الفن والعبقرية: قدرة الفنان على اختراق النَّسَق (مترجم)
سأعتزم في هذه الورقة تقديم الرؤية الفتجنشتاينية عن الخيال الإبداعي، وذلك في إطارٍ يتماشى مع حجة اللغة الخاصة عند فتجنشتاين، وسنعرج على ملاحظات فيلسوفنا العديدة وتلميحاته حول مفاهيم العبقرية والموهبة والفن المنصوص عليها في كتابه “الثقافة والقيمة”. يعتبر موقف فتجنشتاين الفلسفي من الفنون والإبداع الفني موضوعًا نادرًا ما يتطرق إليه الفلاسفة الذين يشرحون أعماله، نظرًا إلى أنه يشير إلى وجهة نظر غريبة، حيث إن الفاعل لا يمكنه خلق عالم من الصفر، أي عالم خاص في ذهنه، وهذا من شأنه أن يثير العديد من الأسئلة، أحدها عن ما إذا كان يُسمح بمساحة كافية للخيال الإبداعي والتفرد المطلق للفنان الذي يحمل علامة العبقرية، والتي تنزع بدورها في النهاية إلى إحداث كسر في التقاليد وإحداث ثورة في تصور الفن على مدار تاريخ هذا المجال.
هناك مفاهيم ومواقف معينة متعلقة بالمعنى في فلسفة فتجنشتاين المتأخرة وخاصة في كتاب “تحقيقات فلسفية”، إحدى هذه المفاهيم يسمى “ألعاب اللغة“، وغيره من المفاهيم، التي من شأنها أن توفر الأساس لفهم العلاقة بين العبقرية والفن، وبعبارة أخرى، الطريقة التي يعمل بها الخيال الإبداعي، بالإضافة إلى شروط إمكانية وجوده، والذي يقوم بتشكيل أساس الفن، الذي كان ثوريًا عندما نأخذ بالاعتبار تأثيراته التاريخية.
أميل هنا إلى استخدام كلمة “ثورية” الجذابة، ووصف بعض الأعمال الفنية بها، لجلب الانتباه إلى الصلة بين العبقرية والأعمال الفنية والفنانين، والذين تميزت أعمالهم بخلق انعطافات في تاريخ الفن. هذا لا يعني بالضرورة أن الأعمال الفنية التي لم تخلق تأثيرًا تاريخيًا في إحداث تغيير في الألعاب اللغوية التي تُلعب في النوع الفني، هي عبارة عن أعمال في موضع شك في جماليتها وقيمتها، بل على العكس، إن تشديدي على الثورة في الخطاب الفني التي يجلبها بعض الفنانين مثل بيكاسو، باخ، دوشامب وغيرهم، يجب أن يشجعنا على التفكير في الارتباط المتأصل بين “العبقرية” والتغير في معنى الثورة الفنية والطابع المتفرد لها في توظيفها في لعبة اللغة المتعلقة بالفن والخيال الإبداعي.
وبهذا المعنى، فإن “العبقرية” أو تأثير “العبقرية” يؤدي على وجه التحديد إلى تغيير المعنى في لعبة اللغة، وبعبارة أخرى، إدخال “قاعدة جديدة” إلى لعبة اللغة والانتظار حتى اللحظة التي يمكن فهم هذه القاعدة فيها، أي أن تكون قابلة للتطبيق أو ممكن أن يتبعها لاعبوا اللعبة اللغوية مع الأخذ في الاعتبار نوع الفن في صياغة شكل الحياة حيث يكون المعنى قابلًا للتحقق.
وعن التغير الذي تحدثه العبقرية في المعنى، يقول فتجنشتاين في كتابه “الثقافة والقيمة”: “إذا كان أحدهم متقدمًا على الزمان (السياق والنسق)، سنلحق به (نقبض عليه) يومًا ما” (MS 110 11:25.12.1930)، وهذا مثال جيد على كيفية تفكيره في التأثير المضاعف لقول أو خلق شيء جديد وفريد من نوعه تمامًا. يقصد فتجنشتاين في هذه المقولة أن ما يتم خلقه قبل أوانه، أي سابق لزمنه، من خلال الإبداع الفني، سيبقى متعذرًا على الفهم والاتّباع، حتى يتم فهمه، وأيضًا ستعرض هذه العبقرية على أشكال الحياة الممكنة والألعاب اللغوية، وبناءً عليها ستلعب دورًا ما.
قام فيتجنشتاين بتكريس الكثير من أعماله في وقت لاحق للتعبير بطرق مختلفة عن “التفاهم بوصفه ظاهرة عامة”، فيمكن التحقق من حدوثه من خلال علامات معينة يمكن الوصول إليها بشكل عام من خلال القواعد المتبعة، حيث إن عدم القيام بذلك سيكون سببًا واضحًا وكافيًا في حدوث شك في حدوث التفاهم، ويطرح مفهوم “المعنى هو الاستخدام” فيما يتعلق بمسألة المعنى في الفن والخيال الإبداعي، وكذلك في غيرها من الخطابات. أنا أزعم أنه يجب التفكير في كل ما يكتبه فتجنشتاين عن “العبقرية” أو “الموهبة” أو الأعمال الفنية، خلال ملاحظاته في كتابه الثقافة والقيمة وفقًا لهذا الادعاء الأساسي بأن “المعنى هو الاستخدام”.
يمكننا بسهولة أن نشعر بالحيرة من خلال محاولة التوصل إلى العلاقة التي من المفترض أن تكون موجودة بين هذا الادعاء اللغوي على ما يبدو، وتصريحات فيتجنشتاين حول الخيال الإبداعي مثل “العبقرية هي الشجاعة في الموهبة” أو “العبقرية هي موهبة أن تجعل خاصيتك مسموعة لدى الناس”. في الواقع، إن القول بأن “المعنى هو الاستخدام” يكمن في التأكيد على الظروف العملية لظاهرة المعنى وبالتالي التواصل، حيث إن المعنى يجب أن يُفهم على أنه ممارس من خلال الألعاب اللغوية، كونه عبارة عن سياقات متنوعة لنموذج حياة يتقاسمه الأفراد الذين تتشكل نظرتهم للعالم من نفس “النظام المفاهيمي”.
على نفس المنوال، عندما يدلي فيتجنشتاين بملاحظاته حول العبقرية، أو الصفات المختلفة لقطعة فنية معينة، فإن اهتمامه الأول هو أن يعرّف نفسه والقارئ بالشروط العملية لإمكانية حدوث العبقرية، والتي يمكن قراءتها على حد سواء كدليل عملي للخيال الإبداعي والتفرد للفنان نفسه كطريق يمكن العثور عليه في داخله، وكدليل عملي للناس الذين يستهلكون ويتعاملون مع هذا الخيال الإبداعي، ويشخّصونه، ويجعلون له قيمة ويقدرونه.
سيكون من المفيد بالنسبة لنا عند هذه النقطة توضيح وشرح بعض تعليقات فتجنشتاين في كتاب الثقافة والقيمة عن الفن والعبقرية. دعونا أولًا نلفت انتباهنا إلى ملاحظته التي تقول: “العبقرية في الشجاعة في موهبة المرء” (MS 117 152 c: 4.2.1940)، وهي ملاحظة توجه إلى الفنان الذي يوشك على إبداع شيءٍ مبتكر. تتوافق هذه الملاحظات مع بقية أفكار فتجنشتاين في أعماله التي تلحقها، والتي لا تحاول الإشارة إلى أي شيء خاص وغير قابل للانفصال عن الفرد والانتشار، بالإضافة إلى ما يتفرد به ذهن الفنان فقط، وينسحب ذات الأمر على الخيال أيضًا، وهلم جرًّا. بل على العكس من ذلك، تشكك أعمال فتجنشتاين في إمكانية تواصل الشخص حتى مع هذا النطاق الخاص به، إن كان موجودًا أصلًا.
هذه الملاحظة هي في الواقع دعوة للفنان أو العبقري أو المفكر الإبداعي لاكتشاف المسار الذي يقود من الميزة المشتركة للمواهب الموجودة في الكثير، إلى ميزة نادرة من العبقرية التي يمكن العثور عليها في عدد قليل جدًا. يرمي فيتجنشتاين من خلال هذه الملاحظات إلى طرح أنه لا توجد صلة غامضة تكمن في الأصل بين الموهبة والعبقرية في حالة العبقرية، إلا أنه عمل شجاع يمكن ملاحظته، نتيجة الإيمان بالموهبة والعمل في سبيلها، بالإضاف إلى الجهد والاستثمار بناءً عليها، وهذا من شأنه أن ينقل الموهوب إلى مرحلة العبقرية.
من بين حالات لا حصر لها من الأشخاص الموهوبين، هم فقط الذين لديهم الشجاعة في هذه الموهبة، الذين لديهم الشجاعة الكافية لإرساء حياتهم على هذه المواهب والقيام بكل ما يتطلبه الأمر مثل التعليم، والتدريب، والإيمان، والتفاني غير المشروط، والوحدة، واليأس، والمغامرات، هي حياة ذات معنى تعطيهم المحفزات العاطفية الكافية للتعبير من خلال فنهم أو اختراعهم، وتكريس الكثير من الوقت والطاقة لتحقيق الأعمال الفنية الخاصة أو الاختراعات، أن تتحول حياتهم الخاصة إلى عمل فني خلال هذا العمل، للوصول إلى تعبيرهم الفريد الشخصي في الشكل الفني المحدد أو النشاط العلمي. بمجرد القول إن “العبقرية هي الشجاعة في الموهبة”، يمكن لفتجنشتاين أن يقول الكثير عن النمط الذي يمكن الوصول إليه بشكل عام، والذي يتمثل في تحويل الفن إلى عمل عبقري.
يوضح فتجنشتاين أن الأمر لا يقتصر فقط على امتلاك الموهبة والشجاعة لتكون عبقريًا، لأن شخصية العبقري هي ميزة لا يمكن الاستغناء عنها في النهاية للخيال الإبداعي والعبقرية، وهذه الشخصية هي الحاملة بشكل ملحوظ للخيال الإبداعي المعني والمسؤول في التحريض، إن جاز لنا التعبير، على إحداث ثورة في مجاله الفني. يقول في كتابه “الثقافة والقيمة”: “إن العبقرية هي الموهبة في أن تجعل الشخصية ذاتها بارزة. أود أن أقول لهذا السبب بالتحديد، أن كرواس (على سبيل المثال) لديه موهبة، وهذه الموهبة غير عادية، ولكنه ليس عبقريًا (…) من الغريب أن هذا، مثلاً، أكبر بكثير من أي شيء كتبه كراوس. هنا لا ترى مجرد هيكل فكري مجرد، بل إنسانًا بأكمله. وهذا هو السبب أيضًا في أن عظمة ما يكتبه الشخص تعتمد على كل ما يكتبه ويفعله”.
هذه ملاحظة تتوافق إلى حد كبير مع كتاباته حول مفهوم المعنى، بمعنى أن ما يجعل العمل الفني عظيمًا، هو أنه أثر لنتيجة تجربة حياة معينة عاشها فنان معين في شكل قصة مشتركة يتم سردها بطريقة شخصية، يمكن أن يطلق عليها مقطوعة من العبقرية، بمعنى أنها طريقة فريدة وثورية تمامًا للإشارة إلى تجربة حياة عادية يمكن أن تحدث لأي شخص تحت نفس الظروف.
بعبارة أخرى، يكون عبقريًا عندما يكشف العمل الفني عن التفسير الشخصي للفنان لما يمكن أن يواجهه الكثيرون، بالإضافة إلى أن يصبح هذا ممارسة متكررة من جانب الفنان، بحيث يكتشف جمهوره عاداته وسلوكه العاطفي والمعرفي من خلال النظر إلى فنه، وبالتالي يشعرون بشخصيته من خلال أعماله، وعندها يمكننا القول وفقًا لما تقدم به فتجنشتاين، بأننا أمام عبقرية، وبإمكاننا القول إنه فنان عبقري، أي أنه يستفيد من خياله الإبداعي. ولا يتطلب الأمر فقط الشخصية وانعكاساتها وتجلياتها، بل يحتاج إلى تشكيلها من خلال المهارات الفنية للفنان مع شجاعة كافية في موهبته، ليستثمر فيها، كل هذا من الشروط الأساسية للعبقرية، أي العمل الإبداعي الذي يدفع إلى نوع من الثورة في مجاله ونوعه الفني. يقول فتجنشتاين: “معيار العبقرية هو الشخصية، حتى لو كانت الشخصية نفسها لا ترقى إلى مستوى العبقرية. إن العبقرية ليست “موهبة وشخصية”، ولكن شخصية تعبر عن نفسها في شكل موهبة خاصة.(…)”(MS 110 11:25.12.1930)
من أجل طرح الطبيعة الثلاثية لمفهوم فيتجنشتاين للخيال الإبداعي، ومن ثم الطريق إلى العبقرية، بوصفه ذي أهمية تاريخية كبيرة مع أصالة جيدة، فيقول في مكان ما في “الثقافة والقيمة”: “إن العبقرية، فيما هي عليه، بذرة جيدة من الأصالة لا تريد أن تكون على ما أنت لست عليه”، نأخذ بعين الاعتبار مثال فنان ما، عبارة عن عقل مبدع، يمكن اعتباره تجسيدًا واضحًا لإظهار هذه الشروط الثلاثة الضرورية التي تمكنه من إبراز العبقرية فيه.
عندما أنظر في محيطي الخاص، بوصفي فيلسوفًا قادمًا من اسطنبول، أميل إلى النظر في مثال أورهان باموك، الحائز على جائزة نوبل عام 2006 في الأدب، وفي الواقع خطابه في ذلك الحفل، والذي صدر لاحقًا ككتاب بعنوان: “حقيبة أبي”. يتحدث في الكتاب عن سيرته الذاتية ليصبح كاتبًا، فيضع ذلك في سياق عائلته ومدينته ومحيطه وعاداته، والتي يمكننا تصنيفها بدرجة ما كمكونات تكوين أسس شخصيته. يعتبر هذا الكتاب مثالًا جيدًا على وجه الخصوص لمراقبة العناصر الثلاثة لخطاب فيتجنشتاين حول العبقرية ومن ثم التفكير الإبداعي.
أولًا، مثال باموك هو ذلك الشخص الذي تملكته الشجاعة في الكتابة رغم كل الصعاب. يتكلم باموك عن والده، الذي استمتع بالسفر، يعيش رحابة الحياة، لقد اختار الحياة بمزيد من المتعة وأقل تعقيدًا، بينما على الجانب المقابل، اختار باموك الحياة وحيدًا لساعات قضاها لسنوات في غرفة مظلمة مغلقة مع الآلاف من الكتب، يأتي والده أحد الأيام إلى غرفته ليترك حقيبة مليئة بالدفاتر والمذكرات. ويحكي باموك بصدق قصة تخوفه من فتح وقراءة دفاتر والده أكثر من خوفه من من أن يقرأ لكاتب سيئ، بل لقد كانت مخاوفه في الواقع من القراءة لكاتب جيد. لأنه إذا أثبت والده أنه كاتب جيد، بمعنى أنه عميق ومعقول، على الرغم من أنه لم يبذل في حياته جهودًا صعبة في أن يحول هذه الكتابة لشيء عبقري ومسموع، فإن هذا سيكون مجرد شهادة على حقيقة أنه كل شجاعة، أي الشجاعة للإيمان بالموهبة والتضحية من أجلها، إذا جاز التعبير، وبذل المجهود كمجرد انعكاس لهذه الشجاعة، فإنَّ كل هذا لا يعني بالضرورة تشكيل عبقرية.
على أية حال، هو لا يصادف أي عبقرية في كتابات والده، ويناقش محاولاته ألا يتفوق على أحد. بالنسبة إلى الشخصية، يكتب باموك في هذا المقال ذاته، أكثر من بضع مرات حول كيف يصبح المرء كاتبًا ناجحًا عندما يستطيع أن يخبر قصته الشخصية كما لو كان هو حياة الآخرين وما زال هو نفسه يكتب كل ذلك. إنها تعمل بطريقة تجعل القارئ يعرّف نفسه بكل سطر من كتاباته كما لو كان يتحدث عن قصته بينما هو في الحقيقة يتحدث في حدود نفسه. إن الطريق إلى أن تصبح كاتبًا جيدًا، بالنسبة إلى باموك، هو من خلال جعل حياة المرء الشخصية تبدو كما لو كانت حياة كل فرد تفرقها إلى ألف قصة تتألف من ألف حرف مختلف، وكل واحد منها يعكس بشكل لا لبس فيه جانبًا من شخصية الكاتب وقصته الشخصية. هذا كل ما في الأمر، عبقريته كشخصية يشعر بها، وتظهر من خلال أعماله.
لقد عمدت في السطور السابقة إلى مناقشة أفكار فتجنشتاين عن الخيال الإبداعي اعتمادًا على كتاباته عن العبقرية. لا يبدو أن كلام فتجنشتاين يعد من قبيل الصدفة في كل مرة يتحدث فيها عن العبقرية، فيقرنها في سياق كلامه وبيانه عن المفكر المبدع والمتفرد في مجاله، المنفصل عن التقليد، والساعي إلى تقديم ما هو جديد في حقله، هذا العبقري الذي لا تنفصل شخصيته في عمله عن شخصيته في حياته. العبقرية تعمل على التفكير الإبداعي الثوري الذي يدخل قاعدة جديدة للعبة اللغة، يدخل سياقًا جديدًا، والتمهيد والتهيئة لأشكال الحياة الموجودة، وإذا أردنا تعريفها وفقًا لفتجنشتاين، فسنقول إنها الشجاعة في الإيمان بالموهبة، ومن ثم اتخاذ الخطوات بشأن عبقريته، ليظهر تفسيره الخاص لما يمكن الوصول إليه والعيش فيه من قبل الجميع، ينتج العبقري شكل حياة متفاهم عليه من الجميع، لكنه مختوم بختمه. وهذا الختم الذي يحتوي على قالب شخصيته. بغض النظر عن عدد المرات التي يُستفاد فيها من هذه العبقرية في تحقيق الأهداف المختلفة، إلا أنها تحمل علامة دائمة، هذه العلامة هي ختم العبقرية، أي الشجاعة في الموهبة التي يتم من خلالها سماع شخصية الفنان وشعورها.