الثقافة الإسلامية في “مسجد على القمر”
“مسجد على القمر” ديوان يمثل قصيدة ممتدة بطول هذا العمل تمتزج فيها الثقافة الإسلامية وقيمها باللغة. وتظهِر هذه التجربة تفوّق صاحبها من حيث قدرته على استخدام لغته وأدواته الفنية الشعرية، وتظهر أيضًا توفقه في التخلص من الفائض من اللغة وبراعته في استخدام مرجعياته وقراءاته السابقة.
هذه التجربة حتمت عليه أن يطرح أسئلة وجودية، وأن يعالج قضايا وأسئلةً قد يرى البعض أن هناك من سبقه في معالجتها من قبله. لكنه على الأقل يطرحها بطريقة أخرى أكثر اختلافًا مما سبقه إليها، ولذا لجأ إلى الغار الذي مكث فيه ليخرج لنا أجمل ما كتب وصاغ من لغة الشعر الممتزج بالثقافة والقيم الإسلامية، وكأنّ نفس الشاعر تظللها غمامة الإیمان فتتفجر شاعریته بینابیع القیم الإسلامية العذبة وتكاد كلما هززت قصیدة من قصائده تتساقط علیك رطبًا من معاني الصلاح والهدایة، وبالمبادئ الإسلامیة النضرة التي منحت شعره جمالًا وقیمة حقیقیة.
الزهد
فيقول الشاعر الزاهد “عَنِ الْخُبْزِ حَدَّثَنِي الْغَارُ قَالْ: “بِصَحْنٍ مِنَ الْلَحْمِ تَحْيَا\بِبَعْضٍ مِنَ التَّمْرِ تَحْيَا\وَفِي الْحَالَتَيْنِ السَّمَاوَاتُ سَبْعٌ \وَلِلْحُبِّ بَابٌ وَلِلنَّهْرِ نَبْعٌ \وَفِي الْحَالَتَيْنِ الْبَصِيرَةُ شَرْطُ السَّلَامَةِ \سِيَّانَ نَاوَلَكَ الْحَظُّ يَاقُوتَةً أَوْ حَصَاةً\ فَلَا الْكُوخُ يَحْرِمُ قَلْبَكَ مِنْ قَفْزَةٍ لِلْأَعَالِي \وَلَا الْقَصْرُ يَحْجِبُ عَنْكَ الْمَدَى وَالْخَيَالْ”.
فالشاعر يعلم أنه لا سبیل إلى خلود الإنسان في هذه الحیاة، فالموت مصیره المحتوم، وأحواله ستظل متغیرة بین الصحة والعلة وبین القوة والضعف. والإنسان الذي یشتهي بطبعه طول الحیاة وامتداد العمر لو تدبر المصیر لعلم أنه یشتهي ما یضیره ویرجو ما یؤذیه. فلو فكر العاقل الحكیم في أمر هذه الدنیا لأدرك ببصیرته حقیقتها، ولعلم أن حلاوتها متصلة بمرارتها، وأن ربحها یقود إلى خسارتها وقتها سيتساوى عنده اللحم والتمر ولا لن يفرق حينها بين كوخ وقصر.
الثناء على ربه
ثم یثني الشاعر على ربه عن طریق شكره وبیان فضله وحمده وتنزیهه، ولكن في نعته ووصفه لم يتمسك فقط بصفاته الحسنى كما يفعل الكثير، لكنه تمسك بالصفات التي يراها هو في ربه؛ ليجعل هذه العلاقة الحميمية الخاصة بينه وبين ربه مختلفةً لا اعتيادية أو مكررة، وكأنه يقول لكل من يحاولون تشويه هذه العلاقة الصافية الصادقة لا تتدخلوا بيني وبين من ألّف قلوب المحبين.
فيقول في مواضع متفرقة من ديوانه: “اللهُ أَجْمَلُ وَالْفَلَاحُ طَرَاوَةٌ\ سَبَّحُوا بِاسْمِ الَّذِي فَرَشَ الصِّرَاطَ حَلَاوَةً\ أَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ مِنَ الْبَدِيهَةِ\ السَّائِلِينَ اللهَ عَفْوًا لَا يَغيِبُ..الْغَاسِلِينَ قُلُوبَهُمْ بِالذِّكْرِ\الْمُسْتَشِيرُ اللهَ فِي أَسْبَابِهِ\ ألَّفَ اللهُ بَيْنَ السَّمَا..وَالْإِمَامِ التُّرَابِيِّ.. سُبْحَانَ مَنْ أَلَّفَا!\ اللهُ عِنْدِي .. فُسْحَةٌ خَلَّاقَةٌ\ يَشْرَبُ مِنْ مِشْكَاةِ اللهْ\ بِاسْمِكَ الْلَهُمَّ أَصْعَدُ\ فَهَرْوَلَ اللهُ الْعَظِيمُ لِقَلْبِهِ!\ سَمِّ اللهَ يَا ابْنَ الْكَوْكَبِ النَّبَوِيِّ”.
فالشاعر یسبح الله تعالى ویرى أنّه أبدع خلق الكون على غیر مثال سابق، فالله أجمل وعظیم أعماله واضحة للعیان لا تخفى على كل ذي عين وعقل، وهو الغاسل قلوب الذاكرين والمنشدين عفوه ورضاه. الله الذي يهرول لقلب من يخطو إليه خطوة. الذي لا يستشير شاعرنا سواه ولا یرجو سوى رحمته، ویطلب معونته لكي يمد له يد العون والرحمة حتى أنه لا يشتكي لسواه، فالله ملازمه وخليله من صغره، ويظهر ذلك في تلك الصورة الطفولية البديعة تلك التي يقول فيها: “يَا رَبُّ نَرْفَزَنِي الْغُرُوبُ..وَغَاظَنِي الصَّلْصَالُ”.
تمجيد الفضيلة ومدحها
ومجّد الشاعر الفضیلة وزيّنها عن طریق فخره بها، وعن طریق مدح تلك الفضائل المحمودة للآخرين كالمتعفف الذي استعصم وكبح جماح شهوته، فغطى المومس التي راودته فحوّلها إلى قدّيسة دون أن يدري “عَلَى مُومِسٍ رَاوَدَتْكَ..فَغَطَّيْتَهَا بِالسَّمَاءِ.. فَنَامَتْ عَلَى لُؤْلُؤِ الرَّبِّ قِدِّيسَةً!”. ومدحه لفضيلة هؤلاء الذين لم تقوَ التجارة على نزع أرواحهم الطاهرة المضيئة، الذين تمسكوا بميزان الله وعدله ورفضوا الغش والخديعة “لَمْ تَقْوَ التِّجَارَةُ أَنْ تَمَصَّ ضِيَاءَهُمْ \هَا آيَةُ الْمِيزَانِ بَيْنَ السُّوقِ”.
حتى أنه في تمسكه بالقيم الإنسانية یستطیع السیطرة على أحاسیسه العاطفیة مهما ازدادت أو التهبت. وهو في حبه عفیف لا یرتكب الفواحش والرذائل وكل ما یحطّ من قدر الإنسان، فهو مهذب ملتزم حدود الأخلاق ویفخر بأن نفسه اختارت من الأخلاق ما فیه رفعة الإنسان وسعادته، فكل إنسان یختار أخلاقه حسب سجیته وهو صاحب سجية إسلامية وثقافة وقيم إسلامية، فحتى في حبه للشيماء التي تمثل عنده الثقافة الإسلامية بكل وضوح لم يتخلَّ عن كتابة الصورة الشعرية التي تحمل قيمها الإسلامية فيقول مثلًا: “مَنْ أَبْصَرَ الشَّيْمَاءَ أَبْصَرَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ..وَاسْتَسْقَى حَمَائِمَهَا”.
وهذه القیم التي یفخر الشاعر بها ویجسدها في نفسه تمثل وجهًا مشرقًا من أوجه الفضیلة، فهو یسیطر على أحاسیسه العاطفیة حتى لا تقوده إلى مهاوي الرذیلة ومساقط الشهوات، ویمیل دومًا إلى المعالي والمكارم ليظلّ عفیف النفس نقي الجوهر ویخلص لله النیة حیث یجد اللطف والتوفیق.
وهكذا كان الشاعر یمجّد الفضائل وخصال الشرف عن طریق تفاخره بالمحامد والمكارم، وأیضًا كان یمجّد الفضیلة بمدح البعض بحیث یبرز فیهم أروع ما یتحلون به من الخصال كما فعل في قصيدة “كَالْمَغْرِبِيَّةِ فِي سَمَا رَمَضَان” مع صديقه إسلام عبد المجيد.
نزعة الحكمة
نزعة الحكمة في الشعر العربي شملت مختلف مناحي الحیاة وجاءت متخللة العدید من الأغراض الشعریة ولكن نزعة الحكمة في شعر حاتم مرتبطة بالدین وتتجه اتجاهًا تربویًا وأخلاقیًا في آن معًا. ففي حكمة الشاعر هذه إشارة إلى الاعتماد على الله في كل ما نحذر ونخاف. فما يفعله الإنسان في حياته سيقابله في آخرته، وهذه قاعدة إسلامية راسخة لا مساس بها، فيقول: “وَكُلٌّ يَرَى الْلَيْلَ لَوْنَ النَّهَارِ الَّذِي عَاشَ فِيهِ”. وعلى الإنسان المجرب الخبیر أن یعتاد على شدائد الأیام كما يعتاد على رخائها ففي هذا اكتمال العقل وميزان الحكمة. والموت ما هو إلا ميلادنا الحقيقي الذي لا بد أن نلتفت إليه قبل أن يسرقنا العمر وينتهي سؤالنا الأبدي “الْمَوْتُ مِيلَادُكَ الْمُسْتَجَابُ.. وَخَاتِمَةٌ لِلسُّؤالْ”. وهكذا تتجه معظم معاني هذه الحكم اتجاهًا إسلامیًا.
شاعرًا مفعمًا بالثقافة الإسلامیة
وهكذا تناول الشاعر العدید من القیم الإسلامیة في شعره لكنه لم یفرد لهذه القيم الإسلامية كل قصائده مستقلة على نحو منهجي واضح كما هو المعتاد. لكنه اختلف عن الكثير في أن قيمه الإسلامية والإنسانية جاءت متخللةً معظم شعره. فالمطّلع على “مسجد على القمر” یجد المعاني الإسلامیّة منتشرةً في القصائد، وذلك یعود إلى القیمة الواقعیة والموضوعیة لقصائد هذا الديوان. فالشاعر في أغلب قصائده یتناول موضوعات ترتبط بحیاته الخاصة أو بالحیاة الاجتماعیة العامة من حوله. ونحن ندرك دور الدین في الحیاة وشدة ارتباط موجهاته بسلوك الأفراد والجماعات. ولأن أثر أي ثقافة ینعكس على شعر الشاعر وأدائه الفني فبإمكاننا القول أن الأطير شاعرًا مفعمًا بالثقافة الإسلامیة.
القيم الإسلامية ممتزجة متداخلة
وهكذا القیم الإسلامیة في شعر الأطير ممتزجة متداخلة فهو یجمع النصح إلى جانب الموعظة والزهد ویقرن ذلك بالترغیب في الفضائل كما ذكرنا. أمّا الحكمة فتكاد تكون قدرًا مشتركًا بین كل القیم الإسلامیة التي یدعو إلیها ویضمنها في شعره، مما یؤكد أن الإسلام یتجه اتجاهًا واحدًا نحو قيم الحق والعدل، لا إلى تلك الاتجاهات المتطرفة التي انحرفت بنا إلى الهاوية. وهذا التداخل بين القيم يؤكد أيضًا على أن النزعة الدینیة التي تتملك الشاعر فتتزاحم المعاني المتنوعة في مخیلته وتتداخل، ولكن ما یمیز الشاعر هنا أن هذا التداخل بین معانیه الإسلامیة المتعددة لا تفقد قصائده وحدتها العضویة ووحدة الشعور النفسي، ومن ثم فإن التسلسل السلس لهذه القیم تلغي الفوارق بینها.
الخلاصة
وخلاصة القول أننا إذا نظرنا إلى المعاني الإسلامیة والقیم الدینیة التي تناولها الأطير لا نجده متزمّتًا متطرفًا یتشدد في نظرته وآرائه الدینیة. وفي المقابل لا نجده متساهلًا مستهترًا أو یقول ما لا یؤمن به. فهو ملتزم بحدود الدین وبكل ما توجبه خصال الكرامة والسماحة. فدعا إلى سبیل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وبلور آراءً ومبادئَ سامیة بدأ بتطبیقها في نفسه وتجسیدها في شخصیته فهو لا یدعو إلى البر وینسى نفسه. وهكذا وجدت هذا الديوان المنارة خارطة لطريق كل من ينادون بتجديد الخطاب الديني، فليتهم يصلون إلى قدر سماحة هذا المسجد “مسجد على القمر”. ووجدت نفسي أكتب عنه وله ولجيلي كله الذي أؤمن بما يقدمه رغم اعترافي بجهلي وضعف رؤيتي وهشاشة صياغتي. لكنها محاولة لرد الجميل لكل جميل مقرون بأنفاسي وبأنفاس كل قارئ للشعر الحقيقي الصادق في زمن يملؤه الزيف.