حوار مع صديقي الرأسمالي: لا يجب أن نطبّق كل ما يمليه الصندوق
تمثِّل الرأسمالية في العالم الغربي نظامًا اقتصاديًا واجتماعيًا حقًَق نجاحات مبهرة لم تصل إليها البشرية من قبل، جعلت أصحابها ومنظِّريها يقدسونها وباتت لديهم صنمًا يُعبد؛ يحجّون إليه بأفكارهم وآرائهم. ولا عجب في ذلك فهؤلاء قد صنعوا هذه الرأسمالية وقدَّسوها لما أتت به من نجاحات جراء اعتمادها نظامًا سياسيًا اقتصاديًا اجتماعيًا مكَّنها من الوصول إلى القمة. وعلى النقيض من ذلك، لم تحقِّق أي شيء تجاه بلدان الجنوب أو البلدان النامية ولم تكن في صالحهم على الإطلاق. ولعلَّ ما يشهد على ذلك تلك التجارب المريرة لتطبيق آليات الرأسمالية في بلدان مثل الأرجنتين ويوغندا وزامبيا وغيرها.
ولقد انطلقت كل نظريات وآراء الاقتصاديين من أنَّ الأساس في الاقتصاد هو التوازن والاستقرار، وأنَّ الاستثناء هو الأزمات، لكن الواقع العملي يتعارض مع ذلك؛ حيث لم يعد هناك دولة في العالم اقتصادها مستقِّر تمامًا، حتى أصبحت القاعدة هي الأزمات والمشاكل الاقتصادية، وصار الاستثناء هو الاستقرار؛ وخير مثال على ذلك ما يحدث من أزمات دورية تتوالى ويشهدها العالم كل بضعة سنوات.
ولقد ساهم الهيكل الذي يرتكز عليه النظام المالي الدولي والقطبية الأحادية في بروز وتكرار تلك الأزمات سواء في الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية أو خارجها، وذلك لما يتضمنه هذا النظام من عناصرتشكل منظومة محفوفة بالمخاطر، حيث يُرجع العديد من المفكرين الاقتصاديين ظهور تلك الأزمات إلى فشل النظام المالي القائم على الرأسمالية في إشارة واضحة إلى الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية التي تدافع بشدة عن هذا النظام. ومع مرور الوقت تزايدت مظاهر فشل الرأسمالية متمثلة في تسارع وتيرة حدوث الأزمات المالية منذ عقد السبعينات من القرن العشرين والتي توالت خلال العقدين التاليين.
وقد وُجِّهت العديد من الانتقادات إلى الصندوق وإدارته وبرامجه والطريقة التي يدير بها الأزمات خاصة في الدول النامية. وسمي ذلك بسياسة “الليبرالية المستبدة” أو “توافق واشنطن” التي انطوت على مفارقة صارخة لحالة الدول النامية، والتي تمخّضت عنها سيطرة وهيمنة من الخارج وعلى استبداد وتقييد للحريات؛ حيث تأججت العديد من المشكلات على رأسها (البطالة والتضخم والركود وتزايد المديونية وغيرها).
إلَّا أنَّ العجب العجاب أن نرى أناسًا من بني جلدتنا ومن أهلينا يدينون بدين الرأسمالية ويعبدونها ويرون أنها الأصلح والأنسب والأكثر ملاءمة لحالة دولنا وهذا رأيهم وهم أحرار فيه. غير أنني أدعوهم أن يزيلوا تلك الغشاوة من على أعينهم وينحون الهوى الذي لديهم جانبًا ويقفون معنا موقفًا معتدلًا وينظرون نظرة عادلة عميقة نحو ما أحدثته سياسات النظام الرأسمالي التي طبقها صندوق النقد والبنك الدوليين في تصفية البلاد النامية من ثرواتها الطبيعية والبشرية والأمثلة كثيرة في ذلك لكنهم أفرادٌ لا يقرأون ولا يطِّلعون.
نحن لا نتحدَّث عن هوى أو مجرد تحيُّز، وقد أكَّدت العديد من الدراسات دور سياسات صندوق النقد الدولي في تعميق الأزمات الاقتصادية بالبلاد النامية، وأظهرت خلالها كيف أن الصندوق دخل ليخرب بلادنا النامية وقام بعملية تحويل الأصول ورأس المال من العالم النامي إلى عالمهم حتى يتقدَّم على أكتافنا وبثراوتنا وكيف أنَّ الصندوق قد مثَّل كيان دولي لنهب ثروات البلاد النامية وأكل بيضتها.
وفي هذا الصدد أيضًا أود أن أشير إليك يا صديقي الرأسمالي وأطرح عليك سؤالًا أود الإجابة عليه، والذي يقول: أين نجحت الرأسمالية في البلدان النامية؟ وأين شكلت سياسات صندوق النقد الدولي طوق النجاة لهذه البلدان؟
وفي وجهة نظري المتواضعة فإنني أرى أنَّ هذه السياسات ليس لنا منها طائل سوى تعميق حدة الفقر واستفحال البطالة وتنوُّعها. وتعميق مشكلاتنا الهيكلية وتعظيم الانقسام المجتمعي حتى صارت مشكلاتنا أمراضًا عُضالًا لا شفاء منها.
ولكي نكون محقين في طرحنا وفي وجهة نظرنا هذه، فإنَّ السياسات التي تصلح لدولة قد لا تصلح لأخرى، ولو سألنا أحد الفلاحين عن الزراعة سيخبرنا بكل بساطة أنه ما يزرع في الأرض الرملية لا يصلح للزراعة في الأرض الطينية أو السهلية. وهكذا فإنَّ ما يصلح لبلداننا النامية المتهالكة ليس هو ما صلح في بلدان الغرب المتقدم. ومن هنا فإنَّ المشكلة لا تكمن فقط في السياسات وإنما قد تكمن في تطبيق هذه السياسات، وهو ما عانت منه مصر ولا تزال تعاني منه حتى هذه اللحظة عبر تطبيق سياسات لا تصلح لا من حيث النوعية أو التوقيت، لكنهم قومٌ لا يعقلون؛ فما أحدثته سياسات العقود الماضية من خراب ودمار هي هي ما تقوم به حاليًا. وكما يقول الشاعر “يداوِني بما كانت هي الداء”.
وأخيرًا وليس آخرًا، فإنَّ استيراد الأفكار وشيوعها في بلداننا وبين مفكِّرينا أمر يصيبنا جميعًا بالأذى لكننا لابدَّ وأن ننتبه أن الغزو الفكري هو أمر واقع، لذا علينا أن نتصدَّى له. ويا صديقي الرأسمالي ليس كل ما طبَّقه الغرب يصلح، فنظام التقليد (Copy Paste) لا يصلح إلَّا في الهواتف والحواسيب. ولنا في تجاربنا عِظة وإن لم تكن لنا عِظة فكبّر على أنفسنا أربع.
وأنا أدعو البعض لأن يقرأ في مجموعة كتب دكتور رمزي زكي والتمعن في تجارب البلدان النامية مع الصندوق. كما أود أن أنوه أنَّ اختلافنا في الآراء لا تزيدنا إلَّا ثراء ولكلٍ مذهبه وتوجُّهه، لكن في كل الأحوال علينا مراعاة مشاعر الملايين من البسطاء والفقراء عندما نتحدَّث عن نجاحات الصندوق غير الواقعية وأن لا نكون رقعة في ثوب التضليل والأكاذيب.