ترقص على انفراد: حينما تحول “الفالس” إلى الرقص المنفرد (مترجم)
جريت فيزنتال؛ راقصة باليه من فيينا جعلت من الفالس رقصًا حديثًا وآلية للتعبير المنفرد.
يمكن لرقص الفالس أن يستمرّ لساعاتٍ في استداراتٍ لا نهائية، بينما يتشابك الراقصان بالأيدي ويدوران حول منصّة رقصٍ ممتلئة بالراقصين، وتتطلب رقصة الفالس كمًا هائلًا من التواصل الجسديّ ؛ مما أدَّى إلى اعتبارها نوعًا من المتعة المَعِيبَة “Guilty pleasure” حتّى مطلع القرن التاسع عشر؛ عندما نجحت شعبيّتها أخيرًا في الإطاحة بمعايير اللباقة. وفي أيامنا هذه خلال جائحة فيروس كورونا يثير الرقص التشاركيّ مجددًا شيئًا من الاستنكار.
أنهت موجة من الإلغاءات في فيينا – موطن الفالس- موسم الرقص السنويّ؛ فعادةً ما تحيي المدينة في شهريّ كانون الثاني وشباط المئات من الاحتفالات الفاخرة والتي من بينها حفل رأس السنة الراقص، وحفل هوفبورغ لرأس السنة في القصر الإمبراطوري. وبعد انتهاء أحداث هذا العام مباشرةً بدأت الإغلاقات، وتوقّف التخطيط لبرامج الموسم الجديد.
وتشتهر رقصة الفالس باعتبارها هي أفضل الرقصات الاجتماعية التي يؤدّيها شريكان، وذلك للطريقة التقليدية التي تُؤدَّى بها في الحفلات الراقصة.
لكن هناك تفسير آخر لقي صدى في هذا العام الوبائي من التباعد الجسدي؛ فمنذ ما يزيد على قرنٍ مضى؛ حوّلت راقصة فيينا جريت فيزنتال رقصة الفالس إلى شكلٍ قويٍّ من أشكال الحركة الفردانية.
حينما أدّت فيزنتال أولى رقصاتها، بدورانها وحركتها المبهجة وانحناءات جسدها، أصبحت بطلةً للرقص الحرّ في فيينا، بل وقوةً ثقافيةً في الأوساط الفنية العليا في المدينة.
وعلى الرغم من أن اسمها لا يذكر في العادة بين رواد الرقص الحديث المعروفين دوليًا مثل ايسادورا دانكان وروث سان دينيز ولوا فولير؛ إلا أن لفيزنتال مكانتها داخل النمسا؛ حيث يُعاد إحياء رقصاتها بشكلٍ دوريٍّ منذ وفاتها قبل خمسين سنة.
وعلى غرار العديد من بنات فيينا؛ فقد نشأت جريت فيزنتال، المولودة عام ١٨٨٥م مع رقص الفالس، إلا أنها تدربت في مجال الباليه الكلاسيكي، ثمّ صقلت أسلوبها في مدرسة أوبرا فيينا كورت، وهو مكانٌ -كما أصرت لاحقا- يخلو من التركيز على البراعة الفنية.
كان الأسلوب الفرديّ في رقص الفالس هو إجابة فيزنتال على ما تعتبره ضعف علاقة الباليه بالموسيقى؛ فرأت في الشكل الفني للأوبرا والأعمال التي تنتجها التزاماتٍ بائسةً بالتماثل، مع انعدام المساحة للراقصين للتعبير عن أنفسهم.
وقامت فيزنتال بتطوير أسلوبها، وأسمته الرقص الدائري الذي كان مرتكزًا على محورٍ مختلفٍ عن الباليه؛ حيث ترتكز الالتفافات والامتدادت على خطٍ أفقيٍّ للجسد، وليمتدّ جذعها وذراعاها وساقاها معا عبر الفضاء في آن، وكانت تتحكم باندفاع التفافاتها مستخدمةً ركبتيها المثنيّتين، وكان بإمكانها أن تميل بانحناءاتٍ خلفيةٍ تشبه الهلال، ومع عدم تقيّدها بشريكٍ في الرقص؛ كان ذراعاها يتمايلان برشاقةٍ مغرَقةٍ بإمالاتها التي تتحدى قوانين التوازن.
كان الدوران في رقصاتها، كما في رقص الفالس، حركةً دقيقة، وبينما كانت معاصرتاها “دانكن” و”سان دينيس” قد تحولتا أيضا إلى الحركة الحرّة وبأوضاعٍ أكثر انفتاحًا من الباليه، إلا أنهما ظلتا تعتمدان الرقص العامودي، أمّا جذع فيزنتال فلم يكن ثابتًا في وضعيةٍ مرصوصةٍ فوق خصرها؛ مما سمح لها بخلق زوايا أكثر اتساعاً.
كما استمدّت وايزنثال إلهامها من الطبيعة؛ فبالإضافة إلى المسارح الصغيرة، غالبًا ما أدّت رقصاتها في الهواء الطلق، مزيلةً الحاجز بين الجمهور والمسرح، وابتكرت رقصاتٍ عكست العناصر والبيئة المحيطة بها.
تقول المؤرّخة الثقافية ومؤلفة كتاب “الحقيقة العارية: الحداثة في فيينا والجسد“، “The Naked Truth: Viennese Modernism and the Body” (2020) في إحدى مقابلاتها أنّ من هم في الطليعة الفنية في فيينا والذين عشقوا دانكان وسان دينيس كانوا متحمسين لمواطنتهم فيزنتال عندما أطلقت أسلوبها المعاصر.
وتضيف قائلة: “كان ذلك منعشًا للمدينة، لأن وايزنثال أخذت بالفعل هذا النوع من الرقص، أي الفالس، وأعطته فرصةً جديدةً للحياة. حرّرته من الصالات، وأخرجته إلى الهواء الطلق، ووثّقت صلته بالطبيعة أيضًا، لكنها حافظت على روابطه مع الموسيقى التي حرّكت المجال الثقافي في فيينا.”
أحبّ سكان فيينا الفالس لعدة قرون؛ فكانت بداياته في القرن الثامن عشر كرقصٍ ريفيٍّ شعبيٍّ وجامحٍ في أجزاء من ألمانيا والنمسا، وسرعان ما انتشر بين الطبقات الإجتماعية، ليرتقي ويبرز بين الطبقات العليا والأرستقراطية كشكلٍ راقي من أشكال الترفيه، وفي فيينا، انفصل الفالس – في شكله الحضري تحديدًا، والذي يتميز ببنية العدّات الثلاث للموسيقى الراقصة على سرعات عالية – عن المينويت الضيق في مطلع القرن التاسع عشر، ونشره مؤلفون موسيقيون مثل جوهان ستراوس الأب وجوزيف لانر في سائر أرجاء العالم.
عثرت فيزنتال في الفالس ما اعتقدت أن الباليه قد افتقر اليه: الموسيقيّة؛ فتقول في محاضرةٍ لها عام 1910: “لم يعرف أحد شيئًا حول نشوء الموسيقى والحركة معًا، فأمسى أملي برقصٍ مختلف، وأكثر صدقًا، أقوى وأوضح في الوقت نفسه، وتعلّمت مع رقص الباليه الطرق التي ينبغي على الراقص عدم اتباعها.”
على الرغم من خيبة الأمل التي أصابتها جراء رقص الباليه؛ فقد بدأت حياتها المهنيّة مع دار الأوبرا في فيينا، ورقصت هناك لعدة سنوات، ثم غادرتها على إثر خلافٍ على قرارٍ يتعلّق بتوزيع الأدوار وضعها في قلب معركة بين غوستاف مالر مدير الأوبرا آنذاك، وجوزيف هاسريتر أستاذ رقص الباليه؛ فقد أسند مالر إلى فيزنتال – وهي عضو في فريق الباليه — دورًا منفردًا في “la muette de portici” ما أغضب هاسريتر وعارض بشدةٍ رغباته.
وبعد مضيّ أشهرٍ قليلة على العرض الأول من “la muette” غادرت فيزنتال الفرقة، بل وكما وصفتها هي: حياة من “الحفاظ على الإيقاع وعدم الخروج عن الخط.”
ومع بدايات سنة ١٩٠٨ قدّمت فيزنتال وأختاها إلسا وبيرتا عرضًا راقصًا أصليًّا في ظهورهنّ الأول في كاباريه فليديروس؛ فرقصن معًا وأدّت كلٌّ منهن أداءً منفردًا، إلا أن أداء فيزنتال المنفرد لوالس الدانوب”Donauwalzer” لموسيقى شتراوس “على نهر الدانوب الأزرق” كان العمل البارز في البرنامج. (عندما أصبحت مشهورة، كان موسيقيّو الشارع يعزفون لها خصّيصًا فالس شتراوس؛ كما قالت الراقصة لا ميري بعد عقود.)
رقصت الأخوات فيزنتال في فيينا وبرلين، وفي العام ١٩٠٩ ظهرن على مسرح هيبودروم بمدينة لندن، حيث حققن نجاحا باهرًا، فكتبت صحيفة “The Dancing Times” عنهن: “أنهنّ لسن مجرّد راقصات، بل كنّ قصائد شعر.” وفي ١٩١٢ حين قدمت فيزنتال للمرّة الأولى إلى الولايات المتحدة وحيدة، آتيةً ببرنامجها إلى مسرح الشتاء، أطلقت “The New York Review” وهي مجلةٌ مسرحيةٌ أسبوعية؛ اسم “كاهنة الفرح والنشوة.”
شجّع نهج جريت فيزنتال المفعم بالحيوية في الرقص العديد من الأعمال بالتعاون مع كبار الفنّانين في فيينا. وفي عام ١٩١٠ مع ذيوع صيت رقصها المنفرد؛ أصبح المؤلّف المسرحيّ والأوبراليّ هوغو فون هوفمنثال شريكًا إبداعيًا مقرّبًا؛ فلعبت دور البطولة في أفلامه الإيمائية الصامتة التي تستخلص السرديّات المعقدّة من خلال جوهرها العاطفيّ بدلًا من الإيماءات الحرفية.
شاركت فيزنتال أيضا في العرض الأول لأوبرا ١٩١٢ من (Ariadne Auf Naxos) لريتشارد شتراوس وهوفمانستال، في دورٍ صمّمت رقصاته بنفسها، وتعاقدت على أداءٍ مع Ballet Russes لدياغيلف في ربيع العام ١٩١٣، وفي الشهر نفسه الذي شهد بدء عرض”The Rite Spring” قالت آندريا آمورت، مؤسسة ومديرة أرشيف الرقص في جامعة فيينا للموسيقى والفنون بأنّه على الرغم من أن العرض لم يتحقق، إلا أن هذا الأداء كان ليكون إنتاجًا جديدًا مع نصٍّ أوبرالي كتبه هوفمنستال، ويؤديه رقصًا كل من نيغينسكاي ووايونثال وايدا روبينشتاين.
خلال مسيرتها الفنية؛ أشاد النقاد والجمهور برونق أدائها الراقص، كما أشار النقاد باستمرار إلى سحرها وأنوثتها في عروضهم النقدية، لكن وايزنثال كانت تستكشف أقصى إمكانيات الفالس التعبيرية.
كما كانت أيضًا تسبر أغوار علاقةٍ أعمق بين الراقص والجمهور، وقال مصمّم الرقص جورج جاكسون في ملّخصه في برنامج “فالس فيينا” (١٩٧٧) لجورج بالانشين: “يبدو أن سرّها كان في جعل راقصي الفالس يرقصون وحدهم؛ بطريقةٍ يشعر فيها الجمهور أنه نفسه الشريك في الرقص.” (وقدّم برنامج بالانشين في فقرته الأخيرة راقصة فالس منفردة ترقص على المسرح وتجذب الجمهور إليها)، وكتب السيد جاكسون: “كانت فيزنتال قادرةً على أن تأخذ الفالس المغلق وتطلقه من أجل البحث دون إضرارٍ بجوهره“.
إن رقصها غنيٌّ بالفروقات الدقيقة المرهفة، وقد أمتعت رقّتها المشاهدين حين أدّت في المسارح الصغيرة، إلا أن رقصاتها تميل مع ذلك أحيانًا إلى فقدان بعض تأثيرها حين تقديمها على مسارح الأوبرا الكبيرة. وتستعيد جولانثا سيفرايد، وهي راقصةٌ أولى منفردةٌ سابقةٌ مع أوبرا فيينا Vienna State opera كانت قد أدّت ثلاثًا من أعمال وايزنثال في الثمانينيات والتسعينات من القرن العشرين، ذكريات بروفات رقصة ويزنتال بعنوان “الموت والعذراء” “Death and The Maidem”.
فتقول الآنسة سيفرايد في مقابلةٍ مصورةٍ؛ مشيرةً إلى طاقةٍ متدفّقةٍ عبر يدها: “بالإضافة إلى كل هذا التمايل الهائل والحركات الهائمة، إلا أن لها حركات دقيقة وحسّاسة جدًا، وأحيانا لا تستخدم سوى الأصابع فقط، بل تجعلها تتنفس.”
وتعمل الآنسة سيفرايد في الوقت الحالي مع الآنسة آمورت (فكلاهما أستاذتان في قسم الرقص في جامعة الموسيقى والفنون) على إعادة إحياء استكشافٍ أكثر تكاملاً، ليس لأعمالها فحسب، بل لأسلوبها أيضًا. كما أن أكاديمية الباليه الأوبرالي بفيينا تعمل حاليًا على استحداث أسلوبها وتصميم الرقصات الخاصة بها في المناهج الدراسية.
لا شكّ أن صياغة جريت فيزنتال للموسيقى واختيارها لمؤلّفين موسيقيين مثل شتراوس (يوهان وجوزيف وريشارد) وشوبرت وبيتهوفن وشوبان قد وثّق ارتباطها بالفالس، وإن كانت تلك رؤيةً جديدةً تمامًا.
وبحلول عام ١٩٤٣، ومع عودتها إلى أميركا، في إطار جولتها الثانية مع راقص دار الأوبرا في فيينا “ويلي فرانزل”، كان الجمهور قد انتقل إلى أنواعٍ أخرى من الرقص التعبيريّ الحديث، واسُقبِلَ أسلوبها على أنه حنين خالص.
كتب جون مارتن – وهو أحد نقاد فن الرقص لدى نيويورك تايمز: “لا شك أن أدائها الراقص كان مدهشاً آنذاك، كما سيكون مدهشًا أيضًا، إن أمكن رؤيتها في وقتٍ ما في المستقبل، في سياق عصرها.”
ربما أمسى اليوم ذلك المستقبل؛ فهذا عامٌ قد لا يبدو فيها الفالس المنفرد والجريء والمنفصل عن أيّ تقنيات مسرحيةٍ كبيرةٍ منعشًا للحظة فحسب، بل قد يبدو مدهشًا مرّةً أخرى.
نرشّح لك: بين الطريقة المولويَّة لمولانا جلال الدّين الرُّوميّ والباليه
مصدر الترجمة