في الواقع ليسوا “متحوّلين” كبوذا أو بشر الحافي أو إبراهيم بن أدهم: “والله! ما لهذا خلقت!، ولا بهذا أمرت!”، وإنّما هم سالكون فعلًا في الطريق المُعبَّد منذ القرن الرابع الهجريّ دونَ تجربةٍ ذاتيةٍ أصيلةٍ في الأغلب، وأكثر المثقّفين بالتصوّف “معجَبون به”، وهم معجبون به “أدبيًا” من جهة، وهذا ليس تصوّفًا، ومن جهةٍ أخرى “فلسفيًّا”.
والاهتمام بفلسفة التصوّف والاقتناع بها من قبيل التصوّف لا مراء، غير أنّ قَلب النظريّات الصوفيّة مقتبَسٌ مباشرةً من أفلوطين -فيلسوف مصر في القرن الثالث الميلاديّ- الذي كان يكتب بالإغريقيّة. لهذا ينبهر غير المطّلع على الفلسفة اليونانيّة بالتصوّف الإسلاميّ، ليس إلّا لأنّه غير مطّلعٍ على الأصل المصريّ-الإغريقيّ!
أمّا في مجال الأدب؛ فما قدّمه التصوّف فيه ليس إلّا امتدادًا في الحقيقة –على عكس أطروحة أدونيس في “الصوفيّة والسورياليّة”- للبلاغة المكّيّة؛ بلاغة القرآن المكّيّ. (لمزيدٍ من التفصيل راجع بحثنا: اللّا مفسَّر القرآني، مجلة “تأويليات”، العدد 4، بيروت، 2021). أي أنّ بلاغة التصوّف ليست فائقة، هي فقط “مختلفة”، وهي مختلفةٌ ليس لأنّها مفارقةٌ لنَظْم البلاغة السائد، بل لأنّها “غير منتشرة”، فاشتهرت من قبيل النادر.
وفي الشعر المعاصر، كمجمل أعمال محمد عفيفي مطر (ت 2010)، من البلاغة المكّيّة ما يفوق الحلّاج، والنفري، وربّما سائر أعلام الأدب الصوفيّ القديم، ولو اجتمعوا له (راجع مقالنا: “عفيفي مطر.. والبلاغة المكّيّة”، جريدة القاهرة، 2016). لكلّ ذلك لم تكن محاولة بدوي لتأصيل الوجودّية عميقًا في التصوّف الإسلاميّ موفّقة؛ فهي من جهةٍ مبتسِرَة على المستوى الأفقيّ، ومن جهةٍ سطحيّة على المستوى الرأسيّ.
وقد أطلق طه حسين على بدوي لقب “أوّل فيلسوفٍ مصريّ” لسببٍ غير معروف. أمجاملةٌ هي أم حكمٌ علمي؟ وفي الواقع لم يحدد طه حسين معنى الفيلسوف، الذي يختلف من مذهبٍ إلى مذهبٍ أصلاً! هذا الاختلاف في التعريف: من أفلاطون، إلى أرسطو، إلى فلاسفة العصر الوسيط المسلمين والمسيحيين واليهود، إلى ديكارت وهوبز، إلى المثاليّة الألمانيّة، إلى الماركسيّة، إلى الوجوديّة، إلى التحليليّة، إلى ما بعد الحداثة، إلى الآن، لا يعني أنّ التعريف مستحيل، بل يعني أنّه، وبالضرورة، مطلوب.
وقد كانت أفكار بدوي في “الزمان الوجودي” – محلّ هذا الحكم من طه حسين – أعقد بكثيرٍ من أعمال طه حسين؛ فهو تلميذ للفلاسفة الألمان، أصحاب أعقد ما في التاريخ الفلسفيّ، في حين تبنَّى طه حسين المدخل الديكارتي (البدء من حالة الشكّ المطلق، ودرجة صِفْرٍ في المعرفة) دون بقيّة خطواته، وهو نقدٌ معروف، غير أنّ ما هو غير معروفٍ بالدرجة نفسها هو أنَّ المدخل الديكارتيّ المذكور ليس ديكارتيًّا في حد ذاته بالمرّة؛ فهو مدخلٌ بديهيّ، وعليه يقوم كل العلم الطبيعيّ! وهو ما لم يلحظه كثيرون في خضمّ انبهارهم بالأسماء الرناّنة الطنّانة. فما الهدف من نسبته لديكارت، إلّا إذا كان يحتاج عكّازًا فلسفيًا ليدعم مدخله المنهجيّ باسمٍ لامع، ولينسب ذاته، وحضارته، إلى أوروبا بشتّى الوسائل (راجع “مستقبل الثقافة في مصر”)؟
ليست القضيّة أنه لم يطبق منهج ديكارت، فهو فعلاً لم يطبّقه -وكثيرٌ من فقرات طه حسين في كتبه المختلفة تبدأ مِن: “لا شكَّ عندي في كذا..”- القضيّة هي لماذا أصلاً ديكارت؟ جوهر الديكارتيّة –كما سنتعلّم من هيجل- ليس الشكّ، فهي بداهةٌ لا تحتاج إسنادًا، بل إقامة المعرفة على أساسٍ عقليٍّ محض، لا هو لاهوتيٌّ من جهة، ولا هو علميٌّ تجريبيٌّ من جهةٍ أخرى. وهو الجوهر الذي اختبأَ من طه حسين.
أمّا توفيق الحكيم فقد كان أذكى مَن تحرّكَ على الساحة الأدبيّة والفكريّة في زمانه؛ وتجنَّبَ المعاركَ الدموية بمنطق “أنا مش قدَّك”؛ ليتفرّغ لعمله الإبداعي. وقد أنتج الحكيم –لهذا السبب أساسًا- في مجال الإبداع الأدبيّ ما يفوق طه حسين والعقّاد مجتمعَينِ كمًا، وكيفًا، لكنّه لم يعبّر عن أغلب أفكاره بشكلٍ نظريّ، فلم يُعرَف بالأساس كمفكّر، رغم أنّه مفكّر. فهو “الأديب” في عصره، إذا كان العقّاد هو “المفكّر” في وقته – بالألف واللام- وكان طه حسين صاحب منطلقاتٍ مبتورة، مثيرةٍ للاهتمام من النظرة الأولى، محبِطةٍ من النظرة الثانية، وحصل تجاوزها مع النظرة الأخيرة.
أمّا تلاميذهم، الذين تولّوا مناصبَ، أو أثّروا في الناس؛ فقد ظهر بينهم اسمان: أنيس منصور الوجوديّ، ومحمود أمين العالم الماركسيّ-اللينينيّ.
ولا شكَّ في أنّ أنيس منصور قد أثّر على شريحةٍ كبيرةٍ للغاية؛ فقد صاغ أسلوبًا سهلًا ودقيقًا ورشيقًا، وصار من أبرع من كتبوا المقالَ في محيطه، إن لم يكن أبرعهم من جهة الانتشار والوضوح. ولكنه تخبّط في المسار، نقد الثورة، ففُصِل من الجامعة، ولم يحصل بعدُ على الماجستير. ثم عمل بأخبار اليوم، وحلّل مسرحية “السلطان الحائر” لتوفيق الحكيم، ففُصِل من أخبار اليوم. ثم عاد للصحافة، وجابَ العالَم، ورصّع كتاباته بالجنس والحب والدم، فأغرقَ السوقَ، وصار هو الإنترنت قبل عصر الإنترنت. وبقدر ما نما انتشاره، بقدر ما تسطّح عمقُه. وقد تعلّم فعلاً السياسة -بالطريقة الصعبة- ورافقَ الساداتي، وصار صحفيّ الدولة ومن معاول هدم الناصرية عند العرب، وليس المصريين فقط، ولكنه لم يُعرَف كمفكّر، وليست له كتاباتٌ نظريّةٌ سوى كتابٍ واحدٍ هو “الوجودية”. ولم يرافقه الساداتيّ لكونه وجوديًّا، بل صحفيًّا.
أما محمود أمين العالِم؛ فقد تخرّج في قسم الفلسفة كأنيس منصور، وفُصِل منها في يوم فصل لويس عوض، ولكن بعد أنْ أنجز رسالته الهامّة الإبداعيّة –على المستوى النادر- في الماجستير “فلسفة المصادفة”. وعاش في المعتقل لسنوات، وتعلّم أسرع من أنيس منصور؛ واستمرّ في إنتاجه الفكريّ، وفي مجال النقد الأدبيّ، بكتاباتٍ ثقيلةٍ مقارنةً بمنصور. وقابل عبد الناصر، وتصالحا “شخصّيًا”، وانضمّ للتنظيم الطليعيّ، وصار من أعلامه المهمّين، ورأس الهيئة العامة للكتاب. وكان العالِم –وهذا لا يدركه كثيرون- من أهمّ أعمدة الناصريّة لدى العرب جميعًا؛ فقد احتاج إليه عبد الناصر ليبني اشتراكيّة، ولا اشتراكيّة بلا اشتراكيين. وكان العالِم أبرز المنظّرين اليساريين من جهة التأسيس الأكاديميّ، ودقّة الاصطلاح، ووضوح المنهج، ووضوح المذهب. ومن هذا المنطلق صالحه ناصر، وخاطبه بالاسم. وربّما لولا العالِم لتغيّر وجه القوميّة الاشتراكيّة العربيّة، وتغيّر جزءٌ على الأقلّ من التاريخ. وهذا ليس لعبقريةٍ ما في محمود أمين العالم، الذي ترأّس أمانة المجلس الأعلى للثقافة في عصر مبارك كذلك، واستمرّ أثرُه التنفيذي، بل لسداد قراراته، وسرعة تعلُّمه، ووضوح استراتيجيّته.
كان أثر طه حسين هو إثارة المعارضة المحافظة، ولَكْمُها في أنفها، وكان أثره التنفيذيّ الاجتماعيّ حقيقيًّا من خلال مناصبه العديدة، ولا ينكره أحد، ولكنه كان في دولة ديمقراطيّة مقارنةً بدولة ناصر من جهة، فلم يكن له هذا النفوذ الشموليّ الذي توصّل إليه محمود أمين العالِم في دولةٍ شموليّة، ولا كان له التأسيس الأكاديميّ في الفلسفة، بل في الأدب واللغة بشكل أساسي، وكان يشتري التلاميذ بألقاب، مثلما اشترى بدوي بلقب أول فيلسوف. وهو ما اتّفق –وهو ذكاءٌ من طه حسين- مع تعالي بدوي الفطريّ، وأرستقراطيّته، فقد كان من أثرياء الإقطاع، حتّى جعل نفسه من قلائل فلاسفة الإسلام، وتصوّر نفسه بطلاً، وفيلسوفًا للدولة الفاشية المقبِلة –بعد دخول هتلر مصرَ من وجهة نظره- فلم يقم النبيُّ بأية معجزات! وبدلاً من أن يترقّى في نظام ناصر، فقد عاداه، وهاجر طيلة حياته المتبقّية تقريبًا، وهاجم المصريين أنفسَهم، وأخيرًا انهمك في الدفاع عن القرآن وعن النبي محمد ضد المستشرقين بآليات المستشرقين نفسها، دونَ أن يقدّم نقدًا للاستشراق: لا منهجّيًا كما فعل حسن حنفي في “التراث والتجديد”-١٩٨٣ ، ولا استراتيجيًّا كما فعل إدوارد سعيد في “الاستشراق”-١٩٧٨. ولم يكن العقّاد توافقّيًا، ولا براجماتيًّا، دخل السجن تسعة أشهرٍ بسبب حدّة لسانه، ولم تتوافق كتاباته المحافظة –على ما فيها من تحليلٍ منطقيٍّ فائق- مع التيّارات التجديديّة النامية، ولم ينظُر سوى إلى نفسه كمفكّرٍ منطقيٍّ متّزن.
وكان طبيعيًا أن يتصادم النبي (بدوي)، مع المفكّر (العقاد)، كما تصادم الأنبياء والمفكّرون عبر التاريخ. وانتهى الصدام –في رواية- إلى علقة تلقّاها العقّاد في الشارع بأيدي بلطجيّة “مصر الفتاة” ذوي القمصان البُنّيّة. وانتهى الصدام –لو لم تصدُق الروايةُ- صدامًا شخصيًّا بين كِبْرياءَينِ متساويينِ في القوة، متضادّين في الاتجاه. ثم ارتفع الصدام ليصير مع الدولة نفسها: العقاد مع الملَكية، وبدوي مع الجمهورية. وقد تجنب توفيق الحكيم بذكاءٍ خاصٍّ كل ذلك، حتّى إن مسرحيته المذكورة قد أدّت إلى فصل أنيس منصور، الذي كتب عنها، دون أن تؤدّي إلى الإضرار به هو، الذي كتبها! ولم يزد تأثير أنيس منصور عن الترويج الصحافيّ لنظام الساداتي، الذي لم يكن نظامًا بقدر ما كان هدمًا لنظام –دون أحكامٍ معيارية- كان أنقاض عمود، لا عمودًا جديدًا. وبهذا يبقى محمود أمين العالِم الوحيد فيهم في درجة فهمه لتسلسل السلطة، وأحوالها، وأدوارها، وصعوده إليها، فربح مركزًا من مراكز التحكّم في عصري ناصر ومبارك كليهما، بمنطقٍ استراتيجيٍّ بحت.
وهكذا نتبيّن في النهاية أن الجناح الماركسيّ كان أنجح مَن توصّلَ إلى مراكز السيطرة والحُكْم في مصر المعاصرة، متغلّبًا في ذلك على المحور الوجوديّ (بدوي، أنيس منصور، زكريا إبراهيم)، والجناح الليبراليّ المحافظ (العقّاد)، والجناح الليبراليّ التغريبيّ (طه حسين). كما نتبينّ كذلك أنّ فيلسوف الدولة من الصعب أن يكون كذلك في دولةٍ ديمقراطية، وأنّ عليه –إن أراد أن يكون فيلسوفَ دولة- أن يترقّى في نظامٍ شموليٍّ على التحديد. ولهذا السبب أيّد هيجل الاستبداد يمينًا، كما أيّده لينين يسارًا. وكان الاستبداد في مصر في وقته يساريًّا، وكان محمود أمين العالِم أهمّ منظرٍ يساريٍّ من جهة العمق، ولينينيٍّ التوجّه، فكان منطقيًّا أن يحوز في الختام لقب “فيلسوف الدولة”؛ فقد فهم هذه المعادلات، وقام عمليًّا بحلّها جميعًا.