عدو المسيح فى المُتخَيّل الإسلاميَّ
تشكل النبؤات الأخروية وما يتفرع منها من أفكار وتصورات أسكاتولوجية(1)، حيزًا مهمًا فى الموروث الدينى الإبراهيمي، حيث تتركز تلك النبؤات الأخروية في كتابات الرؤية اليهودية والمسيحية، وأحاديث أشراط الساعة الإسلامية على صورة واضحة عن نهاية العالم، وما يترتب على ذلك من بدايةٍ قياميَّةٍ، وتحمل تلك الكتابات فى الأديان الثلاثة سمات مشتركة بينها فهناك -على سبيل المثال- محنة تعانيها البشرية على يد طاغية شيطاني صانع معجزات، وانتظار مخلص أو منقذ إلهي، وفى النهاية حلول حقبة جديدة من الكمال الإلهي سواء على الأرض أو في مملكة سماوية، وإحدى تلك السمات المشتركة هو “عدو المسيح” أو “المسيح الدجال”.
عدو المسيح فى الرؤى اليهودية والمسيحية
بدأ ظهوره فى الأوساط المسيحية قبل تدمير الهكيل عام 70م، وإن كانت فكرة عدو المسيح مسيحية النشأة والتطور، إلا أننا نجد لها صدى فى الكتابات اليهودية، حيث يرى العديد من مؤرخي الأديان، أن الأفكار الأخروية قد ظهرت في الأدب اليهودي فى الفترة بين 200ق.م -100م، بوصفها شكلًا من أشكال القراءات التوراتية وجزءًا أصيلًا من التراث اليهودي الذى ظهر على أيدى طائفة الغيورين (2)، وبوصفه أحد أشكال الاحتجاج والأمل الأخروي في القضاء على الدولة الرومانية. لم تُركز تلك الكتابات اليهودية على كلمة عدو المسيح بل اكتفت بإعطاء إشارات وتلميحات -مثال ذلك- ما جاء فى سفر التثنية على لسان النبي موسى يتحدث عن نبي كاذب يقود الشعب إلى الضلال بعد أن يغريهم بمعجزات وأعاجيب (التثنية 13-5) ، كما أشار أنبياء العهد القديم بعد النبي موسى إليه دون الإفصاح عن اسمه، كما جاء في سفر حزقيال “وأنت أيها النجس الشرير، ورئيس إسرائيل، الذي قد جاء يومه في زمان آثم النهاية”.
وفي العهد الجديد خاصة الأناجيل الثلاث (متى-24)، (مرقص-13)، (لوقا21) يشير المسيح كما أشار موسى إلى قيام مُسحاء كَذَبَة وأنبياء كَذَبَة يأتون بآيات وأعاجيب حتى يُضلوا الناس، وفي رؤيا يوحنا اللاهوتي يعطى صورة تفصيلية أكثر عنه، حيث يشير إليه بالوحش الصاعد من الهاوية، كما أشار إليه بولس الرسول بإنسان الخطية (تسالونيكى 2-3:2)، إلا أن أول لفظ يرد صراحة لعدو المسيح أو المسيح الدجال يأتي فى رسالة يوحنا الأولى، حيث يتحدث عن ظهوره قائلًا: “أيها الأولاد، اعلموا أننا نعيش الآن فى الزمن الأخير، وكما سمعتم أنه سوف يأتي أخيرًا، المسيح الدجال”. أما الكتابات الرؤيوية المنحولة مثل رؤيا إيليا وعزرا -رؤيا يوحنا المنحول- أنجيل برثمولماوس، قد أعطت صورة أوضح عن صفات عدو المسيح سواء الجسدية أو الأعاجيبية، والتي نجد لها مقاربات، وتطابقًا أحيانًا في الأحاديث الإسلامية الواردة عن المسيح الدجال.
عدو المسيح فى الموروث الإسلامي
انتقلت عبارة نقيض المسيح إلى البيشيتا (الترجمة السريانية للعهد الجديد) تحت مُسمى المسيح الدجال، nebīyā daggālā( 3) ومنها انتقلت الكلمة إلى اللغة العربية ووجدت طريقها إلى المدونة الحديثية، خاصة وأن هناك العديد من الشواهد التي تبين وجود ترجمات عربية للإنجيل والكتابات الأبوكريفية قبل البعثة النبوية وبعدها -على سبيل المثال- ما أورده البخاري عن معرفة ورقة بن نوفل بترجمة عربية للإنجيل، حيث يروى عن عائشة “فرجع النبي إلى خديجة يرجف فؤاده، فانطلقت به إلى ورقة بن نوفل، وكان رجلًا تنصر، يقرأ الإنجيل بالعربية” (4)
كما أننا نجد أيضًا شاهدًا على معرفة المسلمين بالكتابات الأبوكريفية ووجود ترجمات عربية لها، حيث يورد صاحب كتاب حلية الأولياء خبرًا عن وهب بن منبه أحد التابعين بأنه قد أدرك كتبًا يهودية ومسيحية لها صفة السرية (أبوكريفية) ولا يطلع عليها أحد إلا الخاصة، وأنه قد تمكن من الاطلاع عليها فيقول: “قرأت نَيِّفًا وتسعين كتابًا، من كتب الله عز وجل، منها سبعون أو نَيِّفًا وسبعين ظاهرة فى الكتابين (العهد القديم والجديد)، ومنها عشرون لا يعلمها إلا قليل من الناس” (5)
وبتتبع تلك الكتابات التي تحمل صفة السرية والتي تحدث عنها وهب بن منبه، يظهر لنا مدى تأثر المتخيل الإسلامي بها، وبجمع المرويات الدائرة عن وصف المسيح الدجال فى المدونة الحديثية نحصل على صورة وصفية له ولمعجزاته، متقاربة لما ورد في شأنه فى الكتابات الرؤيوية.
فمن صفاته الجسدية في المتخيل الإسلامي أنه:
رجل جسيم أحمر،(6) قصير أفحج،(8) أعورالعين اليمنى،(9) وتشبه الكوكب الدري،(10) ممسوح العين اليسرى،(11) وإحدى عينيه ممزوجه بالدم،(12) شعره جعد قطط،(13) بين عينيه مكتوب كافر.( 14)
ومن صفاته العجائبية أيضًا:
- ادعاؤه الألوهية “فيقول للناس أنا ربكم”(15) يبريء الأكمه والأبرص ويحيى الموتى،(16) معه أنهار الماء وجبال خبز(17) استجابة الأرض والسماء له “فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت”(18)
وبالرجوع إلى الكتابات الرؤيوية نجد طلبًا من عزرا فى رؤياه( 19) إلى الله أن يريه مظهر الدجال فيقول: “مثل حيوان متوحش، عينه اليمنى مثل نجمة تبدو عند الفجر، عريض زراعا، أسنانه طويلة شبرًا، أصابعه مثل مناجل كبيرة، باطن قدميه شبرين، وعلى جبهته كتب المسيح الدجال” وفي رؤيا إيليا (20) “أنه مجعد الشعر، نحيل الساقين قصير” وفي رؤيا يوحنا اللاهوتى الأبوكريفية(21) “عينه اليمنى كنجم الصبح، ويسراه كالتي لأسد” وتتواصل الرؤى في وصف الدجال وتتحدث عن معجزاته والتي تتشابه مع المرويات الإسلامية، ففي رؤيا أشعيا(22) “وكل قوات العالم ستأتي وستطيعه في كل ما يأمر به، ولكلمته ستشرق الشمس خلال الليل وسيظهر القمر فى الساعة السادسة من النهار، وسيقول أنا الرب”وفي رؤيا عزرا(23) ” قال لي: أنه الذي يقول أنا الله، صانعًا أرغفة للجمهور وخمرًا وماء”.
كما ارتبط هلاك المسيح الدجال في المتخيل الإسلامي بالمجيء الثاني للمسيح في آخر الزمان، والذي يعد أحد العقائد الأساسية في الإيمان المسيحي، ففي المرويات الإسلامية نجد نزول المسيح من السماء إلى الأرض “واضعًا كفيه على أجنحة ملكين” (24) وعندما يراه المسيح الدجال “ينماث (أي يذوب) كما ينماث الملح فى الماء” (25) وفي رؤيا بطرس(26) متحدثًا على لسان المسيح “سأجيء إلى العالم على سحابة من السماء، مع كل ملائكتي القدسيين” وفي رؤيا إيليا (27) “سيراه العالم كله محاطًا بجميع ملائكته” وعن هلاك الدجال يتحدث إيليا “ففي هذا اليوم سيَهلك أمامهم مثل الجليد يذوب في الماء”
إن مرجعيات الكلام عن أحداث نهاية العالم والمسيح الدجال في الإسلام قد ارتبطت بما أنتجته المخيلة اليهودية والمسيحية في هذا الشأن من خلال كتابات الأدب الرؤى، كما أن التداخل والتمازج بين تلك الكتابات الرؤيوية والمرويات الإسلامية يوضح لنا حقيقةً جليَّةً، وهي أن الأديان والمعتقدات سلسلة متصلة الحلقات، فما يختفي منها لا يموت وإنما يتجلى ويظهر في أديان ومعتقدات أخرى.
المصادر Eschatology علم الأخراويات يشير إلى الحق المعرفى الخاص بدراسة المسائل المتصلة بالأحداث الأخيرة التى تسبق نهاية العالم ومصير الأنسان ، أنظر:معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية ، جلال الدين سعد ،ص44 فوأد شعبان :من أجل صهيون التراث اليهودى المسيحي فى الثقافة الأمريكية ص298 راجع مجلة "الكرمل أبحاث فى اللغه والأدب " العددان 32-33 ص 291 البخارى 4/184 حلية الأولياء ج1ص24 البخاري حديث رقم 7128 مسند أحمد القرطبي ،التذكره ص 665 البخاري رقم 7123 مسند أحمد رقم 3546 القرطبي ص 664 القرطبي ص 664 القرطبي ص 663 البخاري رقم 7131 مسند أحمد رقم 20163 نفسه مسلم رقم 1693 نفسه كتاب الرؤى المنحولة ،ترجمة أسكندر شديد ص 118 كتابات ما بين العهدين ، ترجمة موسى ديب الخورى ص 665 موقع الآب بولس الفغالي https://boulosfeghali.org الرؤى المنحولة ص 90 نفسه ص 118 مسلم رقم 2937 مسند أحمد رقم 14997 الرؤى المنحولة ص 179 كتابات ما بين العهدين ص 668