الأخوة كارامازوف.. دوستويفسكي والنفاذ لأسارير النفس البشرية

لم أمضِ في حياتي وقتًا في قراءة رواية أو كتاب كما أمضيت مع رائعة دوستويفسكي “الأخوة كارامازوف”، وحقًا إنّه لشعور بالفراغ بعد الانتهاء منها رغم الإشباع الذي حققته في نفسي من حيث غاياتي الشخصيّة من القرءاة، وإنّي لأُحبُّ أن أنوّه لأبرز ما لفت نظري وما ألهمتني إيّاه هذه الرواية العبقريّة على هيئة نقاط أو ملحوظات مقتضبة.

 المجتمع:

إنّ المجتمع هو الأساس لكلّ فكرة حسنة كانت أو سيئة، المجتمع هو صاحب التأثير الأوحد في مصيره، وهو عدوّ نفسه دائمًا مع الأسف، فالفرد يعاني في نشأته من قصورٍ في التربية سواء كان بالإهمال التام والأنانية المفرطة أو بالإجبار والإكراه على الامتثال لما يقرّره المجتمع ويكون أول صدام بين الناشئ والمجتمع داخل محيط الأسرة، ثم يستمر للمدرسة والشارع وباقي محطّات حياته وذلك على نحو أنّ المجتمع قد اعتاد الأمان ببعض الممارسات والمسميات التي لا يحق لأحدهم المساس بها، وبهذا يُحقِّق أصحاب النفوذ في ذلك المجتمع الاستفادة القصوى والأمان التام، وأعني بكلامي هنا الأهل والقائمين على تربية النشء (المفترض).

الديــــن:

هذه القضية المحوريّة عبر العصور، إنّ الدين مسألة شخصية جدًا، ودائمًا ما تعتمد على نفس المتديّن ورغبته وتفهمه؛ فمن الناس من يلجأ بالدّين للهروب من قسوة الواقع، وهناك من يستعمل الدين ساترًا لممارساته الغريزيّة ورغبةً في الارتقاء فوق رقاب الناس. ولكن الأسوأ دائمًا يكمن في خلط المجتمع بين تقديس الدين والتفكِّر فيه من جهة، وبين تقديس الدين وتقديس رجال الدين من جهة أخرى، وهو ما يلقي بحملٍ ما لرجال الدين بقدرة على حمله ومع أي سقطة لرجل الدين يساء للدين ككل بالتبعيّة. أو يلقي بحمل على الدّين نفسه، فكلّما أخطأ رجال الدّين نُسِب الخطأ بشكل مباشر للدّين نفسه.

 الإنسانية:

المجني عليه دائمًا وأبدًا.. كنت أحبُّ أن أكتفي بهذه العبارة، لكن لما تُضمِنُهُ من كثير المعاني فلابدّ من الخوض في تفسيرها، يجهل معظم الناس مفهوم الإنسانيّة الحق ولو فهموه لخلا هذا العالم من الشرّ الذي يحيط به ويملؤه، والحقيقة أنّ الإنسانية الحقّة تضمن تصرّف كل فرد يندرج تحت جنس الإنسان، فكلّ تصرف يصدر من إنسانٍ ما يؤثر في الإنسانيّة إجمالاً؛ فإن كان حسنًا فقد ارتقت إنسانيّتنا جميعًا بأن أدّت بهذا الفرد للقيام بفعل حسن، وإن كان فعل سوءٍ فقد انحدرت إنسانيتنا دافعةً هذا الفرد للقيام بما هو أسوأ.

بهذا المفهوم يمكن القول أنّنا جميعًا مذنبون في حق إنسانيّتنا جرّاء كلّ سوء أو شرّ يصيب هذا العالم بكلّ موجوداته، ولو تفكَّر كلّ بني الإنسان في هذا المفهوم لفكّروا ألف مرة قبل الإقدام على أيّ فعل، حيث أنّ هذا الفعل لا يصدر عنه ككيان مفرد بل يصدر باسم الإنسانية جمعاء، ولا أرى أبدًا تضادًا بين هذا وبين ما يحثّ عليه الدين، فإنّ الفضيلة الحقة يجب أن تنبع من مفهوم الإنسانية والحب وليس خوفًا من جهنّم، ولذا فإنّ أي سوء يصيبنا يجب تقبله كواجب نكفر به ونفدي به إنسانيّتنا ككل.

إعلان

 الإيمان:

القضية الأولى والأهم في تاريخ الإنسان والأكثر جدلاً وخلافًا.. يجدر القول أنّ الإيمان مسألة حساسة جدًّا ولكنها الغاية الحقّة من الوجود. والواجب علينا أن نتفكّر ونبحث مليًّا عما يُطمئِن قلوبنا ويصل بنا للإيمان الحق، فالخوف من التفكّر ينافي الإيمان جملة ويؤدي إلى الركون إلى الأمان والانخراط في المجتمع والتظاهر بالإيمان كسلوك جماعي ينافي الإيمان أيضًا.. إنّما الإيمان الحق يَحدث نتيجة بحث وتفكّر وتقصٍّ ولا يكون أبدًا سلوكًا جماعيًّا متوارثًا.

ولا يجب أبدًا إهمال الجوانب الحياتيّة في تأثيرها على هذه القضية والتي تعدّ الأهم على الإطلاق في تاريخ الإنسانيّة كلِّها. فالواقع السياسي وما نتج عنه من تأثيرات على المجتمع، بالإضافة إلى أسلوب الحياة نفسه والتطورات السريعة فيه، صرفت العقل عن التفكير في مغزى وجوده إلى كيفية بقائه.

 

في النهاية، كانت رواية الأخوة كارامازوف رحلة لا تُضاهيها رحلة بالنسبة لي، وأشيد حقًا بما تمكّن منه دوستويفسكي من النفاذ لأسارير النفس البشرية بكلّ تخبّطاتها وصراعاتها الداخلية وانعكاسها في تصرفاتها الظاهرة.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: عبد الرحمن يسري

اترك تعليقا