اختراع الوطنية
تخبرنا الوثائق التاريخية أنَّ مولد فكرة الوطنية كما نعرفها جاءت من بلاد اليونان القديمة التي شهدت أيضًا -وليس ذلك من قبيل المصادفة- مولد فكرة الديمقراطية، فنجد هيرودوت يعبِّر بوضوح عن تضافر العوامل التي نعدها اليوم أساسًا لتسمية مجموعة من الناس شعبًا «هناك عرقنا الإغريقي المشترك، نحن مشتركون في الدم ومشتركون في اللغة وتلك الأضرحة للآلهة لنا جميعًا الإسبرطيين والأثينيين، وهناك أيضًا تضحياتنا المشتركة وعاداتنا وتنشئنا المشتركة».
وإن كانت كل شعوب العالم القديم اشتركت في توهم الاعتقاد بأنها متميِّزة عن غيرها بتفضيل الآلهة لها ونقاء جنسها الذي يرقى على من سواه إلَّا أنَّ هذا الاعتقاد لم يؤدي لارتباطهم بأرضهم، وإن اعتبروها مقدَّسة بفكرة الوطنية التي تقوم على حقوق المواطنة وارتباطها بالشرف، لأنَّ الفوارق الطبقية في العالم القديم كانت على درجة هائلة من الاتساع، فما بين طبقتي العامة والنبلاء من الحكام والكهنة بون شاسع لا يمكن في وجوده القول بأنهم يشتركون في هوية واحدة على قدم المساواة، فلم يمكن لأحد في العالم القديم أن يقول «أنَّ الجميع متساوون أمام القانون، أما حين يرجع الأمر إلى تقدِّم شخص على الآخر في مراكز المسؤولية العامة فالمهم ليس الانتماء إلى طبقة معينة بل القدرة الفعلية التي يمتلكها الرجل، ولا يترك أحد ما في تهميش سياسي بسبب فقره ما دامت فيه القدرة على خدمة الدولة» كما قال بيركليس في خطاب تأبين لبعض جنود أثينا.
ولقناعة الأثينيين بأنهم نظراء متساوون عكس نظامهم السياسي هذه القناعة، ففي إطار الديمقراطية الأثينية كان كل مواطن أثيني يتقدم في سن 18عام لقضاء عامين في الخدمة العسكرية، وفى عمر الثلاثين يصبح مؤهلًا للقيام بدور في الشؤون العامة فيصبح عضو في الجمعية العامة (الإكلسا) التي تناظر البرلمان في عصرنا ومن أعضائها يختار بالقرعة 500 عضو يمثلون (مجلس البول) الذي يدير مسائل الحياة اليومية، كالحكومة وكذلك المنظومة القضائية، فيتم اختيار المحلفين رؤساء المحاكمة بالقرعة وكذلك أغلب المسؤولين الإداريين.
والآن قد تبدو فكرة اختيار المسؤولين بالقرعة مغرقة في العبثية ولكنها كانت حلًا لدحض أي مزاعم للفساد أو المحاباة، وتأكيدًا على مساواة كافة المواطنين الذين كانوا يتعاونون بقدر معارفهم وخبراتهم لأداء المهام العامة، خاصةً وأن القري الإغريقية (الديمات) كان بها مجالس مصغرة من أثينا يقرون فيها مراسيمهم الخاصة ويناقشون أمورها بحرية، بالإضافة إلى أنَّ الوظيفة العامة كانت لمدة عام واحد غير قابل للتجديد ولا إعادة التعيين، ويحق لأى مواطن أن يطعن في قرار المسؤول أو يدعي عدم صلاحيته أمام الجمعية العامة فيُعزل إن وجد مذنبًا.
فحوَّل تراكم الخبرات والإحساس بالانتماء والمسؤولية مواطني أثينا إلى قوة راشدة تتصرَّف بمقتضيات العدالة والعقلانية، حتى أنَّ أرسطو الناقد للديمقراطية اعترف بمزايا هذا النظام بقوله «إنَّ كل واحد منهم بنفسه قد لا يكون من نوعية جيدة، ولكن حين يأتون معًا فمن الممكن لهم أن يتجاوزا بمجملهم وكهيئة مفهوم القلة الفضلى، كل واحد منهم يستطيع أن يساهم بقسطه من الصلاح والفطنة الأخلاقية».
ولهذا نجد الإغريق في حربهم ضد الفرس يتغنَّون بأفضليتهم على أعدائهم لا باعتبارهم عرقًا أكثر رقيًا ولكن باعتبارهم رجالًا أحرارًا يحاربون في سبيل وطنهم، لأنَّ هذا هو فعل الرجال الشرفاء، وليس كأعدائهم عبيد لمستبِّد يستعملهم فيما يشاء.
كانت الوطنية مرادف للشرف.
ولكن الديمقراطية الإغريقية وما صاحبها من معنى للمواطنة لم تستمر طويلًا نتيجة أطماع جيرانها التوسعية وصعود الإمبراطوريات، فانضوت أثينا كغيرها من مدن اليونان تحت لواء إمبراطورية مقدونيا التي بلغت أقصى مداها في عهد الإسكندر، ليظهر مفهوم آخر للوطنية قائم على الولاء وليس الشرف الشخصي.
وعلى الرغم من ذلك فقد ظلَّ مفهوم المواطنة الإغريقي مؤثِّرًا في الإمبراطورية الرومانية، التي شهدت لحظة فاصلة في تاريخها حين تجمع العامة في تلة أفينتاين جنوب روما من أجل انتزاع حق تولي المناصب من النبلاء 494 ق.م، مستندين على تمتُّعهم بالمواطنة الرومانية التي كانت تعني الإعفاء من العديد من الضرائب والتمتع بالحماية القانونية في كافة أرجاء الإمبراطورية الرومانية، بعكس الشعوب المغلوبة بأقاليمها، كما كان يحق للمواطن الروماني المشاركة في الجمعيات وتولي المناصب الرسمية المختلفة.
وفي العصور الوسطى بينما غربت شمس الإمبراطورية الرومانية اختفى مفهوم المواطنة مع تغيُّر مفهوم الدولة كما عرفه الإغريق والرومان، وظهر مفهوم جديد مُركَّب حيث الملك على رأس السلطة التي تشاركه فيها الكنيسة والنبلاء، وأضحى المواطنون رعايا، علامة صلاحهم التقوى المسيحي والزهد وطاعة النبلاء والولاء للملك والكنيسة بغض النظر عن الأقاليم التي يعيشون فيها واللغة التي يتحدثون بها.
ثم جاء عصر التنوير الذي عدَّ جوهرة الثورة على الجمود والتراتبية الاجتماعية والطبقية المجحفة والاستئثار بالسلطة بناء على حق الميلاد النبيل أو الانتماء للكهنوت الكنسي، فوجد مفكري عصر التنوير في تراث الإغريق ضالتهم في أفكار الوطنية والديمقراطية.
وعندما قامت الثورات الكبرى الأمريكية والفرنسية تحوَّلت أفكار روسو إلى اعتقاد يفيد بأنَّ الدولة قائمة على ميثاق اجتماعي بين المواطنين على قدم المساواة، إنهم يخضعون للشروط ذاتها ويتمتعون بالحقوق عينها، وإن كل فعل سيادي من الدول يكون لصالح كافة المواطنين بالتساوي، وأصبحت كلمات لوك أنَّ لكل إنسان الحق بأن يحافظ على حياته وحريته وممتلكاته إلى أجزاء، من إعلان الاستقلال الأميركي 1776م والإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن 1789م الذي نص فيه على أن “الأمة مصدر السلطات بحيث لا يجوز لفرد أو لهيئة ممارسة السلطة إلَّا على اعتبارها صادرة منها، وأن القانون هو التعبير عن الإرادة العامة للأمة.
وكانت الحاجة للأمة في تصاعد، حيث أنَّ الدولة التي أضحى تدخلِّها في حياة الناس اليومية مضطردًا تحتاج لبديل عن القيم الدينية التقليدية التي بدأت في الانحسار، ومع صعود الديمقراطية أصبح الانتماء الوطني هو المبرَّر ليكون للشخص صوت محسوب ومؤثر بغض النظر عن وضعه الاجتماعي وانتمائه الطبقي، ولأغراض تنظيمية وإدارية اكتسبت الجنسية معنى قانوني وتم توحيد اللغة الرسمية للدول (لم يكن أغلب الفرنسيين يتحدثون الفرنسية عند قيام الثورة الفرنسية، واتُهم أعضاء إدارات الراين بالخيانة واستدعاء البروسين لغزو فرنسا لأنهم لم يكونوا يتحدَّثون الفرنسية التي أصبحت إجادة التحدَّث بها شرطًا للحصول على الجنسية الفرنسية، كما هو الحال في أميركا عندما اتخذت الإنجليزية لغة رسمية وفرضت على من يرغب في جنسيتها إثبات قدرته على التواصل بها) ومن خلال المدارس النظامية والخدمة العسكرية بالتجنيد الإجباري أضحت الوطنية أمرًا واقعًا.
ولكن وإن كان الأمر يبدو كبعث للأفكار الإغريقية التي تجعل الوطنية مرتبطة بالديمقراطية في إطار حقوقي، حيث ظهر حق الانتخاب ومورست الديمقراطية على نطاق بدأ بالاتساع تدريجيًا، وأصبحت سيادة القانون سمة الدول المتحضرة، وأضحى الشرف في الدفاع عن الوطن باعتباره أرض الأجداد التي ننتمي إليها وليس عن الملك الذي أقسمنا بالولاء إليه -لم يكن الأمر في واقعه بهذه السهولة.
فبقيت التحيُّزات الطبقية التي اشترطت درجة من الثروة للاعتراف للمواطن بالحق في الانتخاب، والتحيزات العرقية التي جحدت اعتبار غير البيض في حقوق المواطنة طويلًا (ظل مواطني جنوب أفريقيا محرومين من حقوق المواطنة والمساواة مع الأقلية البيضاء حتى سقوط نظام الفصل العنصري 1990م)، والتحيِّز الجنسي الذي رفض اعتبار النساء أشخاصًا قانونيين أصلًا، فعندما قامت الفرنسية أوليمب دو غوج بتأليف كتاب عنوانه إعلان حقوق المرأة 1791م جاء فيه أن المرأة تولد حرة ومساوية للرجل في الحقوق، وكل المواطنات والمواطنين كونهم متساوين في نظر القانون يجب أن يكون لهم الحق المتساوي في تقلُّد كل المناصب الرسمية العالية والمسؤوليات العامة والوظائف -كانت نهايتها الإعدام على المقصلة باعتبارها عدوة للثورة وامرأة غير طبيعية. وعندما عُيِّنت امرأة في منصب قاضية بمقاطعة البيرتا الكندية تم الاعتراض عليها لأنَّ المرأة في القانون العام الإنجليزي ليست شخصًا!
إنَّ ارتباط الانتماء والولاء بالوطن بحقوق المواطنة والديمقراطية لم يكن بلا منافس شرس، وهو ميراث عصر الإمبراطوريات الذي جعل الدول الحديثة ترنو لإحياء فكرة الإمبراطورية الرومانية التي صبغت القومية الفرنسية وجعلتها تتوجَّه للغزو والاستيلاء على المستعمرات وإثبات وجود فرنسا كدولة عظمى، وكانت القومية العسكرية وسيلة نابليون لتحقيق طموحاته، وأنتجت الشوفينية التي تعني التطرف في الشعور الوطني واشتُق اسمها من أحد جنود نابليون المخلصين، وكما أشعلت الثورة الفرنسية أفكار التحرر والديمقراطية أشعلت الحروب النابليونية جذوة القومية في الأمم الأوروبية، وأصبحت الوطنية في نموذج مغاير دلالة على قناعة بسمو الدولة على سائر الكيانات والقيم، وأنها -الدولة- النموذج الأسمى الذي يستحق وحدة التضحية من أجله والمستحِق للولاء المطلق، حيث لا قيمة للأخلاقيات أو العلاقات إن عارضت مصلحة الدولة، أصبحت الوطنية وثنًا.
كان ذلك مقلقًا لدعاة الليبرالية الذين أحسّوا بالخطر من هذه الأفكار، فكتب جون سيتورات ميل في 1849م «إنَّ القومية تجعل الناس لا يهتمون بحقوق أو مصالح أي جزء من الجنس البشري فيما عدا ذلك الذي أُطلق عليه نفس اسمهم ويتكلَّم نفس اللغة التي يتكلَّمونها، إنَّ شعور الوطنية يغلب على حب الحرية إلى حدِّ أنَّ الناس على استعداد لمعاونة حكامهم في سحق حرية واستقلال أي شعب آخر ليس من جنسهم أو لغتهم».
ولم يكن غريبًا في هذه الأجواء أن يعلن الكونت آرثر دجينبوا 1853م أنَّ الألمان جنس نبيل اصطفاه الله، وأنَّ نقاء السلالة يضمن خلود الشعب بينما يؤدِّي التزاوج من غيرهم إلى الانحلال ويحمل بذرة الفناء، وأن الحضارة الحقة لا توجد إلا حيث يسود الجنس الآري، وتلك هي الأفكار التي اعتنقها النازيون لاحقًا ووضعوها موضع التنفيذ.
ومع نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين أضحت القومية هي الفكرة السياسية الأكثر رواجًا، فنشأت الحركة الصهيونية 1880م والحركة القومية الآيرلندية 1893م والفاشية الإيطالية بعد هزيمتها المخزية أمام أثيوبيا 1894م وتسببت بشكل مباشر في إشعال الحرب العالمية الأولى.
ولكن بينما كان مصطلح القومية يرمز إلى جماعات يمينية تدعو لتوسع نشط في دور الدولة حيث معنى الوطنية هو التماهي في الدولة وجدانيًا والاحتشاد السياسي من أجلها، وتقابلها جماعات اشتراكية تدعو للانتماء إلى الطبقة وليس الدولة، وبينهما شريحة من المثقَّفين الليبراليين يرون الوطنية عقدًا رضائيًا وحزمة من الحقوق والحريات التي تكفلها الدولة لمواطنيها مقابل ولائهم لها، في أوروبا البيضاء كانت الوطنية في المستعمرات ضرورة للكفاح ضد المستعمر والتخلص من نير الاحتلال.
فكان اختراع الشعور الوطني ضروري للثائرين الطامحين لتحرير بلادهم وتحقيق استقلالها، وهذا الاستقلال لا يمكن المطالبة به عقلًا إلَّا إن كانت تلك البلاد تمثل أوطانًا للثائرين، وليست مجرد أقاليم تابعة أو مستعمرات لدول أخرى، فكانت كلمات مصطفي كامل 1896م «ستبقى الحضارة المصرية إذا تأصَّلت جذوبها في الشعب، إذا عرف الفلاح والتاجر والمعلم والطالب وبالاختصار كل مصر أنَّ للإنسان حقوق مقدَّسة لا تسلي، وأنه لم يخلق ليكون أداة وإنما ليحيا حياة كريمة عاقلة، وأنه لا توجد عاطفة أجمل من حب وطننا، وأنَّ الروح نبيلة، وأنَّ شعبًا بغير استقلال هو شعب بلا وجود، إنَّ الوطنية هي الدم الذي يجري في أوردة الأمم القوية ويمنح الحياة لكل الكائنات الحية».
وعندما احتدم الصراع بين الفرقاء الأيديولوجيين الأوربيين تمخض عن حرب عالمية هي الأقسى، تصادمت فيها القوي الفاشية والنازية ممثلةً نموذج الوطنية القائمة على “عبادة الدولة” مع القوى الديمقراطية التي رفعت رايات الحرية لتقنع مواطنيها أنها تخوض حربًا من أجل القيم الإنسانية والديمقراطية، وإن كانت تحالفت مع القوي الاشتراكية التي اكتسبت زخمًا واشتدت بسرعة فائقة فأنتجت الاتحاد السوفيتي والصين الشعبية.
وللمفارقة استمرت القوى الاستعمارية القديمة في دعم الحركات القومية في إطار صراعها مع القوى الاشتراكية، كما فعلت في الحرب العالمية الأولى بدعم الحركات القومية المناهضة للإمبراطورية العثمانية، مستندةً هذه المرة على مبدأ الرئيس الأمريكي ويلسون في حق تقرير المصير للشعوب المختلفة.
وفي النهاية إن كان اختراع فكرة الوطنية قد قام على ضرورات سياسية وتطورات اجتماعية جعلتها علامة مميزة في تطور الأفكار السياسية للجنس البشري إلّا أنها لا تزال فكرة قابلة للتطور.
فالوطنية التي خلقت دولًا من العدم في أقاليم لم تكن دولًا ذات سلطة سياسية مستقلة تاريخيًا بناءً على الشعور القومي استندت إليها حركات التحرر الوطني المناهضة للاستعمار، وأنتجت قيم المواطنة التي ميزت الوطنية عن غيرها من صور الولاءات الطائفية والعرقية، بتعلقها بحقوق وواجبات ذات طبيعة قانونية استندت إليها حركات الحقوق المدنية للحصول على حقوق المواطنة الكاملة وتحقيق المساواة بين كافة المواطنين داخل الدولة، أنتجت أيضًا الحركات الشمولية والفاشية ذات الطبيعة الشوفينية العنصرية غير العقلانية ولا الأخلاقية.
والوطنية وإن كانت تمثل صورة من صور إشباع الحاجة إلى انتماء الفرد لما هو أعظم من ذاته وأسمى إلا أنها تحمل ما هو أكثر من ذلك، ولها معانٍ متعددة تختلف بحسب القوى المؤثرة في المجتمع التي يمكن أن تحولها لوسيلة لبث الكراهية والتفرقة بين الناس وتزكية العداء بين الدول وبعضها وبين أفراد الشعب الواحد، باتهام بعضهم بالخيانة وعدم الوطنية إن لم يوافقوهم، أو تكون وسيلة لتحقيق العدالة والمساواة في المجتمع. وأرجو أن يكون المعنى الأخير هو السائد في فهمنا للوطنية.