سيكولوجية الإله اليهودي
-سُئلت إن كنت أعتقد بوجود الله أم لا؟
قلت: الله حقيقة جلية قائمة على أُسس نفسيّة..1
تلتقي صورة الله عند (كارل يونغ) بمحتوي خاص يكمن في اللاشعور ويمثل النموذج البدئي للمطلق، فهو الوحدة الكلية التي تجتمع فيها النقائض الداخلية لتكون الفكرة المثالية عن الكلية الشاملة. وتسعى الحاجة الدينية لتحقيق تلك الفكرة عن طريق العودة إلى الأسطورة الأزلية التي تمارس السلطة الأقوي على الإنسان.
يتضمن مفهوم الله سيكولوجيا تقابل الشعور واللاشعور:
في التوراة ثمة شواهد كثيرة على تناقض صورة “يهوه”، فهي صورة لإله لا يعرف الاعتدال في انفعالاته، ويسلم بأن الغضب والغيرة يأكلانه أكلاً، فقد جمع في نفسه الرحمة إلي الشدة، والقدرة الخلاقة إلي روح التخريب. فكان كل شيء ممكنا، وما كان لصفة من صفاته أن تقف عقبة في وجه الأخرى.
“الطريقة التي تعبر بها الطبيعة الالهية عن نفسها في التوراة تدل علي أن صفاتها الفردية ليست متصلة ببعضها ” ..2
فهو في خِصام دائم مع نفسه، تصدر عنه أعمال متناقضة كخلق الإنسان ثم ندمه على ذلك، وهو بمعرفته الكلية كان يجب أن يعلم بأن الانسان سيصنع الشر. واستنادًا على تلك الرؤية لصورة “الإله ” كوحدة كلية تعصف بها النقائض الداخلية في دينامية هائلة 3..، يقرر (يونغ) بأن الوعي لم يظهر عند “يهوه” إلا في فترة متأخرة، نتيجة لأحداث هامة أثرت في مجري الدراما الإلهية.
إن أقل ما يتوقعه الانسان الفاني من إلهه، أن يكون أعلي منه خيرًا وأسمى، ذلك الذي أقام علاقة شخصية بينه وبين الانسان وعقد مع شعبه المختار عهدا وميثاق. يخدعه الشيطان في مراهنة ليعرض أيوب لإبادة كلية.
الخير نقبل من الله والشر لا نقبل؟
يضع سفر أيوب هذا الانسان المؤمن فوق منصة براقة الإضاءة لكي يدلي بشكاته أمام سمع العالم وبصره، فيهوه الذي هيجه الشيطان على أيوب ليسلب قطعانه، ويقتل عبيده، ويأتي بإعصار يودي بأبنائه وبناته، و ينزل به داء يكاد يهلكه. وذلك كله لكي يمضي الشيطان في رهانه إلى نهاية لعن أيوب، اليوم الذي ولد فيه والطرق التي أتت به إلى ذلك المشهد، لكنه أصر علي أن يزكي طريقه أمام الله.
فعلى الرغم من المأساة التي يمر بها رأى بوضوحٍ تام أن لله تناقضاته، وهي تناقضات مطلقة إلى الحد الذي يجعله علي يقين أنه سيعينه، وبنفس المقدار من اليقين بالشر الموجود لدى يهوه، فإنه علي يقين بوجود الخير.. 4
يري (يونغ) بأن أيوب لم يتورط في خصام شخصي مع الله لأنه لم يعترض علي البلاء، بل استعان بوليه الحي وبالجانب الخير من “يهوه”. فظل يبرر موقفه ويستجدي حكمته وهو عالم بأن “يهوه” لن يبرئه. ويعد ذلك تفوق أخلاقي حققه أيوب علي يهوه بتحمله للبلاء، بل وتفوق عقلي لأنه علم كيف يخاطبه دون أن اعتراض على مشيئته.
الإنسان أبر من الله أم الرجل أطهر من خالقه؟
تتضح لا أخلاقية “يهوه” في إطار افتقاده للحكمة التي تؤهله لمعرفة ذاته، ففي غياب الوعي بالذات يطغي الحياد الأخلاقي، ولم تكن تلك المرة الأولى التي يظهر فيها التناقض الداخلي ليهوه، فقد نقض العهد الذي اعطاه لداود من قبل. ولكي يظل في مزاج حسن كان يدعو شعبه ليمدحوه ويستعطفوه، فهو بحاجة دائمة ليبقي علي صلة بالإنسان لأنه يفتقد الصلة بذاته، وكلما كان اعتماده على الانسان يزداد ليشعر بوجوده، كان يزداد افتقاره للحكمة التي يتأمل بها ذاته.
“إن الشخصية التي تتكشف عن مواصفات كهذه، يمكنها إقناع نفسها أنها موجودة فقط عبر ارتباطها بهدف ما، هذه التبعية للهدف توجد عندما يكون الشخص مفتقرا للتأمل الداخلي”.. 5
لهذا يعتبر (يونغ) أن سفر أيوب هو العلامة المميزة علي طريق تطور الصورة الإلهية، فالفشل الذي حققه عند محاولة إفساد أيوب جعله يتساءل: إذا كان الإنسان على معرفة به، أفلم يكن من الأولى أن يعرف ذاته!
فلئن كنت إبليس آدم فليت شعري من كان إبليسي؟
تكمن الغرائز البدائية للإنسان في اللاشعور(الهو) بالمصطلح الفرويدي، بذلك تتصف طبيعة اللاشعور بالحيوانية. وبالعودة إلى الحضارة المصرية القديمة نرى الرمز الحيواني الذي تعتمد عليه الإلهة القديمة، أبناء أوزوريس الأربعة ( يمستي: وجه إنسان، حابي: وجه قرد، قبح سنو: بوجه صقر، دوا موت: وجه ابن آوى )
كذلك اللاشعور عند “يهوه” يتصف بطبيعة حيوانية تتمثل في الشيطان! ذلك الذي جاء من الجولان في الأرض والتمشي فيها، مثلما هي أعين الرب الجائلة في الأرض كلها.. 6
أما أنا فقد علمت أن وليي حي والآخر على الأرض يقوم.مرة أخرى بالعودة إلى الحضارة المصرية تتجلي صيرورة الإله فرعونًا في رغبة الله أن يصير إنسان، وفي محاكاة لا تنفصل عن الأسطورة المصرية القديمة يموت الإله في ريعان الصبا. يرفع أيوب شكواه إلى إبن الإنسان السابق في وجوده، والذي سيقوم علي الأرض. ليجسد دور الدفاع بالجانب الخير من الرب، مثلما جسد الشيطان دور الاتهام بالجانب الشرير منه. ويمتد إطار الأسطورة المصرية ليشمل محور الصراع بين الأخوة، و (أوزوريس) الذي قتل علي يد (ست)، سيقتل من جديد بإسم (هابيل) على يد أخيه.
” فما هو موجود في حالة الملء التي تشتمل علي جميع السياقات التاريخية، هو سياق أزلي، يتبدي في الزمان تواترًا، و يتكرر مرات عديدة بصورة لا انتظام فيها، كتطبيق للنموذج الأصلي. كان “ليهوه” ولدان، أولهما صالح والآخر فاسد. ولئن كان الأب الأصلي -آدم- نسخة عن الخالق، كان لابد لقابيل أن يكون نسخة عن الشيطان، وهابيل -الذي كان أثيرا عند الله-لابد وأن يكون صنوه في السموات هو المسيح” 7 …
المصادر : 1- الإله اليهودي : بحث في العلاقة بين الدين وعلم النفس . كارل يونغ 2- المرجع السابق 3- بين يهوه وأيوب . كارل يونغ 4- المرجع السابق 5- الإله اليهودي : بحث في العلاقة بين الدين وعلم النفس . كارل يونغ 6- ( زكريا 4 : 10 ) 7- الإله اليهودي : بحث في العلاقة بين الدين وعلم النفس . كارل يونغ