سياسة الوضع البشري في العصر الحديث في فلسفة حنة أرندت
نتطرق في دراستنا هذه لأحد أهم كتب الفيلسوفة والمحلِّلة السياسية الألمانية-الأمريكية حنّة أرندت (1906-1975)، وأكثرها إثارة للجدل؛ “الوضع البشري1” Human Condition، أو وضع الإنسان الحديث، كما تُرجم في بعض الترجمات العربية لطرح أرندت. حيث تمتاز أعمال أرندت في العموم وبشكلٍ خاص في هذا الكتاب بالبحث في ماهيّة الساحة السياسية العمومية والنشطة active.
· تقديم: في معنى الوضع البشري
قبل الخوض في محتوى الكتاب يتوجّب توضيح معنى “الوضع البشري” حسب طرح أرنت: ما يَحصُر الذات الإنسانية ويحددها في مختلف مستويات الوجود، إن الإنسان هو كائن في بحث مستمر في ذاته، وينبغي عليه في كل لحظة أن يتحقّق بدقة شروط وجوده ووضعه البشري؛ لأن الفحص النقدي والدقيق للذات والوضع البشري هو ما يمنح الإنسان قيمته الحقيقة.
إن الوضع البشري بنية مركبة تتميّز بالتعقيد، حيث تتداخل فيه عدة مستويات، إذ يتحدد الكائن البشري ذاتيًا بالوعي، وموضوعيًا بالتواجد مع الغير، والعلاقة التي تربط بينهما (الذات-الغير)، إضافةً إلى الامتداد في الزمان التاريخي؛ حيث أن الكائن البشري فرد ذو صفات بيولوجيّة ونفسيّة وذهنيّة خاصّة تجعل منه شخصًا يتمتع بقسط من حرية الإرادة، لكنه في نفس الوقت مشروط بمحددات اجتماعية ونفسية لاواعية، ولا ينم تَشَكُّلُه في معزل عن الآخرين والمجتمع العمومي، وهكذا فوجود الغير والعلاقة معه شرط ضروري لبناء الذات.
ومن ثم فالوضع البشري يتميز بالحياة الاجتماعية؛ فالإنسان إذ يوجد في هذا العالم فهو يعيش مع الآخرين ويدخل في علاقات عمل وانتماء، ويخضع لقيود يضعها المجتمع. ويعني الوضع البشري في معناه الحصري وضع الإنسان داخل المجتمع ومكانته في التراتبية الاجتماعية، كما يعني في معناه العام كل ما يميّز وجود الإنسان، أي نمط وجوده في العالم.
قد سبق لبليز باسكال (1623-1662) أن ميّز بين ما يسميه الوضع الاجتماعي للإنسان الذي يرتبط بالمعطيات الاجتماعية التي تشرط وجوده، وبين ما يسميه بالوضع البشري الذي يقصد به وضع الإنسان في العالم باعتباره يتحمَّل مسؤولية وجوده…
بالتالي يُحدَّد وجود الإنسان:
- الموضوعية، فالوضع البشري – وليست الطبيعة الإنسانية – هو ما يشكل كينونة الإنسان، وهذا الوضع هو مجموعة من الحدود الاجتماعية والسياسية التي ترسم الوضعية الأساسية للإنسان. فالأوضاع التاريخية تتباين، والإنسان يمكن أن يولد حرًا أو مستعبدًا بدرجاتٍ مختلفة حسب مجتمعه، لكن ما لا يتغير بالنسبة له هو ضرورة الوجود في العالم وسط الآخرين، وإلّا فانيًا.
- إن كل فرد يحاول، بوصفه شخصًا، وبواسطة مشروعه الذي اختاره بصفته شخصًا أخلاقيًّا وحقوقيًّا أن يتحمل الحدود المفروضة عليه إما برفضها أو قبولها أو تجاوزها، الأمر الذي يؤسس علاقة تفاعل بين الأفراد، بالتالي يكون تفهم الغير ممكنا ويصبح الإنسان فاعلًا يعطي لوجوده المعنى الذي يريده.
تميّز أرندت مفهوم “الوضع البشري” عمّا يسمى بـ”الطبيعة البشرية” أو “الطبيعة الإنسانية”، والذي ساد في الفلسفات القديمة وفي الدين المسيحي وباقي الأدبيات الدينية في المعتقدات الأخرى، واستمر أيضًا في الفلسفة الحديثة حيث أصدر توماس هوبز كتابًا بعنوان “في الطبيعة البشرية” De la nature humaine، وعرف فيه “الطبيعة البشرية” بكونها مجموع الملكات الطبيعية للإنسان غير الخاضعة لتحكُّم السلطة، مثل الأكل، و الحركة، و التوالد، و الإحساس، و العقل…إلخ. فنحن نتفق على تسمية هذه الملكات بـ”الطبيعية””2″.
وهي تدخل ضمن مفهوم “الإنسان” الذي نُعَرّفُه بكونه حيواناً عاقلاً. هذا التمييز، بين مفهوم “الطبيعة البشرية” و”الوضع البشري” الذي تُقيمه حنة آرندت، مهم للغاية لأنه أولًا يقيم حدًّا فاصلًا بين مجال الفلسفة ومجال اللاهوت في فهم الإنسان، وفي فهم إنسانية الإنسان، أي في فهم الوجود الإنساني. فكل حديث عن “الطبيعة البشرية” في نظر حنة آرندت يدخل في نطاق الإيمان، أي في نطاق المنظور اللاهوتي، وبالتالي فـ”الوضع البشري” ليس هو “الطبيعة البشرية”، إذ الأول ينتمي إلى مجال الفلسفة بينما الثانية تنتمي إلى مجال اللاهوت. “3”
· الأنشطة الثلاثية:
تذكُر حنة آرندت في كتابها “أزمة الثقافة”، أنه قد طرأ حدثان غيّرا الوضع البشري كما ألِف معرفته الإنسان سابقًا. ويتعلق الأمر أولًا بحدث إرسال القمر الاصطناعي Sponik-1 إلى مدار الأرض، وأما الحدث الثاني والأكثر أهمية فيتعلق بالآلية Autonomisation، التي ستحرر الإنسان من العمل: العبء القديم. إن الحدث الأول غيّر الطريقة التي من خلالها ينظر الإنسان إلى ذاته، أما الحدث الثاني هو أكثر أهمية من حيث أنه جعل المجتمعات الحديثة تمتاز بتمجيد العمل، باعتباره النشاط الأسمى للحداثة؛ إذ “إن الوضع البشري للعمل هو قيمة وجوديّة في الحياة” “4”.
تذكر آرندت أنه ستخلق المكنة تناقضًا ظاهريًا، إذ ستظهر “مجتمعات العمل بلا عمل”. وتتابع حديثها عن وضع الإنسان الحديث، لتتطرّق أرندت إلى ضرورة التفكير في التغيّرات الكُبرى للعالم بالنسبة للراهن البشري، حيث بالنسبة لها يمتاز الوضع البشري أيضًا بـ’الفعل” action، أي “ما نقوم به”. وبالمقابل مبرزةً أن الفعل ليس هو النشاط الإنساني الوحيد والمهم…
في الفصل الأول من كتابها “الوضع البشري” تعتبر أرندت أنه يوجد بعدَين للوضع البشري، la vita Contemplativa (الحياة التأملية) و La vita Activa (الحياة النشطة)، وعلى أساسهما تَعُدّ هذه الفيلسوفة ثلاثة أنشطة تؤسّس للحياة النشطة، وهي: العمل le travail /Labor، والمنجز (الأثر) œuvre /work، والفعل action. وهي الأنشطة التي ستعالج أثرها ودورها في حياة الإنسان الحديث، على مدى كل فصول كتابها.
قد يعجبك: الإنسان حيوان سياسي -حنا آرنت
تبعًا لمفهوم آرندت يعرَّف العمل على أنّه النشاط الذي من خلاله يُنتج الإنسان الأشياء التي يكون الغرض منها الاستهلاك، وهو النشاط الذي ينطبق على المسار البيولوجي للجسم البشري. أما الأثر، فهو النشاط الذي من خلاله ينتج الإنسان عالمًا إنسانيًا وثقافيًا، من حيث أن الشرط البشري للأثر هو الانتماء إلى العالم، ويتعلق الأمر بإنتاج عالمًا “اصطناعيًا” من الأشياء، عالمًا مختلفًا بوضوح عن كل محيط طبيعي؛ أشياء كالأعمال الفنية والمعالم والمدن والدور… إلخ. وأشياء لا تختفي حال استعمالنا لها. وأما الفعل يُعرَّف بكونه ما يربطنا “نحن” بالآخرين؛ حيث أن الفعل متعلق بالحضارة والسياسة التي تهتم بالشيء المشترك… والتي تعلي من وسائل إنتاج وجود أفضل. إذ أنه النشاط الوحيد الذي يضع البشر في علاقة دون وساطة الأشياء ولا وساطة المادة.
وكل هذه الأنشطة الثلاثة تتعلق بحياة وموت الإنسان؛ إذ تقول أرندت بكون “العمل لا يضمن بقاء الفرد فحسب، بل يضمن بقاء النوع كذلك”5”. فالمنجز وإنتاجاته يضفيان نوعًا من الاستمرارية إلى الحدود العبثية للحياة الفانية وإلى صفة العبور والزوال في الزمن البشري.
أما الفعل، فهو بقدر ما يكرِّس نفسه للتأسيس والحفاظ على هيئات سياسية، يخلق بالمقابل شرط وحالة التذكر أي التاريخ. وهكذا يمكن تعريف العالم على أنه مجموع الأشياء الدائمة التي تقاوم صيرورة الزمن، حيث أنه من دون عالم يولد فيه البشر ويموتون لن يكون هناك أي شيء سوى عدم التغيّر والعوَد الأبدي والخلود الدائم للنوع البشري وخلود الأنواع الحيوانية الأخرى “6”. ويبقى الفعل هو وحده الصلاحية الخاصة بالإنسان كونه الحيوان الوحيد المتميّز بالأنشطة الثلاثة وإن افتقدها سيكون دابة، وهذا ما حذرت منه آرندت تجاه العبودية وإن تجاوزها يجب أن يكون آلهة؛ وهذا تعبير عن احتكار الإنسان فقط للأنشطة المشروحة أعلاه، ونُشير من جديد أن الفعل مشروط تمامًا بالحضور الدائم للآخرين.
·المجال الخاص والمجال العمومي:
في الفصل الثاني من المؤلف تتطرّق أرندت إلى التمييز بين المجال الخاص والمجال العمومي منطلقةً من تعريف أرسطو للإنسان بكونه “حيوان سياسي” Zoon Politikon. إلا أنه بالنسبة لها وتدريجيا عبر العصور، فقدَ الإنسان صفة السياسة الخالصة للوضع البشري؛ لتترجم بالتالي Politikon بالاجتماعي.. إذ تقول: إن العلاقة “الخاصة” بين الفعل والوجود المشترك تبدو مبررة تمامًا للترجمة القديمة للحيوان السياسي لدى أرسطو بالحيوان الاجتماعي هو ما نجده بعد في كتابات سينيك وهي الترجمة المعتمدة منذ توماس الأكويني: الإنسان سياسي بطبعه أي: اجتماعي”7″. فصفة السياسة كانت حاضرة قديما إلى جانب المجال العمومي public، وذلك في البعد الفعلي l’action. إلا أنه ومع ظهور الدولة الحديثة، ومن ثم ظهور دولة الرفاهية الاجتماعية (the welfare state) l’état-providence… حدث تداخل وارتباط بين المجال العمومي والسياسي والمجال الخاص، الذي يخص أبعاد العمل (الشغل) والأثر (المنجز). فقد كان القدامى يميزون بسهولة بين الفضاء العائلي الذي يعتبرونه فضاء خاصًا، والفضاء السياسي الذي يعتبرونه عامًا.
لكن مع العصر الحديث تم محو هذه الاعتبارات، حيث يُنظر للمجتمع كأسرة واحدة… غير أنه –حسب أرندت- في طبيعة العلاقة بين المجال العمومي والمجال الخاص أن المستوى النهائي لاختفاء المجال العمومي يصاحبه تهديد لتصفية المجال الخاص. “8”
ويكمن الهدف من مؤلف حنة أرندت في إعادة لهذه الأنشطة الثلاثية (العمل، الأثر، الفعل) لمكانتها؛ إذ المجال الخاص بالنسبة للعمل والأثر، وأما الفعل فيقع في المجال العام. حيث تخبرنا أرندت إنه ومن أجل فهم الخطر الذي يهدد الوجود البشري، وهو خطر يأتي من إقصاء المجال الخاص، والذي لا يكون الحميمي بالنسبة إليه بديلًا موثوقًا بحقّ، فإنه من الأفضل أن نعتبر الخصائص غير الخاصة للخاص وهي خصائص أقدم من اكتشاف الحميمية ومستقلة عنها. “9”
· في مفهوم العمل:
في الفصل الثالث من كتابها “الوضع البشري”، تتطرّق أرندت إلى مفهوم العمل (الشغل) بتمييزه بشكل واضح عن الأثر (المنجز)، وهو تمييز غير معتاد، كما تعبر عن ذلك أو بالأحرى فهي تحاول نقد كارل ماركس، وهو أمر كان يعدّ في وقتها ثوريا في ظل الأفكار الماركسية التي كانت منتشرة وتجد لنفسها مدافعين “مستميتين” عنها؛ العمل (الشغل) يعدّ حسب أرندت سريع الانتهاء، لهذا يعمد إلى محاولة إرضاء الحاجات البشرية الأكثر أساسية، ولحدوث ذلك يجب أن يعاد بشكلٍ لامتناهٍ.
وعبر العمل يظل الإنسان كائنًا “في الطبيعة” مذعنًا لضرورة نجاته Sa survie بالمقابل، وبسبب الأثر يصنع الإنسان إنسانيته الخالصة؛ إذ يُنتج الإنسان عالمًا إنسانيًا، منفصلًا عن الطبيعة. فالأثر بالكفاءة التي تسمح له أن يتجاوز الأجيال ولا يختفي -عكس منتوجات العمل- بعد صنعه. فتهاجم حنة أرندت بالتالي، الحداثة لأنها جعلتنا “نغير الأثر إلى عمل” إذ أن منتوجات العمل هي موجهة نحو الاستهلاك في حين أن المنتوجات التي يقع خلقها عن طريق الأثر (المنجز) تكون موجهة نحو الاستعمال، والفرق بين الاستهلاك والاستعمال هو بالتحديد فارق زمني وهو يرسم الهوّة التي تفصل بين ما يمر وما يدوم وبين ما يتغير وما يستمر. “10”
الإشكال الذي يعرفه العصر الحديث يقع في كون العمل الذي بفعله ينعزل البشر ولا يقومون بإنتاج المشترك، صار قيمة من القيم الجوهرية، ومنه بتنا نحكم على الحياة والأنشطة البشرية بشكلٍ عام، لهذا بالنسبة لحنة أرندت قد بات الإنسان فعليًا يُعدّ حيوانًا عاملًا Homo Laborans، حيوان لا يعيش ولا يحيا إلا من أجل وفي العمل.
في معنى الأثر:
أما بالنسبة للأثر Œuvre/Work، كما تعالجه في رابع فصول كتابها، فيتحلّى في كونه في حاجة لجعل البيئة المحيطة بالبشر أداة، أي تَشَيُّئ البيئة المحيطة (أو جعلها أداتية instrumentalisation).
ويتعلق الأمر بما تسميه أرندت بالصناعة التي تتمثل في التشيّئ “11”. بالتالي فالطبيعة تمثل الوسائل والأدوات التي يحتاجها البشر لصنع الأثر (الدور، وأيضا الأعمال الفنية، وكل ما يدوم في التاريخ البشري ويُلبي الحاجيات الفيسيولوجية). إذ في المنجز يحضر الإنسان باعتباره Homo Faber إنسان صانع، أي الإنسان الذي يصنع وينشئ وينجز، ما يجعله سيدًا على الطبيعة، سيّدًا على كل ما يمكنه أن يصير وسيلة، أي كل ما يمكنه أن يعدو أداة في خدمته وخدمة نجاته وبقائه، ولكي يكون ما يعني دائمًا بالعالم أن يكون، أي: وطن البشر طيلة حياتهم على الأرض، فإن الصناعة البشرية يجب أن تكون مكانًا للفعل والخِطاب لأن الأنشطة ليست فقط غير نافعة لضرورات الحياة بشكل تام، بل هي تختلف تماما عن أنشطة الصناعة التي تصنع العالم نفسه وكل ما يحتويه بواسطتها.
إننا لا نحتاج هنا لاختيار بين أفلاطون وبروتاغوراس ولا نقرّر إذا ما كان الإنسان أو الرّب هو الذي ينبغي أن يكون مقياس كلّ الأشياء؛ إن ما هو أكيد هو أنّ المقياس لا يمكن أن يكون إلا الضرورة المسيرة للحياة البيولوجية والعمل، ولا الأداتية النفعية للصناعة والاستعمال. “12”
إذن، نحن حاليا بعيدون عن المثالية القديمة والمدينة-الدولة Polis الإغريقية وبعيدون أيضا عن المدينة الرومانية التي تقوم عليها قيمة الفعل التي ظلت سائدة، بل إننا أمام تغيّر فعلي وملحوظ في القيمة الفعلية، وأيضًا في القيم الجوهرية، في ما يسمى بالعصر الحديث.
ما بين الفعل والكلام:
وتشرح هذه المفكرة في الفصل الخامس من الكتاب مفهوم تمييز الفعل بأولوية الكلام la parole مؤكدةً بأنه “لا يوجد نشاط بشري يحتاج إلى الكلام مثلما يحتاج إليه الفعل””13″؛ إذ أن المعيار الأساسي للفعل هو التجلي الواضح للفاعل في الكلام وفي الممارسة.
إن الفعل هو مرتبط بالكلام ويكشف عن الإنسان وكأنه يحاول ويضرب في الأرض وينقح في الأفق من أجل أن يبدأ شيئًا جديدًا في العالم كما يعبّر عن ذلك الفعل الإغريقي Arkhein، حيث أنه عبر الفعل والكلام يمكن تمييز البشر وبالتالي يلجؤوا إلى الفردانية الحقيقة، وذلك عبر المحادثة discussion والتواصل… اللذان عبرهما يتفاعل الإنسان فيما بينه، ويصوغ عالمًا مشتركًا؛ فالفعل والكلام هما الضربان اللذان تظهر فيهما الكائنات البشرية لبعضهم البعض، لا باعتبارهم أشياء مادية بل بما هم بشر، وإن الكثرة البشرية الشرط الأساسي لكل من الفعل والكلام، تملك الطابع المزدوج للمساواة والتميز. فإذا لم يكن البشر متساوين فإنه لن يكون بإمكانهم أن يفهم بعضهم البعض، ولا أن يفهموا من أتوا قبلهم ولا أن يخططوا للمستقبل ويتوقعوا حاجات من سيأتون بعدهم “14”، وبالتالي لن يستطيعوا إنشاء عالم مشترك.
ويتميّز أيضا “الفعل” بهشاشته sa fragilité، إذ الخوف من العنف يُمَكِّنُهُ دائما من الوصول إلى استعادة توازنه، أما دائرة الحياة والموت فهي على الدوام تشكل تقطعًا وتعطلًا للمحادثة، لكنّها أيضًا تجددها.
· عصر الاغتراب:
في آخر فصل من كتابها، الفصل المعنوَن بـ”الحياة العملية والعصر الحديث”، تلخص حنة أرندت من خلال الأطروحة التي تمسكت بها، حديثا عن عصر الإنسان الحديث إلى وصفه بعصر العزلة والاغتراب، والذي فيه تمّ فقدان المعاني السياسة والمشترك والفعل، باحثةً بذلك عن نقطة ارتكاز أرخميديسية، ومن أجله لا بد إعلان هزيمة الإنسان الصانع والانتصار للحيوان العامل. إذ إن الإنتاجية والقدرة على الصناعة التي كانت ستصبح المثل العليا، بل أقانيم العصر الحديث في بداياته، هما معايير خاصة بالإنسان الصانع باعتباره مشيّدا وصانعا “15”. حيث أن التقدم التقني سمح للبعض أن يضفروا ببعض وفرة abondance البضائع، إلا أنه أمر تطلب دفعًا غاليِا جدًا، متعلّقًا بفقدان معاني المشترك: الفقدان السياسي، إذ أن الفعل من حيث هو متميز عن الصنع ليس ممكنًا بالانعزال والاغتراب، فأن يكون المرء منعزلًا معناه أن يكون محرومًا من ملَكة السعي.
إنه بالنسبة لحنة أرندت، الزمن المناسب للعودة إلى المثالي القديم: إلى معاني السياسي والفعل والتصرف، agir الحقيقي؛ إذ ترى بأن الفعل مسار من الصَفح والوعد promisse لا يقبلان التراجع بعد أن قامت بالجمع بين فعلين كلاسيكيين هما القيام بـ faire والتصرف، وبالتالي فهذه الفيلسوفة تسعى طيلة كتابها هذا وما سيليه من كتب إلى إعادة بناء الفضاء السياسي، وِفقَ شرعية سياسية.
المصادر 1 اعتمدنا في دراستنا هذه، على الترجمة العربية: حنة أرندت، الوضع البشري، ترجمة هادية العرقي، جداول ومؤسسة مؤمنون بلا حدود، 2015. 2 Thomas Hobbes, De la nature humaine, Version numérique par Jean-Marie Tremblay, Les classiques des sciences sociales, P. 7. 3 زهير الخويلدي، أولانية دراسة الوضع البشري: https://annabaa.org/arabic/authorsarticles/2720 4 حنة أرندت، المرجع السابق، ص 27. 5 المرجع نفسه، ص 29. 6 المرجع نفسه، ص 119. 7 المرجع نفسه، ص 44. 8 المرجع نفسه، ص 82. 9 المرجع نفسه، ص 91. 10 زهير الخويلدي، العمل والحرفة والفعل، الحوار المتمدن-العدد: 2645 - 2009 / 5 / 13 11 حنة أرندت، الوضع البشري، ص 160. 12 المرجع نفسه، ص 195. 13 المرجع نفسه، ص 201. 14 المرجع نفسه، ص 197. 15 المرجع نفسه، ص 320.