أديبات من الأندلس
تؤكدُّ جميعُ المصادرِ على الدور المُميّزِ للمرأةِ الأندلسيّة في ازدهارِ ثقافةِ وتطوّرِ الأندلس، وعلى مَوهِبتِها الفذّةِ في مجالاتِ الشعرِ والأدبِ والفنون. بالرّغمِ أنّ عددًا من النساءِ لم ينَلْن حقّهُنّ من الذَّكر، و سقطَتْ أسماؤهنّ من ذاكرةِ التاريخ؛ إلّا أنّ هناك عددًا ممن سَرَى ذِكرُهنَّ على الألسنِ وبين طيّات الكتب. نتناولُ في هذا المقال ومضاتٍ من حياةِ الأديبتين عائشة بنت أحمد القرطبية و مريم بنت يعقوب الأنصاري، مما تَوفّرَ لنا من المصادر..
عائشة بنت أحمد القُرطُبيّة
هي عائشةُ بنت أحمدِ بن محمدٍ بن قادم القرطبية؛ الشاعرةُ والأديبةُ والخطّاطة، عاشَتْ خلالَ القرنِ الرابعِ الهجريّ، وعاصرَتْ أَوْجَ النهضةِ العلميّةِ و الأدبيّةِ خلال هذا القرن، حيثُ شهدَت هذه الفترةُ نشاطًا كبيرًا وتنافسًا بين العلماءِ في مُختلفِ الميادين و المجالات..
وكما سَلَفَ ذكرُه في المقال السابق عن تعليمِ النساء في الأندلس[1]؛ فقد تعلّمت عائشةُ النحوَ والصرفَ والبيانَ والعَروضَ والحديث، وفتحَتْ حلقةً للتدريس، يُذْكَرُ أنها سمعَت عن الحافظ نجم الدين الحسني، وعن الإمام ابن الخباز والمرداوي، ومن بعدهما حدّثت وانتفع الناسُ بمعارِفها وعلومِها حتّى أنها فاقت أهلَ زمانِها علمًا وأدبًا ومعاشرةً وعِفّة [2].
وهكذا عُرِفَتْ عائشةُ بأنها حَسَنةُ الخط، تكتبُ المصاحفَ والدفاترَ بخطٍّ عربيٍّ جميلٍ متقن، وتجمعُ الكتبَ وتعني بالعلمِ ولها خزانةُ علمٍ كبيرةٍ حسنة؛ حَوَت العديدَ من المخطوطاتِ و الكتبِ النادرة. كما يُروَى أنها كانت تبلغُ ببيانِها ما لا يبلُغُهُ كثيرٌ من الأدباء، فلم يكُن في زمانِها من حرائرِ الأندلس مَنْ يَعْدِلُها علمًا وفهمًا وأدبًا وشعرًا وفصاحة، وكانت تمدَحُ ملوكَ زمانها، وتخاطبُهم فيما يعرضُ لها حاجتَهت؛ فتبلغُ ببيانها حيثُ لا يبلغُ كثيرٌ من أدباءِ وقتها، ولا تردّ شفاعتها..[3]
و يُذكَرُ أنها دخلت يومًا على المظفَّرِ بن أبي عامر، وبين يديهِ ولدٌ من أولادِه، فأنشدت:
أراكَ اللــــهُ فــــــيه مـــا تُرِيدُ ولا بَرِحَت مــعالـــيه تـــــــزيدُ
فقد دلَّت مَخَايِـــــــلُهُ عـــــلى تأمّله، وطالـــعه الســـــــعيدُ
تشوّقــــت الجـــيادُ له وهـزل حسام هوى، وأشرقت البنودُ
فسوف تراهُ بَــــدرًا في سَماءٍ من العليا كــــواكبُهُ الجـــــنودُ
وكيف يخيب شِــــبلٌ قد نَمَتْهُ إلى الـعليا ضراغمــــــةٌ أُسودُ
فأنتم آلَ عامِـــرَ خـــــــــيرُ آلٍ زكا الأبـــــناءُ منكمْ والجـــدودُ
وَلِيدُكمُ لــــدى رأي كـــشيخ وشيخكُم لدى حَرْبٍ وَلِيْـــــدُ [4]
الجديرُ بالذِّكرِ أيضًا أنّها كانت من أثرياءِ قرطبة، وسخّرت جزءً من مالِها لإعانةِ المحتاجين، كما كانت تقضي حوائجَ الناسِ نظرًا لقُربِها من ذوي الشأن، غير أنها لم تتزوجْ رغمَ مكانتِها ورغمَ خطبةِ الكثيرين لها، ومما يُحكَى أنه قد خطبَها شاعرٌ فلم ترَهُ كُفءً لها؛ ولمّا ألحَّ في رغبتِه بالزواجِ منها كتبَتْ إليه تقول:
أنــا لبــوةٌ لكنـنـي لا أرتضــي ****
نفسي مناخًا طولَ دهري من أحدِولو أنني أختـــارُ ذلك لم أُجـِــب**** كلبًا وكم غَـلَّقْتُ سمعِي عن أسدِ[5]
ولعلَّ عزّتها وكبرياءَ نفسِها ما جعلاها تتوفّى دونَ أن تتزوج، وقد قالَ عنها ابنُ حيان في هذا الصدد: “ماتت عذراءَ لم تُنكَحْ قط، سنة أربعمئة للهجرة “
تركت عائشة عددًا من الكتبِ والمؤلفاتِ كما زخرَت المصادرُ بشعرِها الارتجاليِّ الرصين. وقد شهدَ في غزارةِ علمِها الكثيرون؛ منهم صاحب المغرب الذي قال عنها: “إنها من عجائبِ زمانِها وغرائبِ أوانِها وأبو عبدُ اللهِ الطبيبُ عمُّها ولو قيل: إنها أشعَرُ منه لجاز… “
مريمُ بنتُ يعقوب الأنصاري
هي مريمُ بنتُ أبي يعقوب الأنصاريّ الفُصوليّ الشلبيّ الحاجَّة، و كما تدُلُّ كنيتُها فأصلُها من مدينة شِلْب (Silves) في جنوبِ البرتغال تابعةً مقاطعَةَ الغرب، لكنّها أقامت واشتُهِرَت في مدينةِ إشبيلية بالأندلسِ بعد الأربعمئة.
عُرِفَت مريمُ بكونِها امرأةٌ ذات ثقافةٍ عالية، درسَتْ الشعرَ والأدبَ والبلاغة، ممّا مكّنَها من احتلالِ منزلةٍ مرموقةٍ عند عِليَةِ القومِ في البلد، كما أجمعَت المصادرُ على أنّها كانت تطوفُ بيوتَ إشبيليّة لِتُعَلِّمَ النساءَ الصرفَ والنحوَ والأدب، وكانت تغدو على بناتِ ساداتِ المدينةِ أيضًا تعلمهُنَّ الشعر، و ربّما تخرَّجَ من مدرستِها طائفةٌ من النساءِ الشهيراتِ في الأندلس.
ومما يُروَى عنها أنّها كانت تمدحُ ابنَ المهنَّد[6] و يساجلُها شِعرًا، ويبرزُ للقارئِ من خلالِ هذه المساجلات حجمُ الاحترامِ والإجلالِ الكبيرين اللذان كان يبديهما لها؛ حيث يشبّهُها بمريمَ العذراءِ في رَوعها، وبالخنساءِ في شِعرِها.
يقولُ عنها الحميديُّ (٤٢٠-٤٨٨هـ) في كتابِه جذوة المقتبس:”…وأُخبِرَني أنّ ابنَ المهنَّدِ بعثَ إليها بدنانير، وكتبَ إليها:
مالي بشُكرِ الذي أوليْتِ من قِبَلِي *** لو أنني حُزْتُ نُطْقَ الإنسِ والخَبَلِ
يا فَرْدَةَ الظَّرْفِ في هذا الزّمانِ ويا *** وحيدةَ العصْرِ في الإخلاصِ والعملِ
أشْبَهْتِ مريماً العذراءَ في وَرَعٍ *** وفُقْتِ خنساءَ في الأشعارِ والمُثَلِ
وردّت عليهِ مريمُ بقصيدةٍ تمدَحُ فيها الأميرَ الذي بعثَ إليها من مالِهِ وخلعَ عليها من أدبِه قائلة:
مَنْ ذا يجاريكَ في قولٍ وفي عملِ *** وقَدْ بَدَرْتَ إلى فضْلٍ ولم تُسَلِ
ما لي بشكرِ الذي نَظَّمْتَ في عُنُقي *** منَ اللآلي وما أوْلَيْتَ من قِبَلِي
حَلَّيتني بِحُلًى أصبحتُ زاهيةً *** بِها على كلِّ أُنثًى مِنْ حُلىً عُطُلِ
لله أخلاقُكَ الغُرُّ التي سُقِيَتْ *** ماء الفراتِ فَرَقَّتْ رقَّةَ الغَزَلِ
أشبهْتَ في الشعر مَنْ غارت بدائعُهُ *** وأنْجَدَتْ وغَدَتْ من أحْسن المُثلِ
من كان والدُهُ العَضْبَ المهنَّدَ لم *** يَلِدْ من النَّسلِ غير البيضِ والأسَلِ
وذكرَ الحميديُّ شعرًا لها حين كبرَتْ و عَمَّرَت، وقال: أنشدَني لها أصبغُ بن السيد الإشبيليّ:[7]
وما تَرْتَجي مِنْ بِنْتِ سبعين حِجَّةً *** وسبع كنسْجِ العَنْكبوتِ المهلْهل
تدِبُّ دبيبَ الطِّفْل تَسْعى إلى العصا *** وتمشي بِها مَشْيَ الأسير المُكَبَّلِ
تجدرُ الإشارةُ إلى أنّ الأبياتِ الثمانيةَ السالفةَ هي كلُّ ما وصلَنا من شِعرِها، رَغْمَ أنّها اعتُبِرَت أستاذةً مخضرمةً من أساتذةِ الشعرِ في وقتِها. و إلى جانبِ قوّتِها العلميّة، اشتُهِرَتْ مريمُ بنتُ يعقوب كذلك بقوّتِها الأخلاقيّة والتزامِها بالصَونِ والعفافِ والحِشمَة.
وكما رَوَت عن نفسِها في الأبياتِ السابقة؛ فقد عاشت إلى أن بلغَت السبعين، وتُوفِّيَتْ -رحمَها اللهُ- بعد ٤٠٠ه/١٠١٠م. [8]
يزخَرُ تاريخ الأندلس بأسماءِ نساءٍ وضَعْن بصماتِهنَّ فيه، وما عائشةُ بنتُ أحمد القُرطُبيّة و مريمُ بنتُ يعقوب الأنصاريّ سوى قطرَتين في سجلِّ العالِماتِ الأندلسيّات… كونوا معنا في الحلقةِ القادمةِ مع شخصياتٍ نسائيّةٍ أُخرى في مجالٍ بعيدٍ كلّ البُعدِ عن مجاليِّ الأدبِ و الشِعر..
نرشِّحُ لك:
محمد الأمین باشا خواطر تاريخية
المرأة و نهضة الأندلس
المصادر
[1] انظر مقال "المرأة و النهضة الأندلسية"
[2] كتاب الصلة لابن بشكوال ص ٥٣١
[3] المصدر السابق
[4] نزهة الجلساء، في أشعار النساء للإمام جلال الدين السيوطي، ص61
[5] المصدر السابق ص 62
[6] ورد في "جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس" أنّ: ابن المهند شاعرٌ مشهورٌ كان بعد الأربعِمائة.
[7] كتاب الصلة لابن باشكوال ص٥٣٣
[8] الحميديّ، جذوة المقتبس في تاريخ الأندلس