الله والكربون
بعد الانفجار العظيم -الذي حصل في ظروف غامضة -تكوّنت المادة من طاقة الإنفجار نفسه بفعل مبدأ تكافؤ الكُتلة والطاقة لآينشتاين، واقصد بالمادة هي البروتونات والالكترونات، وبعد أن اخذ الكون يبرُد، استطاع البروتون أسر الالكترون وتكوين ذرة الهيدروجين، ثُم وبإستمرار عملية هبوط الحرارة تكوّن الهيدروجين الثقيل (الديوتريوم) الذي ضمَّ النيوترون مع ذرة الهيدروجين، واستمرت عملية اندماج الذرات وتكوين عناصر اثقل، حيث تكوّن الهيليوم، لكن هبوط الحرارة السريع للكون حال دون إندماج العناصر مع بعضها بشكل اكثف وأكثف، فتشكل عندنا من الانفجار العظيم عنصران خفيفان شهيران وهما الهيدروجين والهيليوم بوفرة كبيرة، لكن سيسأل أحدكم، إنْ كان ذلك كذلك، فمن أين جاءت هذه العناصر الثقيلة، كالذهب والفضة والحديد والنحاس؟؟
في بادئ الأمر إحتار العلماء كحيرتُكم هذه، لكن اتضح فيما بعد أن النجوم هي نفسها المسؤولة عن تكوين تلك العناصر.. ستسأل كيف؟
بعد تكوين العنصرين الخفيفين وبعد ملايين من الأعوام بدأت العناصر تلك بالتجمع في مناطق معينة في الفضاء على شكل كرات من الغاز ثُم بدأت بالانكماش مع زيادة الجاذبية، وذلك جعل درجة حرارتها تزداد، وفور وصول قلب كرة الغاز تلك لبضع ملايين من درجة الحرارة (بسبب الضغط الناشئ من الانكماش) تنطلق بعدها التفاعلات النووية، وتلك نقطة ولادة النجم الحقيقي. فصار عندنا نجم وليد.
ستسأل لماذا تحتاج التفاعلات النووية لدرجة حرارة عالية؟
مكونات النواة التي هي البروتون والنيوترون هما عبارة عن جسمين مشحونين، وذلك يعني أن القوة الكهرومغناطيسية مُسيطرة على الأجسام المشحونة.. وهي تجعل البروتون يتنافر مع البروتون والنيوترون لا ينجذب للنيوترون كونه غير مشحون.. لكن مع زيادة درجة الحرارة تزداد حركة الجسيمات تلك، وهذا يجعلها تقترب من بعضها بشكل كبير مُتغلبة على قوى التنافر الكولومي وبما أن القوى النووية الشديدة تعمل على مقاييس ومديات صغيرة جدًا جدًا فحين بلوغ اقتراب تلك الأجسام من بعضها ووصولها لتلك المديات تصير خاضعة للقوى النووية، التي تعمل على جمعها ببعضها البعض وإطلاق طاقة حرارية هائلة.
إذن ارتفاع درجة الحرارة في بطنان النجم هي التي كونت عناصر الجدول الدوري المتبقية. لكن كيف؟
الطاقة المُتحررة من الاندماج النووي هي التي تعمل على ابقاء النجم مستقرًا، أي لا ينكمش، فهي تدفع مكوناته الى الخارج والجاذبية تجذبها، وفي الاستقرار يولد النجم.
يندمج الهيدروجين مع بعضه ليولّد الهيليوم، لكن ستسألني بلا شك، أن الهيدروجين متكون فقط من بروتونات وإلكترونات، لكننا نعرف بأن الهيليوم يحوي على نيترونات ايضًا، فمن أين جاءت؟؟
في الحقيقة، يجب أن تعرف أن هناك قوتين نوويتين تعملان على المديات القصيرة تلك، النووية القوية والضعيفة، فالقوية تربط المكونات مع بعضها أما الضعيفة فتكون مسؤولة عن تحويل البروتون إلى نيوترون مُطلقًا جُسيم يسمى النيوترينو.
بعد تكوّن الهيليوم، شيئًا فشيئًا ينفد مخزون النجوم من الهيدروجين. وهنا يواجه النجم “ازمة طاقة”، النجم الصغير يعجز عن توليد حرارة لذا ينكمش على شكل قزم أبيض. أما النجوم العملاقة بفضل حرارة بطنها تظل تواصل عمليات الدمج النووية. وهنا تضيف بروتون آخر الى الهيليوم في تلك العمليات النووية، مكونة الليثيوم، لكن هذا العنصر غير مستقر فيحصل ان يندمج عنصرا ليثيوم ليكونا البيريليوم، والآخر ايضًا غير مستقر. اي يتحلّل فور تكوّنه. فيمر النجم العملاق بأزمة نووية خطيرة.
بعد البيريليوم هناك “الكربون” كأول العناصر الثقيلة، فهل يمكن ان النجوم قد تجاوزت والليثيوم والبريليوم وكوّنت الكربون مُباشرةً من الهيليوم؟ هذا يتطلب ثلاث انوية هيليوم تندمج في اللحظة ذاتها!! و دمج ثلاثة أزواج من البروتون( زوج لكل نواة هيليوم) يتطلب حرارة كبيرة، لأن التنافر بينا سيكون كبيرًا، ليس هذا فحسب، فهناك صعوبة عظيمة تخص التفاعل نفسه، وهي إحتمال تقابل ثلاث أنوية للهيليوم في نفس المكان و الزمان هو إحتمال ضعيف جدًأ..
ستقول لي لا بأس، تتحد ذرتا هيليوم و فيما بعد تلحق بهما الذرة الثالثة، فيتكون الكربون حينها، ليس شرطًا أن تتقابل ثلاثتهما بنفس اللحظة.. و أُجيبك حينها إن ذرتا الهيليوم حينما تُدمجان ستكوّنان ذرة البيريليوم غير المُستقرة التي تنحل فور تكوّنها. وهذا لا يعطي الفرصة للنواة الثالثة للإندماج بهما.
وهذا هو الموقف الذي سدَّ الطريق بوجه الفيزياء الفلكية في اوائل الخمسينات من القرن المنصرم. إلى أن جاء العظيم فريد هويل ليحلَّ المعضلة.
لو دققت النظر فالحياة أساسها الكربون، ولو لم تكن هناك طريقة لتكوّن الكربون فمن أين جاءت الحياة إذن؟
تعتمد سرعة التفاعل النووية على طاقة الجسيمات المُشاركة في التفاعل. في الغالب ينتج عن التفاوتات والتغيرات في معدلات الطاقة حدوث ارتفاع أو انخفاض طفيف في كفاءة التفاعل، لكن أحيانًا تحدث قفزة كبيرة في معدل التفاعل، وهذا ما يُسمى بالرنين.
نحن نعرف الرنين هو صفة للموجات، فبعض مغني الاوبرا يمكنهم إصدار أصوات بتردد مرتفع يتوافق مع ذبذبات كأس زجاجي بما يكفي لتحطيمه، والمثال الأشهر على الرنين هو ضبط مستقبل المذياع بتردد معين كي يتلقى اشارة محطّة اذاعية بعينها. فحين يتوافق تردد الدوائر الكهربائية الموجودة في المذياع مع ترددات الموجات اللاسلكية الآتية من المحطة ستتراكب تلك الموجات وتتضخّم الاشارة القادمة و يبدأ عمل المذياع.
في حالتنا هنا، فميكانك الكم فسرت الجُسيمات على أنها امواج، وعلى هذا الاساس يُمكن للموجات الكمية ان تتوافق بالشكل نفسه الذي شرحناه مع الراديو و المُغنيين. و الرنين النووي سيعزّز معدّل العمليات النووية، لكن كيف؟
كتلة نواة الكربون أقل من مجموع كتل انوية الهيليوم الثلاث التي تكونها. ذلك لأن هناك طاقة تتحرّر عند دمج الانوية الثلاث تلك. لكن الانوية تلك تكون مُستثارة ايضًأ (تحوي طاقة) ، استنتج فريد هويل (العالِم الانكليزي) ان نواة الكربون تملك حالة استثارة اعلى بقليل من كُتل(طاقات) الهيليوم المُجتمعة.
لو حصل وكانت ذرتا الهيليوم متوافقتين تردّديًا، فهذا يجعلهما في حالة رنين، بالتالي ستزداد طاقتيهما، وزيادة الطاقة يُزيد الكتلة، و زيادة الكُتلة ستُزيدة زمن بقائها، حينها سيجعل الرنين النووي البيريليوم (الذي هوسريع الانحلال) سيجعل منه ابطأ قليلًا، وهذا سيعطي فرصة سانحة لذرة الهيليوم الثالثة للإندماج معهما..
و قد حسب هويل المقدار الذي يجب ان تكون عليه طاقة الرنين، الذي سيطيل عُمر نواة البيريليوم غير المُستقرة لما يقارب ” المائة مليار مليار جزء من الثانية” !!!!!!!!!!!! هل تنبّهت للرقم؟؟ تلك الفترة هي الحد الفاصل لتكوين الكربون و بالتالي تكوين الحياة، لولا ذلك الرقم لما كُنا هنا، ولما كان هناك كائن حي.
بعد تكون الكربون يتكون الاكسجين، ثم النيون ثم الماغنسيوم وهكذا على امتداد الجدول الدوري وصولًا الى الحديد. و تنتج النجوم العملاقة جدًا باقي العناصر الاثقل.
هنا صاح هويل، إن تلك العملية “مُدبّرة” و “مقصودة” وليست اعتباطية…
سيسأل سائل، بعد تكون الكربون، مؤكدًا أنه سيبقى في باطن النجم، فمن أين أتينا نحن؟؟ كيف وصل الكربون إلى هنا؟
بعد أن يستنفذ النجم وقوده النووي الكلي، حينها سيعجز عن الاستمرار بصنع الاستقرار، ذلك الناتج بين شد الجاذبية ودفع مكوناته أثر الضغط المهول جرّاء التفاعلات.. يستسلم النجم و ينهار قلبه على نفسه بشكل كارثي مكونًا إما ثقبًا أسودًا أو نجمًا نيوترونيًّا. تندفع الطبقة الخارجية للنجم نحو القلب لكنها سرعان ما تُلفَظ إلى الخارج لتتناثر في أرجاء الكون الفسيح. ومع تناثر أحشاء النجم يتناثر الكربون معه.. ومن تلك النقطة خرجنا من بطن النجم، فالنجوم تموت لتكوّننا..
لكن لماذا تتناثر؟ لماذا لا تنجذب لداخل القلب؟؟
حين ينهار القلب تنضغط بروتوناته وإلكتروناته بشكل كبير، و بفعل القوة النووية الضعيفة تتحول البروتونات إلى نيوترونات، و كل بروتون يُضحّى به يُطلِق نيوترينو في هذه العملية.. و حين تصير كثافة قلب النجم الى المليار طن في السنتمر المكعب تتحول البروتونات الى نيوترونات مُطلقة كمية هائلة جدًا من جسيمات النيوترينو ، و لكن ستواجه صعوبة في الخروج بداية بسبب الكثافة العالية، لكن فيما بعد بسبب التدفق الهائل لتلك الجسيمات يجعلها تمارس ضغطًا قويًّا دفعًا للخارج، ومع ذلك الدفع تُدفع المادة التي تتحرك صوب قلب النجم الى الخارج و تُنثَر في ارجاء الكون الفسيح … وهذا ما اتى بنا الى هنا. و هذه العملية لا تتم الا مرتين او ثلاث في القرن الواحد مُطلقةً طاقة عظيمة تفوق كل طاقات نجوم المجرة الواحدة لمعانًا.
لكن هناك التفاتة مهمة، فلو كانت القوة النووية الضعيفة اضعف بقليل مما هي عليه فستفقد النيوترينوات القدرة على دفع المواد تلك ولو كانت اقوى فستكون النيوترينوات قوية لتتفاعل مع مادة النجم ولم تكن لتندفع لتسدد ضربتها للطبقة الخارجية ، وفي كلتا الحالتين ستتعرض عملية توزيع الكربون الى الفشل.