الكوكب الأزرق: في البحث عن الجنّة المفقودة

في الكوكب الأزرق «Il pianeta azzurro»، يُلاحظ بيافولي العوالم النباتية والحيوانية على الأرض خلال يوم واحد فحسب، من الفجر إلى الغسق وإلى الفجر مرّة أخرى، حيث يرسم الفيلم مرور الفصول على مدار سنة كاملة. بدءًا من ذوبان الجليد مع حلول فصل الشتاء إلى الربيع، ومن الصيف مرورًا بالخريف ومن ثم العودة إلى الشتاء مرة أخرى. وهذا التأمّل الكبير في الحياة النباتية والحيوانية يمتدّ على مدى بلايين السنين، ليجد أصول الحياة على الأرض في الأنهار الجليدية الزاهرة والنباتات المتزايدة في النمو. ويختتم برؤية قاتمة لنهاية الأزمنة في أرض مُقفرة ومكتظة بالسكان في لونها الكوكبي الأزرق المميَّز. هو أوّل فيلم روائي طويل لبيافولي يصور انقراض الإنسان، حسب المصطلح الدارويني، يُولد من الأرض، من الدُبال، وهو جزء منها، ويكشف عن نفسه لتفسير ذلك الازدهار التطوري، فيما يتعلّق بإعادة ميلاد البيئة الأصلية، خالية من الوجود المُرهق والمدمّر للكائنات الحية.

تَتبع الفصول بعضها البعض بنفس الوتيرة العُمرية المتعاقبة في دورة الحياة، من مرحلة الطفولة للشباب، ومن الشيخوخة إلى الموت، في تتابع مستمرّ تلتقطه كاميرا بيافولي، في سينما المراقبة التي تهرب من تقاليد السينما السردية وتندفع نحو الشعر. خالقًا حالة ترمي إلى التأمّل في كامل فترة التاريخ الحيّ على كوكب الأرض، من خلال عدسة الحياة اليومية والتغيّرات الموسمية في مختلف مجالات الحياة. فعند رؤية المطر، نشهد قوّة التطهير، حيث يقوم بغسل وتطهير التراب وبقايا الغبار من الأرواح التي مرّت عليها، من أجل إعادة العالم إلى حالة بدائية بِكر، مُهيّأة للجيل القادم من الكائنات الحية ليزدهر وينمو.

الكوكب الأزرق هو صورة دقيقة لتغيّر الفصول على مدى سنة، سيمفونية طبيعية ملحمية تُعزف عبر ثلاث مراحل من الزمن. هو قصيدة حب مُكرّسة للأرض الأم وكل الحياة الموجودة عليها، فالنظام الطبيعي للعالم والعلاقة النقية بين هذا الكوكب الأزرق وأبنائه تُستكشف بشكلٍ بليغ عبر الصورة والصوت. موسيقى المياه المتدفّقة، هبوب الرياح، خشخشة أوراق الأشجار، وهديل الطيور وإطلاقات الحشرات وغيرها من الأصوات الطبيعية المختلفة التي تتدفّق بشكل طبيعي عبر الزمن بطريقة تأمّلية وشاعرية، وتمضي جنبًا إلى جنب مع أصوات البشر وضجيج المُعدات والطائرات. وفي هذا الصدد عندما سُئل بيافولي في مقابلة ذات مرّة عن مدى الصعوبة التي تواجهه بشكل أكبر في اِلتقاط الأصوات أم الصور، أجاب: «كلاهما». فالصور تتغيّر باستمرار بسبب الضوء، ولكن حتى في الأصوات هناك صعوبات بسبب التداخلات الصوتية التي يمكن سماعها. قد تحدث أيضًا تشوّهات في الصوت تؤدي أحيانًا إلى إلغاء نقاء الرسالة الأساسية. ينبئ الفيلم كما يقول بيافولي نفسه، بطريقة أو بأخرى بنهاية الإنسان، والعلامات البصرية التي يفعل بها ذلك هي أدوات زراعية بالغة القدم، ومنزل مهجور، وصوت أنثوي بعيد.

لطالما شكّلت الطبيعة بالنسبة لبيافولي مصدر اِيحاء للتعبير عن الجمال والتغنّي به واستعارة بهائها لإضفائه على سينماه. فمنذ البداية كانت الطبيعة مصدر تأمّل وإلهام للإنسان، قبل أن يمتطي عجلة التقدّم العلمي والتكنولوجي الذي تشهده البشرية الآن، مما أحدث ذلك تحوّلاً كبيراً في طبيعة هذه العلاقة المتبادلة، التي كانت في بدايتها الأولى أكثر اِنسجامًا وتوافقًا مع البيئة. فكانت علاقته بهذه البيئة تزداد سوءًا يومًا بعد يوم؛ نتيجة جشع هذا الإنسان وأنانيته في التعامل معها.

سينما فرانكو بيافولي هي سينما العلاقات، إذْ يُهيمن مبدأ السببية على رؤيتها بأكملها، فالتأمّل واِكتشاف القوانين التي تحكم العالم هي الاهتمامات الرئيسية له، والتي تتطابق مع رؤية أخلاقية عميقة للفنّ. يُكتسب كل عنصر حيوي قيمة في أعيننا بفضل ما يتلامس معه بشكل مباشر ويستمتع به من وقت لآخر، في مسار تطوّري يؤدّي منذ الولادة إلى الموت.سينما مكوّنة من عناصر بدائية: السماء والأرض، الحياة والموت، الحب والصراع، الشدّة والبهجة، السعادة والألم؛ كل شيء يمكن لكل كائن حي على هذه الأرض أن يتعرّف فيه على نفسه. بكلمات أخرى، السينما التي بقى موضوعها، “اللعبة الجميلة والرهيبة في الوقت نفسه” التي هي ظاهرة الحياة. ويؤكّد بيافولي الرغبة في فهم الإنسان ومراقبته خارج الأنماط الاجتماعية والنفسية. جنبًا الى جنب مع مراقبة الحياة غير البشرية كعنصر أساسي، وهو الجانب الذي يوحد بالتأكيد جميع أفلام بيافولي، والذي يظهر بشكل خاص في هذا الفيلم، حيث تبدو المقارنة مع سينما أنطونيوني وبيرجمان ممكنة.

إعلان

بدفع من الناقد الإيطالي فيلبو شيلاتشي لإثارة المقارنة مع تاركوفسكي، وجد بيافولي أوجه تشابه مع المخرج الروسي العظيم من خلال تعريف “الصوت ككلمة” وليس كصوت. إنّ الضوء والصورة والصوت، خاصة في فيلم “الكوكب الأزرق”، يمنح سينماه هالة تركيبية تأخذ شكلًا مُكملًا لكل هذه العناصر.

يتجنّب بيافولي المركزية البشرية وترسيخ وجهة النظر في التجربة الذاتية؛ توسيع المنظور الذي يبعده عن تلك المواقف التي تحمل الإنسان المسؤولية الكاملة عن تدمير الكوكب. يصف بيافولي نظامًا أكثر تعقيدًا، حيث يتم دمج الطاقات المدمّرة في فكرة الطبيعة ذاتها. يُظهر هذا، تلك العلاقة الحميمة التي أشار إليها المخرج الايطالي سيلفانو أغوستي في “الكوكب الأزرق”، باعتبارها جودة ناتجة عن لقاء نظرة بيافولي مع الظواهر الطبيعية.

يستخدم بيافولي المونتاج التناظري بين ما هو بشري وما هو غير بشري، لتقويض رؤية مركزية الإنسان من خلال مراقبة أوسع داخل المحيط الحيوي. ويخضع الزمن في سينماه لمعالجة محددة، حيث يُضغط، بطريقة تاركوفسكي، فتخلق الحركة الداخلية ديناميكية في الصورة، وليس بين الصور، ويشرح مفهوم البطء في سينماه، باعتباره مجالًا للخطاب يمكن العثور ضمنه على حركة الزمن نفسه، فهنا تحدّده الكاميرا الثابتة داخل الإطار، وهي ديناميكية لا تكلّف الجهاز بوهم إنشائه. لقد استطاع أن يتحرّر من عبودية الكلمة، ومن الحوار الذي تقوم عليه السينما السردية التقليدية، ليمتدّ عبر الأراضي الطبيعية للفنّ السينمائي، أراضي الصورة والصوت، فنّ لا يخلو من الكلمات بل هو وراء الكلمات، فهذه هي سينما السيد فرانكو بيافولي.

لدى بيافولي لغته السينمائية الفريدة، والطريقة التي يستكشف بها هذه العلاقة الأبدية بين الطبيعة والبشر هي دائمًا مُبهجة لرؤيتها. يجذب المُشاهد إلى عالمه بصور الطبيعة البرَّاقة والساحرة. البشر مجرد حِجاب في عالمه، وإدراكه للأرض وافر بالتفاصيل التي لا يراها معظمنا، يكبرها ويأخذها إلى عالم آخر. وإذا كان كل هذا يمكن أن يجعلك تفكّر في سينما تأمّلية، فلا شيء أبعد عن الحقيقة. فسينماه هي قبل كل شيء فرح واِحتفال بالحياة.

يعتبر فيلم «أصوات عبر الزمن- voci nel tempo» هو المُكمل لـ «فيلم الكوكب الأزرق- Il pianeta azzurro» ليس فقط من الناحية المفاهيمية، بل لأنه يعيش على نفس التقلّبات الموسمية، حيث يحلّ الإنسان محلّ نشأة الكون في الفيلم الأول.

بعد دعوة الفيلم إلى مهرجان البندقية السينمائي الدولي عام 1982، حظى بحفاوة واسعة، ونال استحسان المخرج التجريبي ستان براخاج والمخرج الفرنسي ومؤسس علم الانثروبولوجيا البصرية جان روش، وعضو لجنة التحكيم المخرج السوفيتي الكبير أندرية تاركوفسكي الذي وصف الفيلم: “الكوكب الأزرق هو قصيدة، رحلة، حفلة موسيقية عن الطبيعة، الكون، الحياة..صورة مختلفة عن الصورة التي نراها دائمًا.”

وُلد المخرج الإيطالي فرانكو بيافولي عام 1933 في مقاطعة بريشيا بإطاليا. درس القانون وتخرَّج في عام 1959، وأصبح محاميًا، ثم مُدرّسًا للقانون والاقتصاد في المدارس الثانوية. كرّس نفسه لدراسة علم النبات والبيئة. ثم أصبح شغوفًا بالرسم والتصوير الفوتوغرافي.

اِمتدّت مسيرته لأكثر من خمسة عقود، لكنه لم يقم فقط إلّا باخراج خمسة أفلام روائية طويلة، اِستغرق ذلك وقتًا طويلًا لإخراج أوّل فيلم روائي طويل له، وقد اِختار أن يتبع حريّته الإبداعية وعمل على صنع نوعية الأفلام التي أراد أن يصنعها دائمًا. كما أخرج أفلامًا قصيرة في الستينيات، وعدد من أفلام تجريبية لم يبق لها أي أثر. هو نفسه يكتب الأفلام ويخرجها ويصوّرها ويحرّرها، ويستكشف، دون الحاجة إلى حوارٍ، لُغز العالم من حولنا، بكاميرا تهتم جدًا بالشِعر الجوهري للحركات والأضواء والأصوات التي تقدمها لنا إيقاع الطبيعة.

إنّ مُشاهدة فيلم لبيافولي أشبه بفُقدان نفسك بين ذراعي الطبيعة الأم، الدافئة والرقيقة. تُجاوز أغلال الزمن، وتنعم بصبرها اللامتناهي وجمالها العضوي، وهروب محرِّر وعلاجي مكثف من الحياة وداخل الحياة نفسها عبر السينما.

إعلان

اترك تعليقا