متلازمةٌ خطيرةٌ تصيب عقولكم !
قلائل من البشر اليوم، من يصابون بها، إلّا أنّها – من دون أدنى شكّ – متلازمةٌ مختلفةٌ نوعًا وعوارض! فإذا كنت تعاني من أزمة ماليّة لأنّك لا تستطيع مقاومة شراء كتب جديدة، فاعلم أنّك مصاب بما يسمّى متلازمة “جمع الكتب” (Bibliophilia) الّتي تجعلك “دودة كتب” (Bookworm).
لا بدّ أنك قابلت أو كنت أنت نفسك من هؤلاء الّذين يستهويهم شراء الكتب بكثرة وتكديسها، ومن يشعرون بإحساس مرهف يدفعهم إلى الإفراط بالنّظر إلى المكتبات المكتظّة جدرانها بالكتب والمجلّدات.
متلازمة “جمع الكتب” هي ببساطةٍ، شخص شغوف بالقراءة، هادئ الطبع، لا يهتمّ كثيرًا بمنظره الخارجيّ ويميل إلى أخذ الكتب معه أينما ذهب. منزله عبارةٌ عن زوايا، تملؤها أكوامٌ من الكتب البارزة العناوين بالإضافة إلى مكتبة تعبق برائحة الورق!
لي زميلٌ في الجامعة، مصاب بهذا الدّاء النّادر، أنفق كلّ ما جمعه خلال عمله كأستاذ في إحدى المدارس على شراء خزانة يضع فيها، ما جمعه من دواوين ومجلّدات وكتب على مرّ السّنين، كان يتنقّل بعجلة غريبة بين أقسام الجامعة حاملًا في حقيبته الثّقيلة مجموعة متنوّعة من الكتب بلغات شتّى. لا يحبّ الثّرثرة، إلّا أنّه ما إنْ تبدأ حصص عرض الأبحاث، حتى يبدأ بذكر مصادر ومراجع، قديمة وحديثة، عن الموضوع المطروح. ويكاد لا يصيب الهدف المطلوب مباشرةً، لكثرة ما منحته تلك المتلازمة من ثقافة واسعة، باتت منقطعة النّظير في أيّامنا هذه. ولعلّ أبرز ما يميّزه، هو ذلك الرابط التشعّبي (Hyperlink)، الّذي ينقلك من معلومة إلى أخرى بأسلوب رصين ينمّ عن سعة في النظر وعمق في المعرفة.
“كلّما زادت معرفتنا بالكتب الجيّدة، تقلّصت دائرة الناس الّذين تروقنا صحبتهم.”
~ لودفيغ فويرباخ ~
دائمًا يطمع بمزيد من الكتب، ولا يحكم على كتاب من غلافه، ولكنْ يُقلقه همّ الاختيار بين الغلاف الصّلب أو الورقيّ ! لا يفوته معرض كتاب؛ كنّا إذا زرنا إحداها، يمضي ساعات طويلة بين الرّفوف، يبحث بعناية ودقّة عن الكتب القيّمة إلى جانب دائرة معارفه. فقد يبدو من الخارج انعزاليًّا وانطوائيًّا، إلّا أنّ أصدقاءه لا بأس بعددهم، وهم على غرار كتبه الّتي لا يعيرها لأحد، متنوّعي المشارب الفكريّة. لا أبالغنّ، إن قلت لك إنّه إذا أراد الارتياح من تعب الأبحاث الجامعيّة أو من حزن اعتراه لسبب ما، يتوجّه إلى مكتبته ليتفقّد خاصّته، ثمّ يُخرج إحداها ويبدأ بنهل ما تحتويه ولا يتوقّف إلّا عند ساعات الصباح الأولى.
شتاؤه، سريرٌ وغطاءٌ وفنجانُ قهوة، ورحلةٌ طويلةٌ في عوالم المعرفة والقراءة. إنّه فعلًا من الطّراز النّادر من البشر! ولا يفوتني أخيرًا، إخبارك أنّ عوارض هذه المتلازمة تزداد حدّةً في هذا الفصل؛ إذ يصعب على “دودة الكتب” شراء الكتاب المناسب، فتبدأ دورة “الاقتناء العشوائيّ”، لكتب لا حاجة ماسّة لها ! ولكنّ لا بدّ للمستقبل أن يبرهن عن قيمتها ويبرّر ضرورة اقتنائها.
العالم العربيّ…أزمة كتب أم أزمة قراءة؟
أفضّل الكتاب الورقيّ، ولكنّي أؤمن أنّه لا بدّ من تقبّل حقيقة التطوّر التكنولوجيّ الّذي لا مفرّ من التعامل معه، بالرّغم من اعتراضات الكثيرين عليه، وازدياد تخوّفهم من أن تحلّ الكتب الإلكترونيّة محلّ الكتب الورقيّة – وهذا موضوع آخر – يُمكن تناوله بالنقد في مراحل لاحقة.
في الواقع، إنّي أرى أنّ العالم العربيّ يعيش أزمة قراءة على المستوى الفرديّ وليس أزمة كتاب؛ فالمشهد الثقافيّ العربيّ، يكشف اليوم عن نسب لا بأس بها من الإصدارات الأدبيّة والفلسفيّة والأبحاث العلميّة، يُضاف إليها ما يُعرّب من كتب أجنبيّة متنوّعة المجالات.
وعلى عكس ما يتمّ تداوله بأنّ العربيّ لا يقرأ إلا 6 دقائق، جاءت نتائج مؤشّر القراءة لعام 2016 مغايرة للأرقام التي نُشرت عن المنطقة العربيّة سابقًا؛ فقد أظهرت مختلف الأرقام المسجّلة إقبالًا ملحوظًا على القراءة لدى المواطن العربيّ، وذلك بمعدّل 35 ساعة سنويًّا.
وبالرّغم من هذه الأرقام المشجّعة، لا يمكننا الادعاء بأنّ وضع القراءة في العالم العربيّ هو في أفضل حالاته، خصوصًا وأنّه لا توجد على حدّ علمي أيّ دراسة إحصائيّة نوعيّة حول موضوعات الكتب الّتي يُقبل إليها القارئ العربيّ.
ولا شكّ أن الأزمات السياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة، الّتي عصفت بالعالم العربيّ، كان لها تأثير على معدّلات الإصدارات وتراجع نسب القرّاء العرب، ولكنّ ما يُشاع من تبريرات حول تراجع القراءة بسبب التطوّر التكنولوجيّ وتحوّلها إلى مصدر إلهاء، تسقط – من وجهة نظر برغماتيّة – أمام المجتمع الغربيّ وكيفيّة تعامله مع التكنولوجيا الّتي أنتجها؛ حيث يُبرهن المشهد الثقافيّ الغربيّ أنّ المجتمع – بكلّ فئاته – لا يزال يستعمل الكتب الورقيّة إلى جانب الكتب الإلكترونيّة.
في الميترو، في المطارات، في الحدائق العامّة وفي المكتبات بطبيعة الحال، ما زال هناك إقبالٌ على شراء الكتب وتوفير الوقت لقراءتها، فمتى نصل في وطننا العربيّ إلى تلك المرحلة المتطوّرة من الألفة مع الكتاب ؟
ويبدو جليًّا أنّ أسباب تراجع هذه الظاهرة في الوطن العربيّ، تعود في معظمها إلى سبب واحد، ألا وهو غياب التّحفيزات التربويّة الّتي تُشجّع على القراءة؛ فالنّظام التربويّ العربيّ، يعتمد على مناهج تعليميّة رتيبةٍ مضادّةٍ للإبداع؛ سبعُ حصصٍ يوميًّا وأساليب تعليميّة تعتمد على “التّلقين”، وعلى سوء توظيف “للطرائق النّاشطة” في أغلب الأحيان. ولا نغفل تلك الواجبات الكثيفة المرهقة الّتي يعانيها الآباء قبل الأبناء، والّتي يستغرق إنهاؤها الوقت عينه الّذي يمضيه الطّالب في المدرسة. فكيف يجد الطالب في هذا النّظام المتخم وقتًا للقراءة؟
المواد التعليميّة سواء أكانت لغويّة أم علميّة- إلى جانب قيامها على نظام الكفايات – لا بدّ لها في مرحلة معيّنة أن تدفع الطالب بالبحث عن مصادر المعلومات وأن تُكسبه كفاية استعمال ما قرأه في كتابة الأبحاث والنّصوص والمقالات (Essays and Articles). ولعلّ ما يميّز النّظام التعليميّ في الدّول المتقدّمة، اعتماده على هذا الأسلوب بالتّحديد في عمليّة التّدريس، والّذي يخلق لدى الطّالب حبّ اكتشاف المعلومات أو الحشرية العلميّة، فيندفع – تلقائيًّا – إلى البحث عن الكتب والقراءة بشغف، في حين يعلق الطّالب العربيّ بفروض وواجبات لا تقدّم له سوى معرفة آنية تنتهي بانتهاء الفصل الدّراسيّ.
والقراءة في النّظام المدرسيّ العربيّ، تغدو “أشغالًا شاقّة”، خلال أيّام الاجازة؛ يفرض المدرّس الكتاب نفسه على جميع الطلّاب والّذي قد لا يناسب أذواقهم، فيحرمون من حقّ الاختيار ومن متعة قراءة ما يريدون. وغالبًا ما يكون الكتاب مرفقًا ببيان مطالعة، يحتوي على أسئلة محضّرة مسبقًا ليس الهدف منها سوى تقييم سطحيّ لوضع علامة سطحيّة! فأين نصيب التّعليم هنا من الخلق الإبداع؟! وما يزيد من إرهاق الطّالب ويكون سببًا في عزوفه عن القراءة، دورات التّقوية لإنهاء المناهج، فضلًا عن “أوراق الدّعم” في العطلة الفصليّة والصيفيّة. فمتى يجد الطّالب بين واجباته المدرسيّة، قسطًا من الرّاحة ليعاود نشاطه ؟! وهل يبقى لديه من صفاء الذهن، ما يدفعه لإخراج كتاب يسبح بين ضفّتيه ؟! ومن أين لنا بمبدعين ومثقّفين بين حفظة الكتب الببغاويّة ؟! قد لا يكون الإبداع والثّقافة، قائميْن على القراءة بشكل أساسيّ، ولكنّ الموسيقى والرّسم والرّقص وحتّى ممارسة الرّياضة، لا تجد لها مكانًا بين قائمة أعمال الطّالب (to do list).
أمّا السّبب الثاني، فيكمن في ندرة المكتبات العامّة وخلوّ معظمها من الكتب القيّمة، فغالبًا ما تحوي هذه المكتبات نسخًا متعدّدة من الكتاب نفسه، فضلًا عن رفوفها الفوضويّة والعشوائيّة. ففي عصر السّرعة، تفتقر غالبيّة المكتبات إلى نظام رقميّ للبيانات (Database)، يُمكّن القارئ من توفير الوقت لإيجاد الكتاب الّذي يريد. ويُزاد على هذه الأسباب المذكورة آنفًا، غيابُ دور الآباء كقدوة أولى لغرس بذور الاهتمام بالكتاب والقراءة. فالأسر العربيّة، تكتفي بالاطّلاع على أخبار الصّحف اليوميّة التي تمرّ اليوم في طور التّحوّل إلى صحف إلكترونيّة، ولا تميل في المقابل لشراء الكتب أو الحرص على اقتنائها؛ فالطّفل الّذي يرى أباه وأمّه أو أحد إخوته يحتضنُ كتابًا ويقرأ فيه، فسيقوم بمحاكاتهم. وهكذا تنتقل هذه العدوى، ومع مضيّ الوقت يتحوّل المرء من “يرقة كتب” إلى “دودة كتب”.
الزّمن يتغيّر باستمرار ولم يعد هناك صعوبة في الوصول إلى مصادر المعلومات والكتب، فكثيرة هي اليوم المواقع الإلكترونيّة الّتي يُمكن أن تختار، من بين ما تعرضه من كتب، الكتاب الّذي يروق لك وأن تضغط على شاشتك الصغيرة، فيصبحُ الكتابُ أمام عتبة منزلك عبر خدمة التّوصيل الزاهدة الثمن والمجّانيّة في أغلب الأحيان !
إذًا التحوّل إلى “دودة كتب”، ليس استعدادًا بالفطرة إنّما هو بالممارسة والتّشجيع؛ فقد تكون كثرة القراءة ضرورةً دراسيّةً ولكنّ ذلك لا يعني أنّ القارئ هو “دودة كتب”. فهذه المتلازمة يرافقها تعلّق بالكتب من دون وجود أيّ سبب مباشر يُجبر القارئ على القراءة.
وفي التّاريخ العربيّ، قديمه وحديثه، من عرفوا بملازمة الكتب وبولعهم بالقراءة حتى أصبحوا مضرب المثل في ذلك؛ مثل الكاتب الموسوعي العقّاد، وهو أحد أعمدة الأدب والعلم، ومن المساهمين بشكل كبير في إغناء المكتبة العربيّة بأكثر من مائة كتاب في مختلف المجالات. يرى العقّاد، أنّ القراءة هي وسيلة لكي يزيد من قدرته على فهم الحياة وكشف أغوارها.
لست أهوى القراءة لأكتب، ولا أهوى القراءة لأزداد عمرًا في تقدير الحساب…وإنّما أهوى القراءة لأنّ عندي حياةً واحدةً، وحياة واحدة لا تكفيني، والقراءة – دون غيرها – هي الّتي تعطيني أكثر من حياة، لأنها تزيد هذه الحياة من ناحية العمق.”
~ العقّاد ~
ومن منّا لم يسمع بالجاحظ الّذي قضى حياته يقرأ بشغف حتى قيل إنّه توفّي بانهيار الكتب عليه. وبالرّغم من براءة “الكتب” من هذه الحادثة، فإنّنا لم يُمكن إلّا أن نقف عند أهميّة هذا الروائي البارع والناقد السّاحر وما وصلنا منه من روايات وكتب، هي نتاج تلك المتلازمة الّتي جعلته يبيت في دكاكين الورّاقين لإتمام قراءة الكتب.
الكتاب وعاءٌ مُلِئَ علماً، […]، وإناءٌ شُحِن مُزَاحًا وجِدًّا؛ […] إن شئتَ ضَحِكْتَ مِنْ نوادِرِهِ، وإن شئتَ عَجِبتَ من غرائبِ فرائِده، وإن شئتَ ألهتْك طرائفُه، وإن شئتَ أشجَتْك مواعِظُه، وَمَنْ لَكَ بِوَاعِظٍ مُلْهٍ، وبزاجرٍ مُغرٍ، وبناسكٍ فاتِك، وبناطقٍ أخرسَ، وبباردِ حارّ […]، وَمَنْ لَكَ بشيءٍ يَجْمَعُ لَكَ الأَوَّلَ والآخِر، والناقص والوافر، والخفيَّ والظاهر، والشاهدَ والغائبَ […] ولا أعلَمُ جارًا أبرَّ، ولا خَليطًا أنصفَ، ولا رفيقًا أطوعَ، ولا معلِّمًا أخضعَ، […] يجمَعُ من التدابيرِ العجيبَة والعلومِ الغريبة، ومن آثارِ العقولِ الصحيحة، ومحمودِ الأذهانِ اللطيفة، ومِنَ الحِكَم الرفيعة، والمذاهب القوِيمة، والتجارِبِ الحكيمة، ومِنَ الإخبارِ عن القرون الماضية، والبلادِ المنزاحة، والأمثالِ السائرة، والأمم البائدة، ما يجمَعُ لك الكتابُ”
~ الجاحظ ~
قد تختلف أسباب الولع بالقراءة، إلّا أنّ جميع المصابين بهذه المتلازمة يتّفقون على اعتبار القراءة ضرورة حياتيّة إنسانيّة، كالطّعام والماء والهواء. وهذا ليس هذا بغريب، فإنّ درجة رقيّ مجتمع ما تقدّر بارتفاع نسب الباحثين والأدباء والمبدعين والعلماء والمثقّفين من القرّاء.
عندما تصبح المكتبات في البيت ضرورة كالطّاولة والسّرير والكرسيّ والمطبخ، عندئذٍ يُمكن القول بأنّنا أصبحنا متحضّرين.”
~ ميخائيل نعيمة ~
لا تزال القراءة مؤشّر التحضّر في المجتمعات الإنسانيّة، بالإضافة إلى تعدّد إصدارات الكتب وتنوّعها. ولا تحتاج أزمة القراءة في العالم العربي إلى مزيد من التّوضيح، فهي جزء من الأزمة الحضاريّة الّتي لا يُمكن أن نخرج منها إلّا عبر تعميم “ثقافة التّصالح” مع الكتاب بدءًا من المجتمع المصغّر أي الأسرة والمدرسة، وصولاً إلى المجتمع الأكثر تشعّبًا كالجامعات ومراكز العمل.