العودة للأصل البدائي في الفن الحديث كتنقيب لا واعٍ عن لغز الوجود 

على عكس ما يعتقد بعض الناس حول أنَّ الرمزية في الفن ظهرت مع بدايات ظهور الفن الحديث، غير أنَّ بداياتها الأولى في الفن تعود إلى حقب سحيقة في التاريخ؛ إذ ظهر استخدام الرمز منذ الخطوط الأولى في الرسم المنقوش في أعماق الكهوف في فرنسا وإسبانيا وشرق آسيا، وأدرك فنانو العصر الحديث من أمثال بيكاسو وبولوك أهمية التوظيف الواعي للا وعي، فنرى الرمزية اشتقت طريقها من بين مثالب الواقعية المفرطة التي كانت لغة الفن في عصور النهضة.

الفن الحديث يسبر أغوار الأسطورة

حاول فنانو الفن الحديث أمثال بيكاسو وبولوك النهل من الأساطير والطقوس البدائية والتراث البدائي (البدائي لا يعني الوحشي)، التي قد تحمل في داخلها بعض الغرابة التي قد نعدها في الآخر البدائي، والتي ما هي غير انعكاس لنا؛ لأن الآخر هو نحن ونحن هو الآخر، وما العودة إلى الآخر إلَّا عودة إلى الكامن في لا وعينا.

كانت هذه الرغبة في العودة إلى البدايات كأنما هي محاولة لإيجاد نافذة إلى لغز الحياة، وفكّ رموزها، وسبر أغوار الوجود المجهول، بالإضافة إلى الوقوف سواء كان ذلك بشكل واعٍ أم لا واعٍ في وجه العقلنة الممتدة للثقافة بدون مراعاة لجوهرها.

هل الرمز يفقد الصلة مع المجهول في الفن الحديث؟

في اللوحات التجريدية البعيدة كل البعد عن أيِّ ترتيب وتنظيم للأشكال والألوان قد يظهر لنا بأنها تفقد الصلة مع أي مضمون رمزي، فنحن نعبِّر في الرمز عن موضوع غير معروف، وإنْ أصبح الرمز نفسه مجهولًا فقد يظهر وكأنَّه يفقد أي قدرة للتعبير عن شيء ما.

لكن لدى كارل يونج رأيًا آخر نحو هذه الرموز المفرطة في التجريدية، فهو يعتقد بأننا إنْ أمعنا النظر سنتبيَّن بأنها ما هي إلَّا صور دقيقة للطبيعة ذاتها، للبنية الجزئية لعناصر الطبيعة المادية المحسوسة، فالتجريدية التامة أصبحت وبشكل لا واعٍ من الفنان ما هي إلَّا رسم لعناصر المادة، وهكذا بعد أن كنَّت كلٌ من التجريدية والواقعية العداوة الشديدة لبعضهما في بدايات الفن الحديث عادتا لتكونا انعكاسًا للمادة في النهاية، أي ليتجها نحو الهدف نفسه، ولو كان ذلك يحدث بطريقة لا شعورية لدى فناني الفن الحديث.

إعلان

بيكاسو والأقنعة الإفريقية

انعكس الفن البدائي انعكاسًا مذهلًا على فن بيكاسو؛ إذ حاول جاهدًا توسيع اللغة الفنية والبصرية الغربية بالاقتباس من الفن البدائي الإفريقي وإنتاج لغة بصرية جديدة.

أثَّرت المنحوتات المصرية والإيبيرية والإفريقية في كثير من لوحات بيكاسو، فاقتبس من إحدى المنحوتات الإيبيرية لوحة صورة شخصية لـ جيرترود اشتاين، واستلهم من المنحوتات الإفريقية لوحة فتيات أفينيون التي تعد كبداية فعلية للاتجاه التكعيبي في الرسم.

أسَّس بيكاسو للتكعيبية في هذه اللوحة التي قد نعدها تجريبية مقارنة بأعمال بيكاسو الأخرى، غير أنَّ أهميتها تكمن في أنها قد أسَّست لرؤية هندسية جديدة وبداية للفن التكعيبي الحديث. ففي اللوحة خرق للمنظور فلا توجد زاوية لها أسبقية على الأخرى كما أنه كان بإمكاننا رؤية الوجوه من عدة زوايا.

بولوك مقتفي طقوس الهنود الحمر

لطالما أثنى بولوك على الخصائص التشكيلية الموجودة في فن الهنود الحمر ووظَّف الطقوس الشامانية لدى الهنود الحمر في لوحاته. هذه العودة إلى التراث والأساطير إلى الماضي عند بولوك  ما هي إلَّا حاجة إلى استكشاف أقاصي اللا شعور؛ إذ اعتقد بولوك كما اعتقد كارل يونج عالم النفس بوجود أنماط بدائية راسخة في لا شعورنا الجمعي.

وسبر بولوك في لوحاته أغوار الأسطورة لدى هنود الشامان؛ حيث عجَّت لوحاته برسوم النيران َالتي ترمز عنده إلى ما يطهر الإنسان، ورسم كذلك الطوطميات والطيور والرماح الطقوسية وكثيرًا من الرموز التي حملت إرثها الأساطير الشامانية.

حاول بذلك هو الآخر كما حاول بيكاسو نقل واقع روحي عبر هذا الفن الرمزي الذي كان قوامه الأسطورة.

ماتيس وتحويل اللون إلى غاية في ذاته

كغيره من فناني العصر الحديث يعود ماتيس بنا إلى الفن البدائي حيث الألوان الصارخة والنقية والعنيفة؛ إذ اعتقد ماتيس بتطويع الألوان وردها إلى ألوان خالصة ، وحرر اللون من أن يكون خادمًا للمنظور فلا أفضلية لنقطة على أخرى ولا وجود لفضاء ثلاثي الأبعاد، فاللون من وجهة نظره هو غاية في حد ذاته، بوابة للتعبير كما عبر به البدائيون من قبل.

يقول ماتيس في إحدى رسائله لمارجريت ديتوي: “إنَّ لوحةً ذات منحى وحشي هي المكونة من تناسب بين عدة ألوان تشكل فضاء ممكنًا للذهن. يمكن أن يكون الفضاء، الذي أُبدِعَ، خاويًا مثل غرفة ولكنه مع ذلك فضاء تم خلقه”. قد تكون عودة ماتيس إلى الفن البدائي والارتشاف من مناهله مختلفة في جوهرها عن عودة بيكاسو وبولوك، لكننا نستطيع أن نرى كم كان للفن البدائي من تأثير صارخ على الفن الملقب بالحديث.

هل كل هذا محاولة للانفلات من التمركز الذاتي أم ..؟

عدَّ عديدون اعتماد بيكاسو وبولوك على الميثيولوجيا المستقاة من الثقافات الأخرى على أنَّها نزعة للانفلات من التمركز الذاتي، ومن الفن الواقعي الصارم الذي كسا عصر النهضة وما بعدها، فكانت تلك ما هي غير محاولات لتوسيع الرؤية الفنية وكسرًا لقواعد اللون والمنظور، وبالطبع كان ذلك أحد الأسباب لكنه لم يكن السبب الوحيد في هذا التوجه للماضي السحيق وللأسطورة وللتراث من الآخر، فبولوك هو نفسه القائل بوجود فكرة مفادها أنَّ كل إنسان يحمل في ذاته ميراث البشرية كلها، فكان لا بد لهذا الميراث أن يظهر بصورة أو بأخرى في الفن مجددًا كثقل نحمله في لا شعورنا الجمعي.

عبَّر الرسام الفرنسي ألفريد مانسييه عن هدفه من الفن قائلًا: “ماينبغي أن نقهره من جديد إنما هو ثقل الواقع الضائع، لذلك علينا أن نصنع لأنفسنا قلوبًا جديدة، أرواحًا جديدة، نفوسًا جديدة وإلى حد ما أناسًا جددًا. فواقع الرسام الحقيقي لا يكمن في التجريدية ولا في الواقعية، بل في إعادة قهر ثقله ككائن بشري. في الوقت الحاضر، يبدو لي الفن غير التصويري وكأنه يقدم الفرصة الوحيدة للرسام لكي يدنو من حقيقته الداخلية ويقبض على وعيه لجوهر نفسه، بل ولوجوده. وبإعادة فتحه لهذا الموقع، وبها فقط، سيكون الرسام قادرًا على ما أعتقد، على أن يتوصَّل بمرور الزمن إلى نفسه، أن يعود شيئًا فشيئًا لها ، أن يكتشف من جديد ثقله ومن ثم أن يدعمه بحيث يتمكن من الوصول إلى الحقيقة الداخلية للعالم”.

خواء ميتافيزيقي

الشعور بأنَّ الشيء أكثر مما تراه العين رافق الفنانين منذ زمن عميق الغور كما يبدو، عزَّر ذلك الشعور لفناني الفن الحديث الفيزياء الحديثة التي سخرت من مفهوم المحسوسية المطلقة للمادة، فشرع عديد من الرسامين يفكرون في ذلك الشيء السحري الكامن في الأشياء، فكتب جان بازين عن ذلك يومًا: “توقظ الأشياء حبنا لا لشيء إلَّا لأنها تبدو وكأنها تحمل قدرًا أكبر مما هي نفسها”. فأصبح هذا البحث العميق عن المغزى نوعًا من أنواع الهروب من الخواء الميتافيزيقي متمثلًا بالرمزية في الفن الحديث.

بذلك ندرك أنَّ التجريدية التي طرقت أبواب الفن الكلاسيكي وفن عصر النهضة كانت وكأنها عودة للبدايات، للفنون الرمزية والخيالية، فحتى فنان العصر الحديث، من وجهة نظر كارل يونج الذي كسر قواعد الفن الكلاسيكي تكسيرًا فرفض التقيد بالمنظور وقوانين التكوين والزوايا والألوان، لا زال ومن دون وعي منه محكومًا باللا وعي الجمعي الراسخ فينا، فهو حتى عند وصوله لأقصى مراحل التجريد ما كان يرسم فعلًا سوى انعكاس لذرات المادة المكوِّنة للكون من حولنا، وما كان يرسم سوى انعكاس للآخر الذي ما هو إلَّا انعكاس للذات.


مراجع:

الإنسان ورموزه للكاتب كارل يونغ ،ترجمة عبد الكريم ناصيف، دار التكوين، الطبعة الأولى 2012، فصل الرمز في الفنون البصرية صفحة 311 الفصل كاملًا

– كتاب فلسفة الصورة للكاتب عبد العالي معزوز، عن دار إفريقيا الشرق 2014، ص1 إلى 22.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: أفنان أبو الرب

تدقيق لغوي: أمل فاخر

اترك تعليقا