الرقص على نصال الاكتئاب
كان يجلس في شرفة الطابق الثاني يُدخن سيجارةً على كرسيٍ بمحاذاة الحافة، والقمر يُرخي بسناه على الشرفة، وريح الشتاء تذرو بأشجانها رماد السيجارة، وتنفض عن أضلعه أي إحساس بالدفء.
يمكنك الاستماع للقصة من هنا
سحب نفسًا عميقًا من سيجارته، الشوارع خاويةٌ وكأنه آخر الناجين. والصمت حالكٌ كسواد الليل، حتى أنّ صوت طقطقة شعلة السيجارة تسلل إلى سمعه، ورغم ضآلة الصوت إلا أنه أسرى في جسده قشعريرةً هي أشد وطأة من رجفة البرد، أحس بشعيرات ذقنه تنتصب، أزعجته تلك الطقطقة إلى أقصى حد، ثمّ إنه قد أحسّ ببراغيث التبغ تعيث في صدره، فمضى يسعل بحركة لا إرادية، واستمر في السعال حتى ألفى نفسَه يبصق دمًا.
يجب أن يُقلع عن التدخين، حدّث نفسه. سبق وكان قد اتخذ ذلك القرار مراتٍ لا يكاد يُحصيها، وفي كل مرةٍ كانت قواه ما تلبث أن تخرّ، وما يلبث أن يضيق بأعراض الانسحاب إذ كانت تقف حجر عثرة بينه وبين أداء التزاماته، ربما لو كان أيسر حالًا لاستطاع الاقلاع بسهولة، ربما لو ترك له أبوه من المال ما يعفيه من تمزيق السنين بمشرط العمل الاستعبادي لَما كان يبصق دمًا الآن.
تذكّر أول مرةٍ استقدم فيها الدُخان إلى رئتيه، كان ما يزال ابن خمسة عشر، يقف أمام ماء النيل برفقة صديقٍ يكبره سنًا، سأله صديقه آنذاك إن كان مُدخنًا، فأومأ بالايجاب وتقبل سيجارته، ربما كانت إيماءته تلك سببها أنّ الأفلام كثيرًا ما صوّرت السيجارة على أنها رمزٌ للفحولة. طوال حياته، كان يريد أن يُثبت شيئًا لمن حوله، كان يرغب في أن يبرهن على مدى استحقاقيته لما هو أفضل، كانت لديه تلك الرغبة، الرغبة في أن تُلقي بنفسك في اللهب؛ فقط لتُثبت لمن حولك أنك قادرٌ على ذلك.
تنشأ الانحرافات عادةً لسببين مُجتمعيين: أن يقسو الآباء على الأبناء حدّ دفعهم إلى الإحساس بالضآلة، وألّا يُجيد الآباء إجلاء طرق تحقيق الذات السليمة لأبنائهم. تبيّنَ تلك الحقيقة، فارتمى برأسه على مسند الكرسي، ثم تخيّل نفسه مستلقيًا على سريرٍ في مشفى، جسده وقد ازداد ضراعةً يكسوه قميصٌ خفيفٌ مُقلّم، ورأسه جدباء قد هجرها الشعر، تسأله الممرضة: “كيف بدأت تجربتك مع السرطان؟” فيجيبها: “لم أرِثْ من أبي تِركةً، وكنت مُدمنَ سينما.” تخيّل هذا وابتسم في مرارة.
حقيقة أنّ اختياراتنا ما هي إلّا ضرائب ندفعها إثر قرارات سابقة. وأنّ تلك القرارات السابقة بدورها ما هي إلّا غرامات لحوادث تسبقها، حوادث ربما لم يكن لنا من يدٍ فيها أصلًا، تبدد حريتنا، وتجعلها كلمةً واهيةً كذرّات غُبار. ربما لم تكُ المشكلةُ يومًا في جدليّة الحُرية نفسها، بل دائمًا ما تكون في المعاناة المنتصِبة في نهاية كل طريق، فأن تكون مُجرد “عروسة ماريونيت” في أيدي القدر هو أمرٌ مُجرد التفكير فيه قد يدفعك إلى الجنون، وأن تكون حرًا بشكلٍ مطلَق في حياة تعيشها دُفعةً واحدة بلا سابق تحضير أو خبرة، يجعلك توقن تمامًا أن الحياة عبثٌ محض، وأنك إذ ترقص فوق الزجاج بكامل إرادتك، فلن يسعَ ضميرُك سوى أن يقذفك بمناجله.
حطّت على أنامله ذبابةٌ تافهة، وما إن لامست أقدامُها اللزجةُ جلدَه حتى سَرت في جسده قشعريرة، وأحس بتشنجات خاطفة أسفل شفته السُفلى، هشّها بيديه بحركةٍ عصبية، ساورته ذكراها مرةً أخرى، هي لم تكُ أبدًا أنثى مثالية، بل كانت في الحقيقة أقرب منها إلى عاهرة.
منذ ساعات، كان قد تيّقن أن كل شيءٍ مهما بلغ تورّده، فإنه يحمل في سيقانه شيئًا من شوك، حتى لو كان حضن امرأة. كان يضمّها إليه بعنف، وكأنه يودّ لو تكسرت أضلعهما حتى يسنحَ لقلبه أن ينال موقعًا أقرب لقلبها، استبد به الشوق حتى أخذ يترنّح وهي بين ذراعيه، فأسند ظهره على جدران بيتٍ قديمٍ قد أحدث فيه الزمن أخاديدًا، أحس في ظهره بوغزةٍ عنيفة، وكانت هي تفوق الطين الذي خُلقت منه قسوةً، كانت مستسلمةً لضمته دون أن تحرِّك ساكنًا، اكتفت ببعض التربيت على كتفه، وبينما هو كان يتنهد مريدََا زهق روح آلامه، لم تنبس هي ببنت شفة.
هبطت الذبابة على خده، فأحس كل شعرةٍ في جسده تنتصب، ولم يشعر بنفسه إلا وهو يلطمها في حدة، كانت الذبابة، بقدر تفاهتها، قد أحدثت في أحشائه من الانزعاج ما يقصر عن إحداثه صوت ألف جرس.
****
في نهاية القرن الماضي، تقدم أحد الباحثين بفرضية مفادها أن الألم ليس إحساسًا مُستقلًا في حد ذاته، بل هو ناتج عن الإفراط في تحفيز أيٍ من المستقبلات الحسية الأساسية (البصرية، اللمسية، الكيميائية، الحرارية). لقيت هذه النظرية رواجًا واسعًا في البداية إلى أنْ أُثبِت خطؤها، ففي بعض الحالات –السرينجوميليا (Syringomyelia) مثلًا- يفقد الفرد قدرته على الإحساس بأي مؤثر لمسي في موضع ما من جسده، إلا أنه يحتفظ بقدرته على الإحساس بالألم في نفس الموضع، وانتهى العلماء إلى أن الإفراط في تحفيز مستقبِلٍ ما لا ينتُج عنه إحساس بالألم، بل إحساس بالانزعاج.
فيما بعد، توّصل العلماء إلى تشخيص حالة أطلقوا عليها “الدفاع الحسي” (Sensory defensiveness/overload) وهي أن يجد المرء أي إحساسٍ ضئيلٍ كمسببٍ عظيم للانزعاج، فينزعج من أرق لمسة، ومن أخفض صوت. فإذا افترضنا مثلًا أنّ إحساسًا ما يُمكن التعبير عنه بالرقم ألف، فالانزعاج هو مضاعفات الرقم ألف.
للاكتئاب علاقة وطيدة بالألم، ذلك شيءٌ لا يُمكن للمرء إنكاره، بَيْد أنّ تلك العلاقة ليست قائمةً على إحساس الألم نفسه، بل تعتمد على الإفراط في الألم حدّ الانزعاج، ومن ثمّ يتفاقم الانزعاج حدّ الاكتئاب. ذلك ما يُفسر لِما قد تجد آلاف حالات الاكتئاب بين الطبقات البرجوازية، فالمكتئب لا يكون بالضرورة متألمًا، لكنه دائمًا ما يكون منزعجًا.
دعني أوضح الأمر، فلنفترض أنك جائعٌ الآن، هرعت إلى المطبخ، ومضيت تلتهم كل ما وقع عليه بصرك، ثم وصلت إلى لحظةٍ تتردد فيها قبل أنْ تغلق على قضمة أخرى، تُحدّث نفسك: “ربما تؤلمني معدتي بعد هذه القضمة، لكنني لم أشبع بعد. نفضتَ تلك الأفكار، ومضيتَ تأكل حتى أحسست بجسدك يضيق بمعدتك، ووجدت ذلك إحساسًا مُزعجًا. تلك الشعرة بين الإشباع والانزعاج، هي ما تفرض علينا الاعتدال في كل شيء، أن نحزن بقدْر، ونفرح بقدْرٍ أيضًا. عندما يستحوذ على المرء إحساسٌ حدّ الانزعاج، لا يجد في نفسه مساحةً لأي إحساس آخر مهما بلغت ضآلته، فيزعجه ذلك، ويأخذ ذلك الانزعاج في التمدد حتى يلف الإنسان نفسه فريسةً للاكتئاب.
****
مضت الذبابة تحوم حول رأسه، فلوّح بيديه في الهواء ليطاردها، اختفت للحظة، ثمّ عادت وقد رافقتها أخرى، فقام من كرسيه ورمق الشارع، فتراءى له جزارٌ وقد علّق ضحيته في خطّاف، تمامًا أسفل بيته. كان جسدُ الضحية هزيلًا، قد سلخ الجزار عنها جلدها حتى عرّاها تمامًا، خطوط الدهن تتعرج بين لحمها الأحمر العاري، والنصل يخترق قلبها تمامًا، عاجزةً هي إزاء اعتداءات ذبابٍ تافه.
مضت الذبابتان ترتطمان في بعضهما في عمى، فيصدر عن ذلك الصدام صوتٌ يحثّ التشنجات في كل شبرٍ من جسده، مضيا يدوران في الهواء في حركاتٍ استعراضية، وما لبثا أن دعيا أترابهما إلى العرض، فآلت شرفته إلى سيركٍ للذباب. تحرّك باتجاه الذباب يضربه، وبعثَتْ ريح الشتاء في الضحية رعشة وكأنها أعادت إليها الروح للحظة. طفق يضرب الذباب، ويدور حول نفسه، يضرب واحدةً فتهوي، وما تلبث أن تباغته أخرى، بل ما تلبث التي ضربها أن تُبعث مرةً أخرى.
انبثقت حشودُ البشر من اللاشيء، كانوا يصطفّون أسفل الشرفة، يرمقونه في عجب، استحوذ عليهم الظن بأنه يرقص، كان يرفع يده في الهواء، ثم يلوّح بها، ثم يدور في حركةٍ بهلوانية، ويومئ بكامل جذعه إلى الأرض، بينما كان الجزّارُ منهمكًا في شق أحشاء ضحيته، غير مبالٍ بالرقص ولا بالحشد. طفق الحشد يصفّق ويصفّر، واستمر هو في الرقص، يصارع ذبابَه، حتى هبطت ذبابةٌ عنيدةٌ على حافة الشرفة، فمد قدمه في حنق، وما لبث أن هوى تمامًا على نصل الجزار.
ساد الصمت لبُرهة، ثم انهمك الجمهورُ في تصفيقٍ حار.