خلطة “آلان دو بوتون” السحرية.. هل تنجح في علاجنا من قلق السعي إلى المكانة؟!!
إنها خلطة “آلان دو بوتون” السحريّة التي جربتها من قبل في “عزاءات الفلسفة” ودفعتني متلهفةً لقراءة هذا الكتاب الذي يمكن أن يغري عنوانه كل إنسان يعيش حياتنا اليوم، تلك الخلطة التي يمزج فيها “دو بوتون” ملاحظاته الدقيقة لأعمق مخاوفنا ورغائبنا بحكايات ممتعة من كل زمان ومكان مع نظرات فلسفية عميقة وروح مرحة تبثّ سخريتها بين السطور حتى في أشد المواضع جدية ورصانة، تلك الخلطة التي تشدك عبر صفحات الكتاب مندهشًا مستمتعًا نهمًا حتى آخر سطر دون لحظة واحدة من الملل.
فكرة الكتاب الرئيسية تدور حول مشكلة يبحث المؤلف “آلان دو بوتون”في أسبابها محاولًا إيجاد حلول حقيقية لها.
المشكلة هي: قلق السعي إلى المكانة.
والأسباب هي: افتقاد الحب، الغطرسة، التطلع، الكفاءة، الاعتماد.
والحلول هي: الفلسفة، الفن، السياسة، الدين، البوهيمية.
يشرح المؤلف أولًا ما يعنيه بقلق السعي إلى المكانة فيقول أنّه قلق خبيث يفسد مساحات شاسعة من حياتنا ويساورنا خشية الفشل في مجاراة قيم النجاح التي يضعها مجتمعنا، وخشية أن يجردنا هذا الفشل من شرف المنزلة والاعتبار، قلق من كوننا نشغل درجة متواضعة في السلم الاجتماعي وأننا قد نهبط إلى درجة أدنى عما قريب.
يحاول المؤلف في الجزء الأول من الكتاب استكشاف أسباب ذلك القلق فيجمِلَها في خمسة أسباب يشرح كلًا منها بالتفصيل وأنقلها هنا بإيجاز:
1- افتقاد الحب: يرى المؤلف أن الدافع وراء تحصيل الثروة والشهرة والجاه وما يجلبونه من مكانة ليست هي الأمور نفسها وإنما الحب الذي يمكن أن نتلقاه بسببها فهي مجرد وسائل إلى الحب الذي هو غاية يسعى كلٌ منّ إليها.
2- الغطرسة: الإهمال واللامبالاة هما العقاب المعنوي الذي يوقعه المتغطرسون بالفقراء، فأيٌّ منّا لا يتحمل أن يكون خارج دائرة الاهتمام بدون مكانة ولا اعتبار في أعين الآخرين، وهذا بالضبط ما يمارسه المجتمع المتغطرس تجاه من يشغلون مكانة دُنيا في السلّم الاجتماعي.
3- التطلع: رفعت المجتمعات الغربية الحديثة كثيرًا من سقف طموحات الإنسان المعاصر وأشعلت تطلعاته نحو المزيد من الإنجازات مما أورثه قلقًا دائمًا ومقارنات وحسدًا تجاه أقرانه خوفًا من أن يكون في منزلة أقل منهم، فعلى عكس المتوقع كلما زادت تطلعات المرء كلما قل تقديره لذاته وهذا هو جوهر مأساة إنسان العصر.
4- الكفاءة: كانت المجتمعات القديمة تؤمن بتراتبية معينة فثمّة أغنياء وفقراء ونبلاء وفلاحين وثمة وراثة وظروف تؤدي إلى تلك التراتبية لايُعاقب عليها الأقل شأنًا ولا يشعر بالخزي تجاهها،أمّا المجتمعات الحديثة فتزعم أنها حققت قيم المساواة التامة ومنحت الفرصة لكل إنسان ليكون ما يريد بجدّه واجتهاده وذكائه ومن هنا يجيء عقابها صارمًا لكل من يفشل في تحقيق مكانة متميزة في المجتمع، ففي حين كان لفقراء الأمس أن يشعروا بالرضا والامتنان والسكينة رغم فقرهم، لا يلقى فقراء اليوم سوى الخزي والمهانة ووصمة الفشل التي تجعلهم دومًا حانقين على أوضاعهم المتدنية.
5- الاعتماد: رغم زعم المجتمعات الحديثة تبنيها لقيم المساواة والكفاءة إلا أن تحقيق الإنسان مكانة ما في عالم اليوم مرتبط بأمور متقلبة وشديدة التغير منها الموهبة والحظ ومزاج صاحب العمل وطلبه للربح ومصلحة الاقتصاد العالمي، وكلها أمور لا يمكن الاعتماد على استقرارها أبدًا مما يوقع الإنسان في قلق دائم لا يهدأ ساعيًا وراء مكانة لا تكاد تُدرك حتى تزول.
يحاول المؤلف في الجزء الثاني البحث عن حلول نواجه بها هذا القلق ونشفي أنفسنا منه، وهي خمسة حلول أنقُلها بإيجاز:
1- الفلسفة: يرى المؤلف أن خلاصة نصائح الفلاسفة هي أن نتبع العلامات الداخلية لوعينا وضميرنا وليس الإشارات الخارجية من استحسان أو استهجان، فالذي يهم حقًا ليس هو صورتنا في أعين الآخرين، بل ما نعرف نحن عليه في داخلنا.
2- الفن: يرى المؤلف أن الحياة الإنسانية ظاهرة تحتاج إلى نقد فالبشر كائنات ناقصة قاصرة الفهم وهم لذلك عرضةً لمخاطر دائمة وقلق ومخاوف ورغبات قد تكون في غير محلها، والفن بأشكاله المختلفة هو وسيلة لنقد الحياة ومواجهة مخاوفها ومن ضمن هذه المخاوف قلق السعي إلى المكانة، وبالتالي يستعرض المؤلف بطريقة ممتعة للغاية روايات ولوحات وقصائد حاولت تفنيد السبل المتبعة لتحديد منازل الناس ودرجاتهم في المجتمع واتباع أسلوب مغاير لتخيل النموذج الأمثل للحياة الطيبة، كان هذا الجزء مشوقًا جدًا بالنسبة لي وأحببت ثقافة المؤلف الواسعة وأمثلته المتنوعة وتحليله العميق لأعمال أدبية وفنية بارزة.
3- السياسة: بالنسبة للمؤلف فإن الوعي السياسي لمجتمع ما يتمثل في قدرته على نقد ما يقدمه النظام الحاكم بوصفه حقائق بديهية، فرغم أن أنظمة الحكم المعاصرة تعتبر أن مراكمة المال هي المؤشر الوحيد على الإنجاز إلا أننا يجب أن نفهم أن هذا تصور حديث للغاية ومتغير ولا يقوم على أي منطق، ولطالما كانت للمجتمعات المختلفة عبر العصور والأمم معايير مختلفة تمامًا لتحديد منازل الناس في المجتمع فبعضها كان يعتبر القوة هي الأهم والبعض كان يعتبر التدين هو الأهم والبعض كان يعتبر الذكاء وهكذا، وبالتالي فإن مراكمة المال شأنها شأن أي ميزة أخرى مجرد وسيلة لتحقيق مكانة ما وليست هي كل الوسائل وكل الغايات.
4- الدين: عبر ثلاثة أفكار جوهرية يعالج الدين كما يراه المؤلف (ورغم أنه اعتمد على الدين المسيحي في ذلك إلا أنني رأيت هذه الأفكار جوهرية في كل دين سماوي ولذلك أوجزتها هنا وفق الرؤية الإسلامية لها) قلق السعي إلى المكانة، هذه الأفكار هي الموت والتأمل في خلق السماوات والأرض والمساواة بين الناس أمام الله، فالموت ينهي كل تفوق عسكري وسلطة وجاه وثراء ليصبح بعد زمن وجيز مجرد ذكرى، وإذا كان الأمر كذلك فعلام ينغّص الناس حياتهم من أجل مساعٍ بائسة مثل تلك سيصيرون بها وبدونها ترابًا ذات يوم، فالمؤمن يدرك جيدًا قِصَر تلك الحياة الدنيا قياسًا إلى الخلود الأُخروي وهو لذلك لا يبدد مساعيه من أجل أمور زائلة لن تنفعه بشيء في حياته الآخرة “والآخرة خير وأبقى”. كذلك من شأن التأمل في خلق السماوات والأرض أن يشعر الإنسان بضآلته وسط هذا العالم الفسيح وخلقه المحكم المتقن فلا يغتر ولا يتكبر بمكانة زائفة “ولا تمشِ في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا”، كذلك يشعر المؤمن بانتمائه إلى أخوّة المؤمنين المتحابة فلا يتكبر عليهم ولا يرغب في التميز الأعمى على الآخرين ولا ينفر من أن يكون شخصًا عاديًا مثل كل شخص آخر “يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة”، فالدين هو ما يقاوم حقًا نزعات التميز الفرداني الحديث القائمة على مظاهر مادية سطحية ويقومها ليعيدها إلى تصور روحاني مختلف لا أفضلية فيه إلا للتقوى والعمل الصالح الذي يرضاه الرب جل وعلا “لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى”.
5- البوهيمية: لم أحب هذا الجزء من الكتاب ولم أقتنع بجدواه لكن يمكن القول حسب رؤية المؤلف أنّ أهمية الحركة البوهيمية بأعم صيغة ممكنة هي نشدان طريقة بديلة للحياة يُمكّن فيها للقيم _التي تجاهلتها البرجوازية_ لتنال صلاحية وحظوة، ثمة فكرة وحيدة أعجبتني هنا وهي أن الإنسان يجب أن يحيط نفسه ببيئة مشابهة له وأصدقاء يعينونه على التمسّك بقيمِه وتوجهاته في الحياة حتى لا يضعف إزاء تأثير تيار المجتمع السائد عليه.
خاتمة
فكتابنا هذا لا يمكن وصفه إلا بأنه ممتع، فعلى العكس من أسلوب “زيجمونت باومان” الفلسفي الرصين في تحليل مجتمعات ما بعد الحداثة كما وضحنا في كتاب ”الشر السائل” من قبل، يسلك “آلان دو بوتون” هنا نهجًا مختلفًا يعالج فيه إشكاليات عميقة في حياتنا المعاصرة بخفّة ومرح وسلاسة باسطًا روحًا من التفاؤل والإرادة والأمل.