القيمة بين ماركس وشوبنهاور
من وحي نقاش مع أحد أصدقائي اليساريين.
يعد الفيلسوف الألماني كارل ماركس هو أحد أهم الفلاسفة الذي تبنت فلسفته الحركات اليسارية، إن لم يكن أهمهم على الإطلاق.
ودائمًا، ما كانت تُعلي الرؤية اليسارية بشكل كبير من شأن الإرادة والرغبة، بصفتها هي المحرك الأول للإنسان بطبيعة الحال، الإنسان الذي يُمثّل محور إنتاجات الفلسفة اليسارية وشغلها الشاغل، الإنسان بصفته البنية الأولية للمجتمع، والمجتمع هو المصب النهائي الذي تصب عنده كل إنتاجات الأيديولوجيات اليسارية. حيث أن الإعلاء من قيمة الإرادة يأتي من كونها هي الدافع والمحرك وراء جميع أشكال المنتجات الإنسانية المتمثلة في الفنون والآداب وشتى أشكال الإبداع، أي مكونات الحضارة. وبالتالي هي الدافع وراء إشعال النزعة النقدية، ومن ثَم الحركة في اتجاه التغيير، وهذا ما يمكن أن يكون شرحًا مبسطًا لشكل من أشكال عمل الديالكتيك المادي، الذي يعد الجوهر الفكري لليسار بأكمله.
وعلى الجانب الآخر يأتي الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور فهو يرى العالم على هيئة ثنائية ميتافيزيقة هي (الإرادة / التمثُّل). ففي كتابه الأشهر “العالم كإرداة وتمثُّل” يقول شوبنهاور أن الإرادة هي جوهر العالم، هي الشيء الثابت الغير قابل للفناء، وإن العقل (جهاز الإدراك) هو شيء عرضي وثانوي -في نقد مباشر لكانط- ويعود ليشرح الجزء الآخر من الثنائية وهو التمثٌّل على إنه المظاهر أو الموضوعات الظاهرة في العالم بالنسبة لذات مُدركة، أو يمكن أن ندعوها تبسيطًا بالعقل.
مشروع شوبنهاور الأساسي يمكن تلخيصه في وضع حدود وتحديد معالم صارمة بين الإرادة وتمثُّلاتها من أجل الوصول لمبتغاه النهائي، وهو تخطي الإرادة التي تمثل المُسبب الأول لمعاناة الإنسان على الأرض. يقول شوبنهاور أن الإنسان حينما يستسلم للرغبة ويلهث مندفعًا وراء الإرادة يقابل ظاهرتين لا ثالث لهما، إما معوقات الإرادة التي تمنع الإنسان من الوصول لمبتغاه الذي يسعى إليه (الحالة السلبية)، أو الوصول لمبتغاه فعلاً (الحالة الإيجابية)، وذلك يؤدي لنتيجتين، في الظاهرة الأولى أي سلبية الغاية أو المسعى تكون النتيجة هي الألم، الألم الناتج عن عدم قدرة الإنسان على تحقيق غايته، وفي الظاهرة الثانية أي إيجابية الغاية تنتهي النتيجة إلى الملل، وقد ضرب شوبنهاور مثالاً بأحد أهم وأشهر إنتاجات المثالية الأفلاطونية وهي المدينة الفاضلة، وتساءل مستنكرًا، هل إن استطاع البشر يومًا ما الوصول لتلك الرؤية الأفلاطونية من ظروف معيشية مثالية وحياة رغدة مترفة بدون أي معوقات تذكر، ما الذي يمكن أن يدفع الإنسان للاستمرار في الحياة؟ ومن هنا جاءت مقولته الشهيرة : “الحياة تتأرجح كالبندول بين الألم والملل”.
وقد توصل شوبنهاور لحل تلك المشكلة بذهابه إلى تلقي كل ما هو موجود في العالم كمجرد ظواهر تُدرك بالعقل ولا تسبب دوافع أو مسببات للإرادة.
ثم جاء النقد الموجّه من صديقي اليساري بالاعتراض على موقف شوبنهاور بوصفه له بأنه موقف موت، موقف انتحاري، موقف سلبي ينظر للعالم نظرة مجردة من أية ردة فعل، وأنه لو استطعنا أن نتخيل كل سكان العالم كمجرد متفرجين عندها سوف تنتهي كل أشكال الحضارة المتمثلة في الفن والأدب والإبداع إلخ، ومن ثم ستتوقف حركة التاريخ أو الديالكتيك، وهو في الواقع -في رأيي- قد أصاب جزءًا كبيرًا من الصواب.
ولكن علينا أن نسأل أنفسنا أولاً ما هي قيمة الحضارة ومن أين تأتي تلك القيمة؟
الحضارة هي منتج بشري، والمنتج البشري يكتسب قيمته من خلال وجود الإنسان، الإنسان الذي يُمثّل الصانع والمستهلك في آنٍ واحد، والإنسان يكتسب صفة الوجود -بحسب شوبنهاور- من خلال الإرادة (الإرادة كجوهر ثابت للكون) فلو تخلى الإنسان عن الإرادة أو تخلص منها أصبح غير موجود “ميتافيزيقيًا”، وبالتالي كل ما هو معتمد على وجود الإنسان بيفقد قيمته مباشرة بسقوط الإنسان عن عرشه الأنطولوجي نتيجة العلاقة الشرطية بين وجود الإنسان وقيمة الحضارة.
وختامًا وفي جملة مقتضبة يمكننا أن نقول: أن شوبنهاور قد أسقط قيمة وجود الإنسان في حد ذاتها ومن خلالها انهارت كل القيم الأخرى تباعًا!