ثلاثُ ثغراتٍ في جدار
في نهاية أحد حواراتي كنت أخاطب “حاتم الأطير” وسمحت له بأن يجلس على كرسي المحاور، وجلست أنا على كرسي الضيف أو المجيب، فجاء سؤاله لي على النحو التالي: من تظن أنه سيقرأ هذا الحوار؟
قلت له: سيقرأه من يهتم بتجربتك الشعرية ومن يحترم ما أقدمه.
قال لي: التاريخ يا صديقي، سيقرأه التاريخ!
فقلت له مداعباً حينها: ما زالت مغرمًا بالأبدية يا صديقي، التاريخ لن يذكر اسمي أبدًا، وإن ذكره سيكون مزورًا.
وقالها لي أيضًا من قبل حينما كنا نقف في محل رزقه ومصدر عيشه، ولم أكن أتخيل حينها أن هذا التاجر الذي يبيع الملابس سيحدثني عن التاريخ!
لا أدري لماذا تشاغلني هذه النهاية دائمًا؟ لماذا يقع سؤال التاريخ على عاتقي؟! هل سيذكر التاريخ هذه الأسماء التي كانت تسير معنا وبجوارنا كتفًا بكتف ويدًا بيد؟
…..
وفي إحدى المرات كنا نسير معًا أنا ومحمد خالد الشرقاوي وصديقنا محمد المتيم، كنا نسير معًا في الساعة الثانية بعد منتصف الليل في شوارع القاهرة رمادية اللون، تحديدًا في شارع “شامبليون”، وأثناء اتجاهنا إلى “رمسيس” مرورًا بمحطة “الإسعاف” مررنا معًا على نقابة الصحفيين وشاهدنا صورة شهيد الصحافة والثورة معلقةً على مبنى نقابة الصحفيين “الحسيني أبو ضيف” ومكتوب على المبنى “خط أحمر”، حينها كنت أتساءل في ذهني: من حوّل الخط الأحمر إلى دمٍ أحمر؟ ومن قال إننا بحاجة إلى كل هذه الخطوط الحمراء وكأننا في معركة أو حرب؟ نحن لسنا بحاجة إلا إلى الحوار والتفاهم والعودة إلى طبيعتنا الخضراء، ما نحتاجه ليس خطوطًا حمراء بل خطوطٍ خضراء.
كل هذا دار في ذهني في ثوانٍ ولم أكن أدري أن المتيم يفكر فيما أفكر فيه، ليخرج عن صمته وعن حسن استماعه إلينا وإلى قصائدنا ليقول قصيدته التي أهداها إلى صديقه “مؤمن عصام” الغزال ذو القميص الأحمر، بعد أن ألقى قصيدة “وليد خيري” عن “الحسيني أبو ضيف”، قصيدتان باحتضان أمة وباتساع صرخة.
تساءلت بعد أن غادرتهم وأنا في طريقي إلى “العاشر من رمضان” حيث كان في استقبالي صديقي المترجم والقاص “أحمد أبو الخير”، تساءلت: من سيًخلد محمد المتيم حيًا وميتًا؟ هل بإمكان صورة المتيم أن توضع في يومٍ ما بجوار صورة الحسيني؟ هل سيأتي شاعرٌ شاب بعد عدة سنوات ليخلد المتيم في قصيدة كما حاول المتيم أن يفعل مع مؤمن عصام وكما فعل خيري مع الحسيني؟ هل كان المتيم حينها يعطينا دراسًا نقديًا عن تعميق العلاقة بين حرية الشعر وشعر الحرية؟ هل محاولات البناء الثقافي في هذا الجيل -الذي تدهورت فيه الثقافة- لا تختلف عن الحفر في الماء أو النحت في الهواء؟ كلها تساؤلات تعود بنا مرةً أخرى إلى التاريخ الشاهد الوحيد والمنصف الأكبر للتجارب الحقيقية.
…..
وفي حين كنت أبحث عن نماذج من قصائد كتبت باللغة العربية الفصيحة لشعراء شباب لم تتجاوز أعمارهم الـ (35) عام، كان يبحث ويفتش معي “وسام دراز” لنضع أيدينا على نماذج حقيقة تستحق النشر والدراسة وتسليط الضوء، لم يحمل هذا الفصيح في جعبته أي ضغينه ولا مكر، ولم ينحَز لذائقته الشعرية الخاصة، بل قدّم إليّ كل ما يليق بالأصالة والشاعرية في آنٍ معًا.
وكنت أعرف حينها أنه أحد هذه النماذج التي تستحق النشر، فنشرت له في البداية قبل أن ألجأ إليه لنكمل هذه السلسلة التي بدأت، نشرت له قبل أن ألجأ إليه لأرفع عنه الحرج ومشقة التساؤل: هل أستحق أن أوضع في هذه السلسلة؟ هل يحترم ذائقتي ويلجأ إليها في اختياراته دون أن تكون هذه الذائقة جديرة بالاختيار؟ أجبته دون أن يسأل، لكنني كنت أتساءل وأتمنى أن أجد المجيب: حينما نصعد عتبات التاريخ وتدور عقارب الزمن الثقيلة والسريعة في آنٍ معًا إلى الأمام هل سيأتي من يبحث عن وسام دراز نفسه؟ عن تجربته؟ عن بصيرته؟
…..
حينما سافر وسام دراز إلى عمان ممثلاً عن مصر للمرة الأولى، وبعدها سافر المتيم ممثلنا في السودان، ومن قبلها حاتم الأطير إلى الإمارات بدعوة من الشارقة، للوهلة الأولى فرحت جدًا؛ لأن هذا الجيل لم يعد يُذكر فقط على الهامش بل بدأت تمتد جذوره إلى المتن. وللوهلة الثانية ابتسمت للصدفة التي وُفقت في جعل البلد المضيف يختار من شعرائنا من يشبهه، فلغة وسام لا تبتعد في جودتها عن اللغة العربية في عمان وطيبة أهل السودان وسمارهم، وطينتهم لا تبتعد عن طيبة قصيدة المتيم وسمارها وطينها، وتطلّع الإمارات إلى الثقافة العربية وإلى المستقبل لا يبتعد كثيرًا عن تطلع حاتم إلى الأبدية وإلى التاريخ. وللوهلة الثالثة وقفت متعجبًا ومتسائلاً: أليس من الأولى أن تفتح مصر بابها إليهم على مصراعيه في عصرٍ تفتح فيه الدول العربية ذراعها وصدرها لتحتفل بهم؟ لمَ لا يوجد ناقد واحد في مصر فتح لهم كتابًا أو مجلةً أو مقالاً؟ لما لا يوجد ناشر يؤمن بهم وبما يطرحونه ويقدرهم ويفتح لهم طبعاته وأوراقه؟ لماذا نتوقف عند هذا الجيل سياسيًا فقط؟ ومن أجدر من هذا الجيل لنتوقف عنده إبداعيًا وثقافيًا أيضًا؟ من أجدر من هذا الجيل بالكتابة عنه وإليه وهو الناقل ثورته من “ميدان التحرير” إلى “ميدان الكتابة”؟
…..
ورغم أن الأبدية والتاريخ ربما لا يشغلان المتيم ووسام كما شغلا حاتم الأطير، لكنني أخاف على ثلاثتهم لا من التاريخ بل من التجاهل وغلق الأبواب وخلق الأزمات والصراعات وغياب “عدالة الوجود”، هكذا أسميها؛ حيث يظهر على السطح ما هو غير جدير بركوب البحر، لكن على القارئ يومًا ما أن يكتشف أنه خفيف التجربة، هذا إن كان يملك تجربةً أصلاً، وربما بفعل هذه الخفة يطفو على السطح، وعلى القارئ أيضًا يومًا ما أن يؤمن حينها بما أؤمن به الآن من أن التجارب الحقيقية دائمًا في العمق ليس من السهل اكتشافها أو الوصول إليها، لكنك حينما ستصل ستجد البحر الذي لم ترَه، البحر الذي لا يستقر على حال كما الإنسان، فالموهوب الحق كما يقول تشيخوف: “يبقى مختفيًا بين الزحام، بعيدًا أقصى ما يكون عن الدعاية”، ومن قبلها قالها كريلوف: “الآنية الفارغة تصدر صدىً يعلو الآنية الممتلئة”، للأسف هذا مصير من يمتلئ؛ ينخفض صدى صوته.
في الحقيقة أنا خائفٌ على جيلي من السهم الوحيد الذي يمكن أن يصيبنا جميعًا في مقتل؛ سهم التهميش والرفض، وأخاف من بعض التجارب في هذا الجيل لأنها لم تجد بعد وسادتها وغرفتها المغلقة التي يجب أن تستريح فيها على سجيتها، لا على سجية عصرها وقارئها، وأخاف أيضًا على النقد والحوار، أخاف ألا ينبسطا ويمتدّا ويتشعّبا كاللبلاب الأخضر على سقيفةٍ من الود والحب والهدوء، وأخاف على قارئي، أخاف أن أخدعه فلا أضع يدي على التجارب الحقيقية بل أقف ما وراء جلد العلاقات وجدار الصداقات البشرية التي تعلو أحيانًا عند البعض عن التجارب الإبداعية.
في الحقيقة أنا أخاف على نفسي أن أصارع من أجل جيلي ومن أجل هذه الأسماء فأنجرف، وأهمل في تجربتي الخاصة وأذهب مع الريح، أخاف من أن أعيش عمري كله أقدّس نور الشعر وجنة البلاغة ثم أنتهي بظلام النقد وبنار اللغة والمجاز، حتمًا سيأتيني المجاز يومًا وسأبتلعه في شكل رصاصة!
وأقول لنفسي في بعض الأحيان: من أنت؟! من أنت لتحمل رسالة هذا الجيل على كتفك وأنت لم تتجاوز العشرين إلا بقليل؟ كيف تحمل هذه الرسالة وأنت لم تبلغ سن النبوّة بعد؟! لكنني كثيرًا ما أجيب نفسي: “قد لا يكون بوسعي أن أفتح الأبواب، لكنّي سأثقب في كل جدارٍ ثغرة!”.