الفينومينولوجيا الهوسرلية والفينومينولوجيا الهيجلية

لا يُعَدّ الاعتقاد – من النظرة الأولى – بأن دراسة مقارنة لفكرة الفينومينولوجيا لدى هوسرل وهيجل لا تقوم سوى على مقاربات لفظية – مجانبًا للصواب، في الحقيقة لا يبدو أن ثمة تعارضًا أشد راديكالية مما هو بين هاتين الفلسفتين سواء في أطروحاتهما ومنهجيتهما، أو حتى في الروح التي تلهمهما، وبشكل أكثر دقة لا يختلف عمل اختلافًا جذريًا عن كتابات هوسرل كاختلاف الشهير “فينومينولوجيا الروح”.
إن الاختلافات جلية وشاملة لدرجة أنه ليس ثمة حاجة إلى التطرق إليها واحد تلو الآخر، فمن جانب تفكير يتحسس طريقه، غير متيقن من مساره، موغل بشدة – في مواضع عديدة – في صعوبات يفرضها موقف الفيلسوف على تبلور الفلسفة وليس على أي شيء آخر، غير عابئ في وجوه عديدة بالتاريخ، مُحمّل بالاعتقاد أن مشكل المعرفة المطروح والمحلول بشكل ملائم ( وهو ما يكافئ لدى هوسرل رفضًا خالصًا وبسيطًا لكل التقليد الفلسفي الذي سبقه مباشرةً)[1] – يشكّل مفتاح كل الفلسفة، أخيرًا وفوق كل شيء فكرة أن الفلسفة هي مسألة تفكّر شخصي لعقل فردي لا يمنحه هذا التفكّر واقعًا جديدًا وإنما مع معرفة جديدة، تلك التي لا تتطلب – حتى تنجح في مهمتها – أن تضع نفسها في ديمومة مع تاريخ العالم، بل وجب عليها فقط أن تكون متصلة مع – المتبقي الطبيعي– الأشياء.
على الجانب الآخر، مذهب متصلب ونسقي، مُحدّد بواسطة نهايته في كل لحظة من لحظاته، مشددًا على أن الفيلسوف ينبثق من التاريخ بشكل ما كانبثاق معرفة فعل من هذا الفعل نفسه، منكرًا قطعيًا أي وصول واقعي ونهائي لمشكل المعرفة، مُعدًّا إياه إحدى الخصائص لمرحلة من تطور أو صيرورة المعرفة، مُدعيًا أن المعرفة الفلسفية تجعل الروح المطلق يتكشف ليّاه وتضمن تحققه الكامل.
تبدو هذه التعارضات التي نعرضها ها هنا في هيئة عامة يفرضها تفكّر أولي – كافية لإفساد خطتنا؛ إذ إن لا يزال الكثير ليُكتشَف: ثار هوسرل في العديد من المرات وبشكل جلي ضد كل تصوّر ديالكتيكي للفلسفة، وليس ثمة محل للشك في أن المقصود كموضوع لهذه العدوانية هو هيجل. ولكن قبل النظر إلى هذه النقودات أود أن أشير إلى ملحوظتين..
أولًا: لم يكن هوسرل على الإطلاق مؤرخًا للفلسفة، بل تعتري معرفته بتاريخ الفلسفة الثغرات كما يمكن وصفها بغير الدقيقة تمامًا، لم يمكن لذلك أن يثير دهشتنا؟ كان هوسرل في الفلسفة ذاتي التعلّم ، آتيًا إلى هذا الشكل من المعرفة لأجل حاجته إلى حل بعض المشكلات التي وُلدت بالنسبة إليه من تفكّره في تخصص علمي شديد الخصوصية وهو الرياضيات، التي كان قد كرس نفسه لأجلها.
إعلان
لم يهتم هوسرل بالفلسفة في ذاتها، وإنما ليتلقى منها – بصدد الحالة الواقعية للوجود الرياضي – معرفة اعتقد أنه بإمكانه الحصول عليها دون عمليات أخرى. إنها خيبة الأمل التي تكبدها عند تناول الحلول المطروحة هي التي فرضت عليها الانشغال الفلسفي، إن لم تكن هذه العبارة متناقضة. لا يجب علينا إذن أن نُبدي التعجب عند رصد عدم انتظام وغرابة وعدم اكتمال معارف هوسرل فيما يتعلق بتاريخ الفلسفة.
في الواقع، هذه الأخيرة لا تخدمه إلا في سبيل الإيضاح أو كوسيلة للرد، إنه يزيّن باسم ما الأطروحات التي يريد تفنيدها أو بشكل أكثر ندرةً (لأنه يمتلك وعيًا قويًا بأصالته) التي يريد الدفاع عنها، وعلاوة على ذلك دائمًا ما كان هوسرل على دراية تامة بهذا الوضع؛ إذ سيأتي اليوم الذي سيسمي فيه إحالاته وإشاراته إلى تاريخ الفلسفة ب “روايتي”[2].
هذه هي الحالة بشكل خاصة بالنسبة إلى هيجل، يجب ألا ننسى أن هوسرل قد بدأ مساره في لحظة كان فيها فقدان الثقة في الفلسفة الهيجلية عميقًا وعامًا، وكظرف هام علينا التنبيه على أن فقدان المصداقية هذا اتسم بالانتشار في الأوساط العلمية (الأكاديمية) التي كانت في الأصل مجاله الخاص للتمدد.
وعلى سبيل الدعابة يمكننا هنا أن نذكر – أعتقد أنني أخذتها عن السيدة هوسرل[3] دون القدرة على التأكيد بشكل قاطع – حادثة طريفة ودالة للغاية فيما يتعلق بهذا الظرف: يُحكى أن عالم الرياضيات فيرشتراس – الذي كان معلمًا لهوسرل – كان قد تزوج إحدى بنات هيجل؛ لذلك وحرصًا منه على تجنب سوء تصرف أصدقائه وزواره قرر تعليق لافتة صغيرة على جدار مكتبه تتضمن العبارة الآتية ” من فضلك لا تهزأ من هيجل هنا!”.
إن الأسباب الكامنة وراء هذا النفور لهي غريبة تمامًا عن تقدير صائب لفلسفة الطبيعة الهيجلية، نقول – وبشكل ما لا يوجد ما هو أوضح من ذلك – أن تقدم العلم على مدار القرن التاسع عشر ناقض جذريًا فلسفة الطبيعة الهيجلية، هكذا تكرر مع هيجل ما حدث مع أرسطو بواسطة عصر النهضة: الانهيار (في فلسفة الطبيعة) – بالنظر إلى تقدم العلم الوضعي – يولّد سقوط النسق الفلسفي كله، ولكن كان في حالة هيجل – حتى لا نتحدث إطلاقًا عن المثال ألآخر – سوء فهم هائل؛ بالطبع تعج فلسفة الطبيعة بتأكيدات عديدة غير دقيقة ومن البداهي أن يكذّبها العلم المستقبلي، ولكننا لن نخطئ مطلقًا في حال اعتقادنا – كما نحن نعتقد بالفعل – أن الكوسمولوجيا الهيجلية تعتزم التنبؤ بسيرورة العلم الوضعي، منتظرة منها توكيد أو تفنيد، أي – في أفضل الأحوال – حكمًا بالبراءة.
يعرف هيجل جيدًا – ويردد ذلك في مواضع كثيرة – أن العلم والفلسفة يتبعان غايات أخرى، مدشنان شكلًا مغايرًا من المعرفة، وهو ما يفسّر عدم انخراطه في المهمة العقيمة معدومة النجاح المتمثلة في اختلاق معرفة – بشكل مسبق وعن طريق قوى العقل وحدها – تنتمي بطبيعتها إلى الملاحظة الإمبريقية، لقد أثبت هيجل – فلنصع جانبًا الفلسفة – في مرات كثيرة عدم كونه تكتيكيًا سيئًا، بل إننا يمكن أن نتخيل – مع الالتفات إلى عدم توقفه عن التعامل مع زملائه الفلاسفة والعلماء الأشد حدّة في العالم – أن هيجل لم يضع نفسه في مأزق سيئ إلى هذه الدرجة بعرضه عليهم طوعًا شبه اليقين لانتقام شامل دون تلقي أي حجج مضادة للفلسفة الهيجلية.
إذًا يختلف معنى الكوسمولوجيا الهيجلية عما كنا قد تطرقنا إليه بوصفه سوء فهم، يهدف هيجل بها إلى بلورة تفسير توضيحي للطبيعة والحياة اللتين تنفتحان لنا في الخبرة غير العلمية، يتضمن هذا التفسير التوضيحي تحليل وتقويم المعنى الذي تكشفانه لنا في هذه الخبرة غير العلمية، يمكننا إذًا إعادة التشديد على أن النقد الساعي بجهد إلى تفنيد أو تسفيه فلسفة الطبيعة الهيجلية عبر الإحالة إلى تطورات العلم الوضعي في القرن التاسع عشر ( أو أيًا كان المحال إليه) -لا يثبت سوى عدم فهمه الخاص.
أود استخراج نتيجة مزدوجة من هذه الاعتبارات، أولًا: إن الموقف الذي اتخذه هوسرل من الفلسفة الهيجلية – في السياق المُعطى – حتميًا من الجانب العملي، وثانيًا: لا يمكن لهذا الموقف أن يحل محل تقدير وتوضيح وجيه وحقيقي للروابط بين فينومينولوجيا هيجل وتلك الخاصة بهوسرل.
يأخذنا اعتراض آخر على هذا الطرح – ولكنه من نوع مختلف – إلى صلب موضوعنا الرئيس، نقول أن التعارض بين الفينومينولوجيتين المنظورتين ها هنا هو تعارض كلي لا يترك أي مكان لتسوية أو حتى مقارنة ممكنة، لأن الثانية تتبنى تصورًا للفينومينولوجيا يرد الأخيرة إلى وصف الأشياء نفسها، أما الأولى فتنقّب عن التحوّلات الضرورية لتصيّر الروح في التاريخ، تحولات مفروضة – على الفيلسوف كما على الواقع – عن طريق طبيعة الروح نفسها التي يجد معها الفيلسوف نفسه في تفاهم متواطئ بشكل مطلق، لا يتعلق الأمر إذًا – في الحالة الأخيرة – بوصف وإنما بخلق أو على أي حال بتقوّم.
يمكننا – في الواقع – أن نعرض بهذا الأسلوب عناصر إشكاليتنا، قبل المضي قدمًا يتبقى علينا فهم هذه العناصر تحديدًا وكيف يجب أن تُؤوَّل الأطروحات التي نحن بصدد تناولها، إن نجحنا في هذا التأويل فسنكون قد أوضحنا بشكل كامل طرحنا، ولكن ستظهر أيضًا – وأنا أخاطر بقولها قبلًا – صورة الروابط بين الفينومينولوجيا الأولى والثانية مغايرة تمامًا عما نقدمها في العادة، لنحاول إذًا بلورة الخطوط العريضة لهذا التأويل.
من الصائب القول أن فلسفة هوسرل تُستلهم بشكل كامل من النية في العودة إلى الأشياء نفسها، تحكم على هذا المشروع بالإمكان لأنها تتمثل وعي الفيلسوف – ومعه كل وعي – بما هو محدّد شموليًا بواسطة القصدية، ليست طبيعة الوعي الكون تمثليًا، أي أن يمتلك مضامين محايثة نفترض صلتها بخارجية ما – أي الشيء – دون القدرة على صياغة أي سبب حاسم قاطع للمطابقة الدقيقة لهذا التمثّل.
ولكن إن كان – على النقيض – الوعي وعيًا كليًا بما يظهر له، إذا كان يكمن في مصدر كل خبرة وعلى الأخيرة أن تبقي ذاتها عن طريق المرور من خلاله، ففي هذه الحالة يتكون ويؤسَّس اتصال غير متوسَّط بين الوعي والشيء، سيصبح قابلًا للتصور ( في نفس الوقت الذي ستختفي فيه كل أسس التمييز بين الفينومين والشيء في ذاته بالمعني الكلاسيكي على الأقل) أن الوعي يقول ما تكونه الأشياء. لن يكفي هذا بالطبع في تيسير كل صعوبات المعرفة، لكنه سيكفي لتحويلها جذريًا.
دعونا – قبل التطرق إلى هذا التحول – نلاحظ أن مقدمة فينومينولوجيا هوسرل وتقديم فينومينولوجيا الروح لهيجل كليهما يقدمان – بصياغات مختلفة تمامًا – اعتبارات متشابهة فيما يتعلق بالنتائج، إن المشكلة المركزية للابستمولوجيا – يكتب هيجل – أنها “تفترض تمثلات المعرفة بوصفها آداة أو وسطًا[4]، كما أنها تفترض اختلافًا بيننا وهذه المعرفة، تفترض بشكل خاص أن المطلق يوجد في جانب، وأن المعرفة توجد في الجانب الآخر لذاتها معزولة تمامًا عن المطلق لكن مع كونها شيئًا ما واقعيًا. تفترض – في صياغة أخرى – أن المعرفة (الكائنة بمعزل عن المطلق) تكون يقينيًا بمعزل عن الحقيقة أيضًا، ومع ذلك (يمكن لها أن) تقول الحقيقي، وهو تسليم يجعل عن طريقه ذلك الذي يطلق عليه خوف من الخطأ -نفسه معروفًا بما هو خوف من الحقيقة، تنتج هذه النتيجة من أن المطلق وحده الحقيقي أو أن الحقيقي وحده المطلق.”[5]
يبلور هذا النص الجوهري لتأملنا مادة أولية؛ إذ يبرز بشكل تام ما يجمع ويفرق فيلسوفينا..
يعتقد هيجل إذًا أن المعرفة لا يمكنها أن تُتصوَر بما هي جسر بين الوعي وما هو ليس وعيًا (مغايره)، تكون هذه الروية متناقضة في ذاتها؛ لأنها تتخذ المعرفة ببساطة بوصفها مغايرة عن ذاتها، ولكن هذا نفسه هو ما تنص عليه أطروحة قصدية الوعي، إن الوعي مقصود الأشياء – وفقًا إلى هذه الأخيرة – وفي حال كان الوعي بذلك مغايرًا بالضرورة للأشياء (لأن المرء لا يقصد إلا ما ليس هو)، فهو يكون بذلك أيضًا غير مغاير للمعرفة بالضرورة (التي هي هذا المقصود نفسه)، أو بالأحرى إذا قررنا توسيع فكرة المعرفة هذه بشكل لا يتناقض مع معناها الفينومينولوجي ومعناها الهيجلي، فإن الوعي لن يكون مغايرًا ل”وجوده (مؤوَّلًا) وفقًا إلى الأشياء”.
يدعونا التعبير الأخير إلى المضي قدمًا، يعاود رفض “وهم المحايثة” – أي رفض وعي ذي مضامين – إلى النظر إلى الوعي بما هو ماهويًا داخلية تتخارج، بوصفها تتضمن جوهريًا بُعدًا تخارجيًا، أو بصياغة أخرى بما هو كائن لذاته وللآخر بشكل غير منفصل.
فلنتوقف هنا قليلًا، إذا كانت هذه اللغة هيجلية فإنها ليست هوسرلية، أجدني متفقًا مع هذا الرأي ولكني أقول أنها فينومينولوجية؛ إذ إن كل فينومينولوجيا (وبالتوازي كل فلسفة هيجل) تتمثل في فهم تناقضية “الظاهر” و”الذي هو لذاتي ببساطة”، “الظاهر بجلاء” هو سلب “الذي هو لذاتي ببساطة”، وهو ما نفهمه بشكل أفضل إن نظرنا في – وأنا أتحدث هنا باللغة الهوسرلية الأشد التزامًا – أن الدليل يكون للوعي غير قابل للفصل عن معيش، عن حاضر واقعي.
لقد أسسنا إذًا في هذا الآن الحاضر نقطة مشتركة بين الفكرين موضع دراستنا، يتكشف الوعي منذ لحظة الإدراك بما هو داخلية إكستاتيكية، أي بوصفه داخلية تكون (وليست داخلية تمتلك) حركة نحو الآخر عنها. من الصحيح – إن أشرنا إلى النص المُقتبَس وإلى كل ما نعرفه عن الفلسفة الهيجلية – أن هيجل يبلور لهذه النقطة تفسيرًا (وهو مصطلح ليس هيجليًا على الإطلاق) مختلفًا تمامًا عما كان سيعطيه هوسرل لنفس النقطة، الذي يميل في الواقع إلى رؤية أن الأشياء تكون هكذا.
ذلك لأن الوعي – بالنسبة إلى هيجل – هو حركة نحو مطلق، معرّفَا بما هو تملّك خالص للذات، في تبادلية الداخل والخارج، في تبادلية المادة والروح، وهو ليس كذلك في المرتبة الأولى، كما أنه ليس الذي يكون عنه منفصلًا ببساطة أيضًا. هو ليس منفصلًا عنه لأن هذا المطلق هو في نهاية المطاف هو الوعي نفسه، بالشكل الذي يحعل تلك الحركة التي تبدو قائدة إياه بعيدًا عنه تكون في الواقع تحققًا ذاتيًا له. لكن هذا التحقق، هذا التقدّم لكل التوسطات التي يحبل بها الوعي – لأنها تقوم على اللاتطابق وضرورة التطابق بين ما يقصده الوعي وما يخبره – تتضمن سلسلة من الأشكال والمراحل يتحول في غضونها الوعي باطّراد، وهو ما يعرّف بالتحديد فينومينولوجيا الروح، نعلم أن هيجل كان قد أراد أن يجعل “علم خبرة الوعي” عنوانًا عامًا لكتابه.
لا يوجد شيء كهذا لدى هوسرل الذي في نظره – سنرى لماذا – لا تتضمن الفينومينولوجيا أنطولوجيا الوعي، فبالنسبة إليه – وأعتقد أنه بالنسبة إلى كل فينومينولوجيا غير هيجلية – يشكّل تحديد الوعي بالآخر الحقيقة الأولى غير القابلة للمجاوزة إطلاقًا، التي ستسمح لخلفائه بتصعيد المقذوفية والواقعانية[6] بوصفهما عناصر تقوّم الوجود الإنساني، في هذا الموضع يكمن في نظري التعارض الوحيد – لكنه تعارض راديكالي – بين الدلالتين لكلمة فينومينولوجيا. إن التوضيحات الأخيرة التي قدمناها تبلور لنا مواضع جديدة للمقارنة، لقد رأينا أن الفينومينولوجيتين كليهما ينطلقان من “المقصود” الخاص بمعطى حاضر الذي يكون حضوره غير قابل للشك بشكل جذري، لكن الاثنتين سوف تُقادان إلى القول بأنه يجب على هذا المقصود – في حال وعى بذاته – أن يتحول ويجاوز ذاته، يتمثل هذا التحول في الانتقال من “المقصود لمعطى” إلى إدراك شيء. لا بد أن يكون من اللافت للانتباه أن محرك هذه الحركة أو – إن كنت تفضّل ذلك – سبب هذا الانتقال (العبور) يتشابه عند فيلسوفينا، إنه في كل مرة المعنى المعيش والمُمارَس للمقصود ولذلك المقصود نفسه اللذان يؤديان إلى التغيير، والتصور الذي يكوّنه الوعي لفعله ومتضايف هذا الفعل في الانتقال – فيما يتعلق بالفعل – من ال “أن يقصد” إلى ال “أن يدرك”، والانتقال من ال”مُعطى” إلى ال”شيء” بالنسبة إلى المتضايف.
انطلاقًا من هذه اللحظة سيصبح مسار كلا العملين متباينًا كليًا، سبب هذا التباين هو التعارض الأساسي الذي أشرنا إليه. يتمحور عمل هوسرل حول تفسير وعي يظل – في تحليل أخير – ظهورًا مستعصيًا، أي ذلك الذي يحتفظ بوجود-هناك لا يمكن تجاوز حدوده رغم كل تحولاته وتحوراته. أما فكر هيجل فإنه يسعى – على النقيض من فكر هوسرل – إلى استرداد هذا الوجود-هناك الخاص بالأنا نفسها بإقحام الوعي عن طريق حركة لا بد أن تشمل كل التاريخ، صوب شكل نهائي وهو تحقق الروح المطلق، معرفة مطلقة لذاته في التبادلية (المعكوسية) المكتملة بوصفها كلًا بين الوعي والطبيعة، بين الذي هو لذاته والذي هو في ذاته.
مع ذلك، وبعيدًا عن هذا التعارض الراديكالي، هاتان الفينومينولوجيتان يمكن لهما توضيح الواحدة الأخرى، يدفعنا ما قلناه إلى تحدي التعارض التبسيطي بعض الشيء الذي يُضَع على عجالة بين الوصف والديالكتيك، فينومينولوجيا هوسرل “تصف” بينما تلك الخاصة بهيجل تدشّن “ديالكتيكيًا”، تكون هذه التعبيرات – التي تعد جلية بذاتها – في الواقع سطحية تمامًا.
لنحاول بدايةً أن نفهم ما هو الوصف الهوسرلي، إننا في حال نظرنا إليه من الجذور سنلاحظ أنه يقوم بشكل كلي على التعارض الديالكتيكي بين المعنى والحضور، يمكن أن يبدو هذا المنظور صادمًا؛ لذلك سنتطرق إليه تفصيليًا في الفقرات الآتية..
يعتقد العديد ممن اشتبكوا مع فلسفة هوسرل (المعلقين على هوسرل) بضرورة استخدام أفضل الرماح في ترسانتهم المعرفية في الجدل الذي لا ينضب الواضع أنصار المثالية الهوسرلية في مواجهة أنصار الواقعية الهوسرلية، إن نظرنا إلى هذه المعركة الحامية بمنظور موضوعي ومحايد لا مشارك – وهو ما أريد على الأقل أن يكون موقفنا – فسنجد أنفسنا مقادين إلى نزاعات غريبة، لا يبدو – من المنظور العملي – أن أحدًا من المعسكرين ينبئ بانتصار حاسم على الآخر؛ إذ يتجدد الجدل دون توقف.
لا يُستمَّد هذا التردد اللايقيني من غياب أو ضعف حجج الجانبين، وإنما على العكس وبشكل مثير للمفارقة يستند كل طرف منهما إلى نصوص عديدة جلية وحاسمة، تظهر في كل مرة بوصفها أدلة كافية حتى اللحظة التي تُعطى فيها الكلمة للطرف المُعارِض الذي لا تكون حجته أقل إقناعًا، هكذا إذًا لا نتمكن – هاك فيلسوف على درجة استثنائية من الاهمية والذي اشتبك بدوره وعبّر عن آرائه فيما يتعلق بواحدة من الإشكاليات التي تعد من الأهم بواسطته ومعاصريه – من المعرفة بشكل يقيني أي حل قدّمه هذا الفيلسوف لتلك الإشكالية، بينما – ومع ذلك – من منظور تقليد فلسفي ثابت وممتد لا يمكن لهذه الإشكالية أن تتلقى سوى إجابة واجدة تُختار من ممكنيْن متناقضين بحدة. كيف لا نعتقد بعد كل ذلك في وجود سوء فهم لشيء رئيس في هذا الشأن؟
سوف يُثار اهتمامنا أكثر إذا وضعنا في أذهاننا أنه بشكل ما حدث موقف مشابه مع هيجل أيضًا!
يكمن مفتاح اللغز في هذا التأرجح الذي أشرت إليه لدى هوسرل -بين المعني والحضور – وهو ما يعتمد على الاتجاه الذي سيدفع المرء هذه الفلسفة إليه – لكن هذا الإجراء (دفع فلسفة هوسرل إلى أحد الاتجاهين) غير مشروع في هذين الاتجاهين، حتى نؤكَد هذا أو ذاك سننتهي إلى فهم هذه الفلسفة إما بوصفها مثالية أو بما هي واقعية.
أقول “غير مشروع” لأن المدى (النطاق) الحقيقي للجهود الهوسرلية هو جعل الخبرة وبالتالي الوصف يتقدمان عن طريق الإحالة الدائمة الواحدة إلى الآخر والعكس، ولذلك تكون الفلسفة الهوسرلية فلسفةً تعرِّف الواقع بما هو تلاقٍ في حال فهمنا هذه الكلمة بأكثر معانيها اتساعًا. لكن هذا يثير العديد من الصعوبات أكثر مما يحل منها؛ إذ إن السؤال كله هو معرفة كيفية إمكان التبادل بين المعنى والحضور، وكيف يمكن لوصف أن يتحقق دون إعادة توليد الحركة نفسها، أي دون إطالة حياة ما يصفه بدلًا من استرداده (إعادة بنائه عكسيًا) بشكل خالص وبسيط.
من غير القابل للشك أن هذه الإشكاليات لم تصل بوضوح إلى وعي هوسرل في هذا الشكل تحديدًا، وإنه تركها دون حل، ولكن في هذا الموضع أيضًا يمكننا الاعتقاد أن الإشارة إلى هيجل يمكن أن تكون توضيحية ومسلطة للضوء على إشكاليتنا.
كان في استطاعتنا أن نبلور إجابة سطحية عن هذه الصعوبة بالقول أنه إذا كان يبدو أن هوسرل ليس لديه أي انشغال بالإشكال الذي يطرحه التبادل بين المعنى والحضور؛ فإن ذلك يعود إلى ممارسته الرد الفينومينولوجي – وضع الوجود بين قوسين. لن نقدر هنا على الدخول في النظرية المعقدة جدًا للردود، ولكنه من الواضح أن الرد ليس موضع سؤال ها هنا؛ إذ إن هوسرل يتحدث بشكل دائم عن تجسدية مردودة: إن الأمر يتعلق بخبرة غير ممارَسة للحضور، وهو ما يعني أن الفينومينولوجيا تضع نفسها أمام الشيء الحاضر وتخبَر حضوره عن بُعد، أي دون تحقيق الحركة التلقائية – حتى النهاية – التي تحملنا صوب الشيء بوصفه موجودًا، ولكن هذا في ظل البحث عن وصف هذه الحركة ذاتها.
ليس بالتأكيد من السهل أن نمسك في أي شيء بالتحديد يتمثل التبادل بين المعنى والحضور، فلنبدأ إذًا بالأشد يقينية في هذه العلاقة، وهو بدايةً أن هذه العلاقة غير قابلة للفصل (هي أيضًا علاقة حركة ما)، المعنى في الشيء والحضور يبلوره، لكنه لا يظهر إلا بواسطة نشاط الوعي. هذه النقطة الأخيرة بينة في بشكل خاص في الفينومينولوجيا الهوسرلية، أكثر جلاءً ربما من كل الفينومينولوجيات التالية عليها؛ لأن هوسرل يؤكد ويصف تكوّن الدلالات الفارغة[7]، يتخذ لديه حدس حضور ما -سمة (خاصة) الملء (أو عدم الملء في حال عدم تغطية المُعطى للدلالة المطروحة بدايةً)، لكنه من الواضح – إن تأملنا ظروف هذه العملية – أن اتجاه الذات بالنسبة إلى ذلك الذي يشكّل موضوعًا له (حتى نعيد استخدام المصطلحات الكلاسيكية) من المفترض أن يتخذ كيفيات متنوعة للغاية بل حتى متعارضة، بعبارة أخرى ثمة – من أجل أن نتحدث بلغة أكثر فينومينولوجية – تنويع ممكن في قصدية الوعي، علينا إذًا أن نتساءل – وبالنظر إلى كل ذلك – ما إن كان على هذه العملية ألا تنجرف إلى إغواء تنويع كهذا.
في الحقيقة، عندما يدشّن الوعي دلالات فإنه يترك نفسه مقادًا ليس بالطبع عن طريق تلقائية نشاطه وحدها، وإنما يجد نفسه – على العكس – مقادًا بشكل من االضرورة المحايثة لنتاجاته، هكذا تظهر أول خواص المعنى وهي التسمية والتغيّر (التقدمي) بواسطة قوى هذه العملية وحدها (أي الكون توسعيًا وإشاريًا)، ولكن هذا في حال ارتضاء الروح الدخول في الحركة التي يخطّها. إن الموضع الخاص بالوعي فيما يمكن أن نطلق عليه تصيّر الدلالة -غامض تمامًا؛ إذ يُقدّم أحيانًا بوصفه مُقوِّم وفي أحيان أخرى بوصفه شاهدًا[8].
سأوقف هنا للحظة جهدي التفسيري حتى أعود إلى هيجل ولملاحظة أن الطريقة التي يسلك بها الوعي في كل مراحل فينومينولوجيا الروح (أيًا تكن هذه المراحل: أحسيًّا كان الوعي أو رغبويًا، عقلًا أو روحًا) هي ببساطة نفسها، يظهر فيها الوعي بوصفه شاهدًا – مقلوبًا نعم – للعملية التي تحدث فيّاه، تلك العملية التي لا يمكن له أن يتقنها، ولكن مع ذلك ينتظر منها تحققه المكتمل. هذا اللغز الخاص بوعي فعّال ومنفعل – منفعل بواسطة ثيماته الخاصة (أفكاره لن تكون كافية في هذا السياق) – يشكّل محورًا أساسيًا في فينومينولوجيا الروح، وكذلك الأمر في الفينومينولوجيا الهوسرلية. وهو ما يكون من الأيسر فهمه لدى هيجل – رغم بعض المظاهر (المضللة) – عن فهمه لدى هوسرل؛ إذ إنه لدى هيجل نجد التشديد منذ البادية على أن الوعي لا بد أن يصر ما هو ليس عليه بعد، مع كونه – على الرغم من ذلك – بطريقة ما قبلًا على هذا الذي يجب أن يصيره. تتركز النقطة العسيرة للفينومينولوجيا الهوسرلية – وهي التي كنت قد رصدتها من قبل وسنعود إليه مرة أخرى – في أن الوعي – في نفس الوقت الذي يكون فيه قصديًا – يُفترَص أن يقوم مطلقًا على ذاته، يغذّي هذا التناقض الئي نحن على وشك ذكره – كل الجدالات حول المفهوم الهوسرلي للتقوُّم.
فلنعد إلى تحليلنا ونرى ما إن كان يؤكِّد إمكانات المقارنة والإيضاح التي كان قد قدمها لنا بالفعل، لا تمتلك الدلالة – وفقًا إلى هوسرل الكلاسيكي – قيمة معرفة وحقيقة إلا في حال كونها مملوءة وبالمعيار الصارم (والمتصلب) حيث تكون فيه هكذا. إنه الحضور، الحضور وحده الذي لديه مَلَكة وامتياز الملء، ليس كل حضور إدراكيًا، وإنما يتأسس كل حضور في التحليل الأخير على حضور إدراكي، ولكن ماذا يكون هذا الامتلاء في الواقع العيني؟ كيف يمكن لحضور أن يملأ معنى؟ لا يكون هذا – بكل بداهة – ممكنًا إلا عن طريق تغير في القصدية بالنسبة إلى المعنى نفسه، بعبارة أخرى: إما أن الحضور لا يملأ (يحقق امتلاء أي شيء) أو إنه معنى أيضًا منظورًا بشكل آخر، هكذا بدلًا من أن تأتي الدلالة إلى نفسها بواسطة امتداد الضرورة التي يرتكز عليها الوعي مانحةً إياه فعالية لا وجود له بدونها، يصبح المعنى الآن مُقدّمًا دفعة واحدة، فارضًا ذاته ومقيِّدً، مستثمرًا الوعى ومستدعيًا إياه بشكل غير قابل للمقاومة بالنسبة إليه هذه المرة.
إن كل ما يمكننا قوله بصدد الحضور من منظور كذلك الخاص بهوسرل -هو أن الأمر يتعلق بظهور معنى نظرًا إليه أو انطلاقًا منه يتبنى الوعي – دون أن يختاره وفي إطار عملية اختياره (كأفق) – اتجاهًا تقبّليًا خالصًا، اتجاه تلقٍ خالص. لا يكون كل تعريف آخر للحضور – من منظور هوسرلي – مقبولًا، ولكن هذا التعريف مشتق من القصدية.
باختصار، إن كنا نبحث عما يميّز معنى حاضر بشكل خاص، فلا بد أن نوجَّه إلى اتجاه محدد يخص الوعي، الذي يتوافق معه – بفضل التضايف الضروري للنوماطيقي والنويطيقي – تحوّر للموضوع الذي يفرض نفسه الآن بشكل مطلق عليّ.
ينتج عن تأمل نطاق هذه التحليلات نتيجة على درجة استثنائية من الاهمية، وهي نتيجة لم يلتفت لها – بلا شك – هوسرل بشكل واضح ، تلك النتيجة هي أن تعارض خالص وبسيط بين المعنى والحضور هو تعارض غير قابل للتبنّي، إن الحضور هو دلالة معقولة بشكل مغاير عما تكونه الدلالة غير الحاضرة والمقصودة ببساطة، وهو ما يمكن أن نعبر عنه في صيغة أخرى بقولنا أن الوجود ذاته معنى، وليس إطلاقًا ذلك الذي يقتصر على ملء معنى ما.
لكن هذه الحقيقة تتمركز – مرة أخرى – في صلب الفينومينولوجيا الهيجلية، تعلّمنا سالفة الذكر أن إحضار الآخر والأول (الوجود في الحضور) – الخاص بالوعي وموضوعه – مرفوض تمامًا، ليست الخبرة حياة الوعي بصدد الأشياء، وإنما هي تصيُّر الوعي في الأشياء، وهي أيضًا قدوم الأشياء إلى نفسها في الوعي وعن طريقه.
علينا استخلاص هذه النتيجة في المقام الأول كإحدى العواقب لرؤية كرؤيتنا: تكون – في كل لحظة – الرابطة التي تتأسس في الخبرة بين الذات والموضوع مغايرة عن تلك التي تتشكّل في البداية حينما كانت هذه الرابطة ليست إلا مجرد علاقة مقصودة ببساطة أو مُفكَّرة. هذا الطرح البداهي بالنسبة إلى عالم الشعور؛ إذ إن لا أحد قد شكَّ يومًا في أن ال”يحب” ليست الدخول بشكل بسيط في رابطة نعرف مسبقًا كل ما ستكون عليه والتي كان علينا أن نقبلها أو أن نرفضها، وإنما هو أن نتحول ونحوِّل الآخر – يجب أن يُعمَّم على كل كيفيات الوعي، وبشكل أكثر فإن فينومينولوجيا وعي – متحققة بشكل ملائم – تُبرِز انعدام المعنى الذي يسم فينومينولوجيا وعي ما مأخوذة بما هي داخلية معيشة تتعارض مع واقع منظور (خارجي). يجب إذًا على الفينومينولوجيا أن تصير أنثربولوجيا فينومينولوجية، وهو ما فهمه – أفضل من هوسرل – مَن حملوا الشعلة من بعده، ذلك الذي ربما أيقنه هوسرل في لمحات عديدة خاصة في سنواته الأخيرة.
لقد عرف هيجل هذا الأمر مسبقًا – نعود هنا مرة أخرى إلى التباين الأساسي الذي كنا قد رصدناه عند البداية – إن الأنثربولوجيا الفينومينولوجية في نظر هيجل هي فينومينولوجيا الروح، أي أنه وفقًا إليه من المستحيل تصوّر تصيُّر الوعي في الإنسان وتصيُّر الإنسان في العالم سوى بما هما تحقق الكليّة المطلقة.
ومع ذلك ثمة تشديد لا يبدو أنه سيكتسب تقدمه الديالكتيكي الكامل إلا مع شرط حقيقة جوهرية للأنثربولوجيا الفينومينولوجية ، وهو أن الخبرة هي تلاقٍ ووجود- مع، لقد رددنا بما فيه الكفاية أن هذا التلاق والوجود – مع يحوّلان – ويضمّان في تصيرهما – الإنسان والأشياء، ولكن لا تجربة – الفكرة متناقضة في المعنى الدقيق – تشكّل لي كليّة حيث أكون أنا نفسي مُتجاوَزًا، أو حيث يتوقف التلاقي عن الوجود. إن الاعراض الأشد راديكالية على كل فينومينولوجيا للروح ذات طابع هيجلي هو أنها تحاول جعل نفسها متناسية إزاء أصولها الخاصة.
ثمة في كل تجربة مطلق غير قابل للاسترداد، وهو الذي يُقشِل كل فلسفة كليّة، على الأقل إن ادّعت هذه الفلسفة كونها فينومينولوجية: وذلك لأن هذه الخبرة كانت وتظل دائمًا واقعانية، لكن هذا يشكّل عائقًا أمام كل عبور شامل من الخاص إلى العام. لا يمكن للمرء إخفاء أن هذه الاعتبارات تضع المعلّق على فلسفة هوسرل وفلسفة هيجل في موضع صعب؛ إذ تعاود (الجمع عائد على الاعتبارات) – بإيجاز – الإلصاق بهوسرل عدم كونه هيجليًا بشكل كاف (أو على أقل تقدير، عجزه عن فعل ذلك)، وتلصق بهيجل استحالة الهيجلية. لا يمكننا على أي حال الرد هنا على هذه الصعوبة الكبري التي تأخذنا بعيدًا عن أطر موضوعنا المتسع بما فيه الكفاية، لكنه ربما يكون من المسموح لي الإشارة بكلمة قصيرة إلى الحل الذي يبدو لي حلًا ممكنًا، وهو ما يتمثّل في الاعتقاد بأنه إذا كان من غير الممكن تقويم فكرة الكليّة فينومينولوجيًا، فربما تكون مع ذلك هذه الفكرة معطاة لنا بشكل مغاير؛ لذلك علينا أن نغير اتجاهنا صوب الفلسفة الهيدجرية للوجود، ونتساءل ما إن كانت قادرة على منحنا الأمل في العثور على حل لإشكاليات الفينومينولوجيا، لكن هذا موضوع نقاش آخر.
أود – في النهاية – فحص آخر موضع مقارنة بين هوسرل وهيجل، ذلك الموضع الذي يتضمن بعض النقاط المثيرة للاهتمام، هذا الموضع يخص موقف الفينومينولوجي فيما يتعلق بوصفه، لم تلفت هذه النقطة – في الأصل – أي اهتمام من جانب هوسرل الذي يظل – في حال تجرأنا على القول – ساذجًا وجهًا لوجه مع وصفه – مفكّر – .دون التأمل كثيرًا – على الأقل في البداية – أن هذا الوصف مشتق من منظور مشاهد غير مشارِك، المتفرج المحايد الشهير، وأن الوصول إلى وجهة النظر كهذه لا يطرح أي مشكلة بشكل خاص، في حين أنه على العكس يبدو لنا مراكمًا لصعوبات عديدة. لا يمكن إغفال الإشكاليات المتصلة – لدى هيجل وخاصةً بالنظر إلى ميل (توجّه) فينومينولوجيا الروح بوعي صوب تكوين كليّة مطلقة – بموقف الفينومينولوجي في أي لحظة، ذلك لا يعني بالضرورة بساطتها، تتبدى هذه الإشكاليات بالكاد دائمًا في العبارات الشهيرة التي تبدأ ب”ولكن بالنسبة إلينا”؛ إذ تفترض كل فينومينولوجيا – في النهاية – بالضرورة فينومينولوجي لديه معرفة متعمقة عنها بالمقارنة مع “الأنا” أو الوعي الذي يصفه.
ولكن علام تدل تلك “المعرفة المتعمقة”، ما هي شرعيتها؟ كيف يمكن تخيّل أنها ل تؤثّر في ما تصفه جاعلة فكرة الفينومينولوجيا نفسها دائرية؟ لأنه في هذه الحالة سيصبح كل وصف فينومينولوجي موجَّهًا عن طريق معرفة أو خبرة تختلف عن تلك الخبرات أو المعارف التي يصفها. تمثّل هذه الإشكالية إحدى المشكلات العويصة خاصة لدى هوسرل الأول، الذي يزعم تدشين الأنا الآخر، ووصف ذاتية ليست بين-ذاتية بشكل موجب بعد، كما يزعم حصر نواة أساسية تلك التي لا تتضمن أي إحالة للآخر -في الإدراك. رغم ذلك لا يمكن – بالكاد من الضروري أن نذكر مثل هذه الحقيقة البسيطة – لهذه الأوصاف التحقق دون لغة، كيف نصف إذًا عبر اللغة ذلك الذي هو بطبيعته فينومين يقيم في الطبقة بين-الذاتية للخبرة، مجال يُفترض كونه سابقًا بواسطة دلالته كل بين-ذاتية؟ ربما لن يكن هذا الاعتراض ليأخذ طابعه العاجل الذي نعرفه إذا طُرِح على فيلسوف كلاسيكي؛ إذ سيجيب مباشرة أن الخبرة المراد وصفها تكون في ذاتها مكتملة ومتحققة قبل ترجمتها إلى اللغة المنطوقة، وهو ما لا يطرح سوى مشكلة الانتقالية القابلة للحل في هذا السياق,
أما بالنسبة إلى فلسفة للقصدية وهي نفسها التي تقاتل ضد وهم المحايثة، فإنها لا تستطيع الاعتقاد بأن اللغة تترجم خبرة تأتي دونها في الأصل إلى واقعها المكتمل، إلى تحققه الكلي، بالإضافة إلى ذلك تبرز هذه الصعوبة أن فكرة فينومينولوجيا غير مشروطة مطلقًا – تلك التي لا تفترض أي شيء على الإطلاق عند انطلاقها، وهي فكرة من الأفكار الثمينة لدى هوسرل والتي لم يستطع التخلي عنها بشكل كامل – هي ببساطة فكرة أسطورية[9].
يجب أن نشدد على أن هوسرل لم يشك إطلاقًا في هذا الإشكال، بينما تحضر هذه الصعوبة بكل ضخامتها بصورة دائمة في ذهن هيجل، قبل حتى أن يكتب العبارة الأولى في كتابه؛ إذ يعلم جيدًا أن الوصف ما كان ليصل حتى إلى بدايته إن لم يكن ثمة شخص ما على ألفة مسبقة مع المقاصد السرية لهذا الوعي البارع، كما إنه يدرك أن “ولكن بالنسبة إلينا” ضرورية في هذه المهمة، وأنه من هذه اللحظة يجب أن يكون وضع ذلك الذي يتكلم واضحًا. إن الشيء المحزن في نظرنا أن الحل الهيجلي غير مقبول؛ لأن إمكانه يرتبط بشكل مباشرة بالأطروحات الهيجلية التي كنا قد رفضناها، مع الوضع في الاعتبار اعتراف هيجل بأن فينومينولوجيا الروح كُتِبَت من منظور معرفة مطلقة مكوّنة بالفعل، التي تتأمل التاريخ الواقعي لتمظهرها.
ولكن لا يعتقد لا هوسرل ولا أي فينومينولوجي آخر في كليّة الروح بالمعني الهيجلي، ولا بالأحرى في كلية متقومة بالفعل وواعية بذاتها مطلقًا ( الشرط الأخير بداهي في هذا السياق؛ لأنه لا يمكن لكلية مطلقة ألا تكون غير بوصفها واعية بذاتها بشكل مطلق)، كيف يمكن أن نتيح إذًا من منظور هوسرلي -للفينومينولوجي هذه الحالة الأنطولوجية التي نحن بصدد اكتشاف ضروريتها الجذرية؟
سنكتفي هنا أيضًا ببعض الإشارات الأولية؛ إذ لا نهدف – للتشديد مرة أخرى – في هذه اللحظة -على افتراض قدرتنا على فعل ذلك – تقديم اقتراحات كبداية لحل صعوبات الفينومينولوجيا بمعناها الحديث، يبدو لنا – عن طريق التطرق إلى هذه الاعتبارات الأولية – أن التطور الأخير لهوسرل يكشف توجهًا مفيدًا، لكنه لم يتطور بشكل كامل. بدايةً، يجب أن تتضمن فكرة جعل الكل الخاص بالخبرة يرتكز على الإدراك -نتيجتين: أولهما أنه من المستحيل زعم تعقّب طبقة أصلية في هذا الإدراك الذي يظل بالفعل غير قابل للفصل عن اللغة وعن العلاقة بالآخر – التي لن تكون – على الأقل أفقيًا – خبرة موضوعها بين-ذاتية ما، ثانيتهما وجوب تعديل معنى الرد الفينومينولوجي، إن وضع بسيط بين قوسين للوجود – كما يوضحه هوسرل في البداية – ليس في الواقع مقبولًا إلا إذا كان الوجود لا يمتلك أي دلالة، سوى في حالة كان التعارض بين الوجود والمعنى هو انعدام التبادل بينهما.
لكن تطور الفينومينولوجيا قد أوضح أن هذا الطرح غير قابل أن يدوم، هل علينا الاستنتاج من ذلك أن الرد الفينومينولوجي أصبح دون موضوع؟ لا على الإطلاق، وإنما يجب عليه أن تكون غايته أخذ تلك الخبرة التي نعيشها في تيار الحياة إلى طبقتها الإدراكية الأصلية، أي إلى ذلك الذي هو أولي حقًا غير المصاب بخليط أو تراكم المعطيات أو المعارف اللاحقة التي تقوم – في الواقع – على الطبقة الإدراكية لكنها لا تحددها. بشكل ملموس، يتأسس العلم على الإدراك، لكنه لا يؤسسه؛ لأنه يفترضه بالضرورة، يجب أن يتمثل إذًا رد خبرتنا العادية إلى الخبرة الإدراكية الأصلية في تجريد الخبرة العادية من المكتسَب العلمي الذي يحوِّلها.
يُحوِّل رد الخبرة إلى العالم الطبيعي الأصلي – وهو في نظرنا أثرى وأشد تعقيدًا مما أطلق عليه هوسرل “تيار الحاضر الحي”[10] في نطاقه الأكثر تقيدًا – إشكالية حالة الفينومينولوجي كليًا؛ إذ يقضي على ادعاء “الفلسفة بوصفها علمًا دقيقًا”، يقضي عليه عن طريق بلورة تعريف للواقعي مغاير لذلك الذي يخص الموضوعية بمعناها التقليدي، المثل الأعلى الفينومينولوجي بوصفه “مشاهدًا غير منحاز”، يجرّد هذا الرد الفينومينولوجيا من إمكانية تقديم نفسها بما هي تفكر الذات لنفسها المكتمل والشامل (أو تفكر الفينومينولوجي). لكننا بتأسيس الربط والاستمرارية الجذرية – بفضل القصدية – بين ما قبل التفكّري والمُتفكَّر، وفي ما قبل التفكري بين المنعكس والعاكس – ندشّن أيضًا في البداية إمكان استعادة (غير شامل، نعم)، وبالتالي تأويلًا -للخبرة.
لكن هذه قصة أخرى ولا يمكننا أن نطور هذه النقاط، نود فقط استنتاج هذه التأملات على أمل نجاحنا في إبراز أن – بعد إعطاء الحق كاملًا إلى أصالة كليهما، في المعنى الذى يعرّف كل واحد منهما به الفينومينولوجيا – إشكالية صلتهما تطرح صعوبة عميقة وجوهرية. إن كانت هذه الاعتبارات التي لا تزال عامة جدًا، والتي لا تقوم سوى بوضع حجر الأساس للعمل – قادرة على أن تؤدي إلى فحضها بشكل نسقي، فستكون كل جهودي آنذاك قد أتت ثمارها.
المصادر [1] يبدو أن المؤلف يحيل في هذا الموضع إلى المثالية الألمانية بشكل أخص وفلسفات الحياة بدءًا من دلتاي [2] Meine Romane [3] زوجة هوسرل [4] بالمعنى المكاني [5] فينومينولوجيا الروح، تر. جان هيبوليت، ص66-67 [6] يحيل المؤلف هنا إلى تحليلية كيفيات الدازاين التي كان هايدجر قد طورها في الكينونة والزمان [7] أي الدلالات غير المملوءة أو المحمّلة بحدس ما [8] وهو ما يشير إلى التأرجح بين تمثله بما هو فاعلية وتمثله بما هو انفعالية [9] بالمعنى السلبي للفظ [10] lebendige Strômung der Gegenwart
إعلان
