قطار الأموات

تقف وسط الجَلَبة، وحدك، تُشاهد بعيون رطِبة، نِزاع الناس على البقاء، وتقاوم بكل عزم جوعك الوحشي، لا تُريد أن تصير مِثلهم، لا تُريد أن تكون جُزءًا من وجود تزدريه، لكنك في الآن ذاته، ما زلت تُريد أن تحيا. تلفحك رائحة الدُخان، يتسلل الرماد إلى ثنايا آنفك، تقف على رصيف الموت تتمنى لو كُنت هنا مُبكرًا.. لو كان جلدك البُني تدرج بضع ألوانٍ أخرى باتجاه السواد.

الأشلاء مُتناثرةٌ في كل مكان، وعربة القطار المُحترقة تتوسط المشهد، عاجزةً، متفحمةً، كحلمٍ في وطنٍ ضائع. الشمس تعتلي السماء، وتبث فيها شيئًا من ريح الجحيم، تنزف عرقًا ويضنيك ذلك، يرفض العرق أن يتبخّر عن جسدك، تمامًا كما ترفض ذنوبك أن تهجرك، مهما بلغت وطأة الفضيلة في داخلك.

تومئ بإتجاه قدميك، البلاط السُداسي ذاته، إلا أنه مُلطخ بالأسود، وكأن فنانًا ذا خيالٍ مشوّهٍ قد أضفى ذوقه على الأرضية، ترد بصرك أمامك، لتجد الناس يتنازعون على الجثث، المشهد المعهود، لم يتغير شيءٌ في الناس، بأعينهم المُستعرة، وأرديتهم البالية والتي تتكون من بنطالٍ من الصوف بلا ملابس علوية، وأضلعهم المفصّدة البارزة إلى الأمام، ضلوعهم ليست ملتئمة، بارزةٌ مُدببة، مُشرعةٌ كأنها الكتاب، تكشف عن قلوبٌ يحوم حولها الذباب من كل جانب.

ترمق قلب المرأة هناك، قلبٌ قد أكل فيه العفنُ حتى سنّ حوافه، وهي تهرع باتجاه إحدى الجثث لتخطفها، أضلعها رفيعةٌ قد تلونت نصالها بالأحمر، ونهودها تتأرجح كلٌ في جهة، وكأنهما عدوين لم يُقدّر لهما هُدنة، ترمق بعينيها الجثة في استهانة، ثم تبصق، وتمد يديها النحيلتين لتمسك بالجثة من أقدامها، وتسحبها على عجل.

تومئ باتجاه البلاط مرةً أخرى، فيصطدم بصرك بأضلعك، تتحسس رؤوس السيوف الناتئة من صدرك، يتخبط بينها الذباب وكأنه قد سئم عفنه، تفكّر: هل يُدرك الناس إلى أي مدى قد نخر العفن فيهم؟ أم أنهم لا يجدون في الأمر ما يستدعي التقزز؟ الجميع ها هنا، يسكن قلبه الذباب، وتقتات بطونهم على الأموات، حتى أنا، فلماذا أقلق بحيال الأمر؟ وإذا كان طبيعيًا، هل يصح أن أشمئز من طبيعتي؟

إعلان

تهتاج بطنك، تداعبها رائحة الموت فتثور مُطالبةً بحقها في الغذاء، لقد علّموك منذ الصغر أن تقتات على الضعفاء، ولمّا كُنت أضعف الخلق وأحقرهم، فلم تجد مؤنًا سوى الأموات. لكنك الآن لا تريد أن تأكل أحدًا، هل ينبغي دومًا أن تأكل أحدًا لتسد جوعك؟ وإذا كان الأمر هكذا، فلمَ يظل ذلك الخواء في أحشائك مُستفحلًا مهما مزقت بأنيابك من لحوم؟ يساورك يقينٌ بأن أنيابك لم تُخلق للبشر أصلًا.

يتعالى صوت احتجاجات بطنك، ودون أن تُدرك، تستحوذ عليك رغبةٌ عارمةٌ في تمزيق أنسجة أحدهم، يجب أن تفعل هذا لتعيش، تُردد: أنت لم تُخطئ، أنت فقط تُريد أن تعيش، لقد وُلدت هكذا فلتتعايش مع الأمر. تتقدم بفتورٌ باتجاه جثة إحداهن، تشتد حرارة الشمس، ويتضاءل رصيف المحطة وكأنه الصراط، ويتناهى إلى سمعك فحيح أحدهم، يقف بقدميه فوق رأس الجثة التي قد عزمت على خطفها، تصعد ببصرك لتتفحصه، بنطاله الجينز المشقوق عند الفخذ، وبطنه المكسوّة بجلدٍ أسود متغضن، والنصال البارزة من صدره تبدو سميكةً كالهرّاوات، وقلبه ينقبض وينبسط في سرعةٍ خاطفة فيسبب إعياءً للذباب حوله، تتلاقى أعينكما، فيكشف فمه الواسع عن ابتسامة عريضة تُزيل الحجاب عن أنيابٍ مصقولة، يبصق في الأرض، ثُم يدوس بقدمه على رأس الجثة أكثر.

تُفكّر: ليس خصمًا قويًا، سترديه بسهولة، لكنك تزدريه وتتعاطف معه في آن، وذلك التعاطف هو لعنتك، قد يطعنك أحدهم بسكينٍ وتعزف عن مقاومته، فقط لأنك تتعاطف معه. تقول:

“اسمع، لا أريد أن أكون الموت، يكفيني عذابًا أن آكل ضحاياه.”

لا يستجيب، ينحني على الجثة ويسحبها من رأسها، تندفع نحوه بنِصَال صدرك لتغرز في رأسه المحني وينتهي الأمر.

تحرر صدرك من رأسه فيسقط بجوار الجثة الأخرى، وينفجر سرب الذباب من صدره، تفكّر: غريبٌ أن الموت وحده قادرٌ على أن يُطهّرنا، غريبٌ أن القلب لا يتخلص من ذبابه إلا حينما يتوقف عن النبض.

ترمي الجُثة على كتفك وتتوجه إلى بيتك. تلقيها على السرير بغير مبالاة، وتقف أمام المرآة المُلطخة لتتفحص صورتك، لقد شِخت ياعزيزي، كم حسبت أن ذلك اليوم لن يأتِ، قد تسلل العمر إلى جسدك فنهب أثاثاته دون أن تدري، وأنت.. أين كُنت؟ كُنت تغط في وهمٍ عميق.

بالأمس فقط، كان الجميع يستكين لسُبات عميق، الشوارع خاوية، والميادين تشكو الوحدة، كان الجميع منزويًا في عزلته الهادمة، لمَ ينبغي على كل البيوت أن تكون بمثل هذه الوحشة والبلادة؟ تتفقد أرجاء منزلك، هو نسخةً مثيرةٌ للشفقة من منازلهم جميعًا: المكتب الذي تنكبّ عليه نصف يومك تقريبًا لتُنجز أعمالًا لا تعلم لها من طائل.. ثم ترسلها لأحد الأقوياء ليبعث لك في مظروف صغيرٍ بقطعةٍ من لحمٍ آدمي، السرير القديم المكسوّ بملائةٍ قُطنيةٍ مزركشة.. والذي تسلم نفسك لمقصلة الأرق على منصته، أحيانًا ترسل بصرك إلى العالم الخارجي من خلال النافذة الصغيرة في غرفتك.

لم يكُن مسموحٌ للضعفاء أن يُطلّوا على الحياة سوى من خلال النوافذ الضيقة. قد يأتيك أحد الأصدقاء فتستقبله في غرفة الضيوف، كُنتم تتحدثون دون حروف، كان حديثكم ضجيجًا لا يُذيب الوحدة بل يحدّ من صلابتها. أحيانًا تُقدد اللحم في المطبخ الصغير، وقد يباغتك الهياج فتستمني في الحمام الضيق.

الأقوياء، لمَ عليهم أن يكونوا بهذه القسوة؟ أم أن القوة تستلزم القسوة بطبيعة الحال؟ رُبما كان الأمر كذلك، فقد شهدت منذ دقائق كيف انسلخت الصعاليك وحوشًا إذ رأوا من هم أضعف منهم. أليس في خضوعك وإذعانك مشاركةٌ للأقوياء في ضغيانهم؟ أنت تقتات على لحوم بشرٍ، ألن يُحتم ذلك أن تكون قوتًا للبشر يومًا ما؟ تنفض تلك الأفكار عن رأسك، ثم تتوجه صوب الجثة المسجاة على السرير.

تنظر إلى عينيها المُسبلتين، وأنفها الدقيق، وشفتيها المكتنزتين تعلوهما شامةٌ سوداء صغيرة، تحس بقلبك يتحرّك من موضعه، تُفكر بسخرية: جديرٌ بقلبٍ ميتٍ ألا يتحرك سوى لأموات. تحرك أناملك على وجنتيها الناعمتين، وتنزل على بشرتها البيضاء حتى منبت رقبتها، فتحس في أناملك بنبضٍ خفيف، ينتابك ذُعر، فتتوجه ببصرك باتجاه قلبها، لا يحوم حوله أي ذباب، كيف لقلبٍ أن ينبض دون أن يتعفن؟! تهز رأسك وتبصق على الأرض.

لمّا كُنت صغيرًا، أول ما علموك هو أن تبصق.. على العالم.. وعلى الناس.. على الأماكن وعلى الزمان، وحين كبرت، علمت أنك إن كان ينبغي عليك أن تبصق، فنفسك أولى بالازدراء من كُل ذلك.

تنظر إلى عينيها المغمضتين وقد طفقا يتفتحان، كوردةٍ فردوسية، تثب من على السرير وترمق قلبها مرةً أخرى، ولا ذبابةً واحدة! تهمس هي بصوتٍ خافت: أين أنا؟

يداهمك الارتباك، تتراجع خطواتٍ للوراء، تثبت ناظريك على قلبها النابض، متحاشيًا النظر إلى سيوفها المُشرعّة، تقول:

-أنتِ.. حيّة.. ولكن.. كيف؟

لو كان قلبها نابضًا ولكن يكتنفه الذباب، لكنت انصعت إلى غريزتك وطهّرتها، ثم شرعت في أكلها بتلذذ، لكنها طاهرة، وذلك ما يربكك. تتفوه بألفاظ واهنة كالدخان:

-أتذكر أنني كُنت أمشي على رصيف المحطة.. ثمّ.. ثمّ كان هناك ذلك الانفجار.. رأيتُ الناس تحترق.. كان هنالك ذلك الرجل.. يركض متوهجًا كالشمس.. ثمّ.. لا أذكر..

ربما لم يمسسها اللهب، ربما انهارت من رهبة المشهد.. تظل ترنو إلى قلبها بثبات، تقول:

-ولكن.. قلبك..

ترمق قلبك مباغتةً، فتحس وكأنك عارٍ تمامًا، وكأنك لا تريد شيئًا سوى الاختباء، أو الموت. مررت أصابعها بين خصلات شعرها وابتسمت، قالت:

-إذن، كالمعتاد خرج الجميع ليأكل بعضه؟ يظل الجميع هُنا ساكنًا مُنهمكًا في عزلته، ولكن حين تدق الطامة طبولها، يخرج الجميع ليأكل بعضه، هل تظن أنك تحيا هكذا؟ هل تظن أن لحمي الأبيض سيكفل لأحشائك الخاوية يومًا آخر على هذه الأرض؟ أرضك وهمٌ ياعزيزي.. أرضك وهم..

تحاول ألّا تهوي على الأرض.. تتراجع بضع خطوات أخرى إلى الوراء ورأسك ينضح بالأسئلة.. لا تحوّل نظرك عن قلبها.. تسأل بصوتٍ خافتٍ: كيف؟!

تنهض هي من على السرير، وتتوجه نحوك بخطوات حثيثة، تتراجع أنت خطوات أخرى حتى تُلصق ظهرك للجدار، تتحسس وجنتيك بأناملها الحريرية، تنظر إلى النصال في صدرك وصدرها، تهمس بصوتٍ يتملكه الذعر: لا تقتربي أكثر.. صدري سيقتلك!

تمسك بذراعيك، وترنو إليك بنظرةٍ ملائكية، تضمك إليها بشدة، فتحس بأضلعك وهي تتخلل أضلعها، فتلتئم بها، تكتملُ إذ تضمها إليك، وكأن أضلعكما كانت أحجيةً لا تكتمل بدون بعضها. تهمس في أذنك:

-أنت لم تفهم بعد، نحن لا نكتمل وحدنا، ولا نتطهّر إلّا أن نكون جسدًا واحدًا، تلك الضلوع نحن لم نرى فيها يومًا شيئًا سوى نصالها، لأنها وحيدةٌ، مُنعزلةٌ، عدائية.. لكنها في الآن ذاته، على أتمّ الأهبة أن ترقى بنا إلى الكمال.

تضمّك بذراعيها أكثر، تُردف:

-هل تظن أن ركاب القطار كانوا أحياءً وماتوا؟ أن ينبض قلبك، لا يعني بالضرورة أنك لازلت على قيد الحياة.

تهبك ضمةً أخيرة، ثم تتحرر منك، وتراقبها تتهادى باتجاه السرير، وترتمي عليه في إعياء، وما تلبث أن تشاهد الذباب المتخبط في صدرك يفرّ هاربًا أمام قسوّرة الفضيلة.. أمام سمو التوّحد.

تندفع أنت باتجاه الباب، تخرج إلى الشارع، تهرول كالمجاذيب، تهتف: “وجدتها! وجدتها! التوّحد! الكمال!” ولكن البشر يكونوا قد عادوا إلى سباتهم العميق.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: عبدالرحمن خليفة

تدقيق لغوي: رنين السعدي

الصورة: محمد جمال (غين)

اترك تعليقا