رعاية الذات.. الفلسفة: خطابٌ أم نمطٌ للعيش؟
يتعلق الأمر عند كل من ميشال فوكو وبيير هادو بإعادة صياغة التفكير الفلسفي ليُصبح منظورًا إليه كأداة لتغيير الذات ونمط العيش. ومع ذلك، فوجهات النظر تختلف، بحسب الأهمية التي يوليها كل واحد منهما للدور المنوط بهذه الفلسفات في عالم اليوم.
ما هي الفلسفة؟ عن طريق طرح هذا السؤال، من خلال مقال معنون ب ” هل الفلسفة مجردُ ترفٍ؟”، يلاحظ بيير هادو أنه غالبًا ما ينظر عامة الناس، من غير المتفلسفين، إلى الفلسفة باعتبارها خطابًا غامضًا وغارقًا في التجريد، يعكف على صياغته قلة من أصحاب الحظوة قصد التعاطي مع مسائل غير مفهومة ومن دون فائدة. الفلسفة من هذا المنظور، هي عبارة عن كلام فارغ وبعيد كل البعد على ما يشكل عادةً لُبَّ اهتمامات الناس: سعادتهم، آلامهم، انشغالاتهم ومخاوفهم. باختصار، الفلسفة كخطاب نظري خالص، لا يمكن النظر إليها إلا كترف عديم الأهمية.
بيد أن الفلسفة لم تكن دائمًا صرحًا نظريًا منفصلًا عن الواقع العيني للحياة اليومية. بل على العكس من ذلك، فعند الفلاسفة القدماء، كان لزامًا على الخطاب الفلسفي أن يوضع دائمًا في خدمة الحياة والسلوك، والفلسفة كانت تعتبر ممارسة لا مجرد تفكير نظري: وهذا ما جعلها تؤسس لنمط فريد للعيش.
هل من الممكن أو حتى من المحبب، اليوم، تفعيل هذه الطريقة في النظر إلى الفلسفة؟ هل بمقدورنا من جديد ممارسة هذه الأخيرة كأداة لتغيير ذواتنا ونمط عيشنا؟
بيير هادو والتمارين الروحية
اهتدى بيير هادو إلى مفهوم الفلسفة كنمط للعيش انطلاقًا من البحث في إشكاليةٍ وقع فيها العديد من القراء المعاصرين للنصوص الفلسفية القديمة. هذه النصوص، في حقيقة الأمر، تعج بالكثير من التناقضات، لدرجة يستحيل معها الخروج بنظرية واضحة ومتسقة. هل هذا معناه أن الفلاسفة القدماء، كانوا يجهلون فن الاستدلال؟ بالنسبة لببير هادو، الأمر ليس صحيحًا. فحريٌّ بنا أن نحمل على محمل الجد الفكرةَ التي مُفادها أن دور الخطاب الفلسفي، بالنسبة لهؤلاء الفلاسفة، كان عمليًا في الأساس: فلم تكن مهمته في أن يُطلع القارئ حول كيفية استعمال وتركيب مجموعة من المفاهيم، وإنما في أن يكوِّن المتلقي ويمرنه. وبالتالي فالنصوص الفلسفية القديمة كانت أكثر من مجرد تدريس لأطروحات، فقد كانت تلقينا لأساليب في العيش والتصرف، وانعكاسًا لحوار حي بين مريد ومعلم، وكل ما ينطوي عليه هذا اللقاء من رهانات تربوية وبيذاغوجية. لهذا السبب بالذات، كانت “التمارين الروحية” تشكل مدار الفلسفة القديمة.
من خلال هذا التعبير الذي لا يملك عنده صدى دينيًّا، يقصد بيير هادو كل نشاط أو مجموعة ممارسات تهدف إلى تغيير الشخص المعنِيّ، في طريقته في العيش ورؤيته للعالم من حوله. هذه التمارين قد تكون جسدية (الحمية الغذائية مثلًا)، خطابية (الحوار مثلًا) أو حدسية (التأمل والتدبر مثلًا)، وعن طريق ممارستها يومًا بعد يوم، تتيح امتلاك نمط من العيش الفلسفي الفريد، الذي تختلف صيغته، طبعًا، باختلاف المدارس الفلسفية القديمة، رواقية كانت أم أبيقورية، لكنه لا يمت للحياة غير الفلسفية بصلة. فهدفه الرئيسي يكمن في تسهيل ولوج الفرد إلى الحكمة، إلى السكينة وبالتالي إلى السعادة.
ميشال فوكو: تقنيات الذات وجمالية الوجود
ضمن مشروعه حول جينالوجيا الذات الغربية الحديثة، بدأ ميشال فوكو، منذ سنة 1980، يهتم بالبعد “الزهدي” في الفلسفة القديمة. وهكذا اكتشف عند القدماء أشكالًا من تكوين الذات مختلفةً تمامًا عن تلك التي ستروج لها المسيحية لاحقًا. بعيدًا عن انتزاع اعتراف شخصي وحميمي من الذات، يُستخدم كوسيلة لإذلالها وإخضاعها، تتيح “تقنيات الذات” الخاصة بالفلسفة القديمة، للأفراد القيام بمجموعة من العمليات على أجسادهم، أفكارهم وسلوكياتهم بقصد تغيير أنفسهم بأنفسهم والوصول إلى حالة من الاستقلالية، الطمأنينة، الصفاء، السعادة…إلخ.
من خلال تأثره بأعمال مواطنه بيير هادو، استعمل ميشال فوكو، ضمن درسه في الكوليج دوفرونس “هيرومنطيقا الذات”، مصطلح “روحية” في إشارة إلى الطريقة التي كان يتعامل بها القدماء مع الفلسفة. ففي نظره، بعيدًا عن كونها مجرد استعمال خالص للعقل، تقدم الفلسفة القديمة نفسها كنمط للعيش معتمدة في ذلك على نوع من الربط العملي للذات بذاتها، عن طريقه يصبح بمقدور المرء تفعيل تغيير ضروري بداخله، يمكِّنه من الولوج إلى الحقيقة. الحقيقة التي لا يمكن له إدراكها عن طريق فعل معرفي بسيط، وإنما يجب عليه الاستحواذ عليها ودمجها كلية من خلال اشتغال صارم للذات على ذاتها.
من أجل إعطاء وصف دقيق لهذه الممارسة، استخدم ميشال فوكو تعبيره الشهير “جمالية الوجود”، ما دفع بالكثير من النقاد (من بينهم بيير هادو) إلى اتهامه بالدعوة إلى الأخلاق الأنانية والنرجسية. الأمر ليس صحيحًا على الإطلاق، فما يهم ميشال فوكو في “فن العيش” عند القدماء، هو تلك الفكرة التي مفادها أن الحياة نفسها يمكن أن تصبح موضوعًا حِرَفيَّا وليس فنيًا فحسب، وذلك من أجل هدف عام هو منح الفرد إمكانية أن يصير غير ما كان عليه. باختصار، فمن خلال عمل أُريد له أن يكون أخلاقية وسياسية، ما يدفع ميشال فوكو إلى استدعاء الفلسفة القديمة وتقنياتها، هو زاوية النظر المختلفة التي تتيحها.
راهنية الفلسفة القديمة؟
رغم انطلاقهما من نظرتين جد متقاربين للفلسفة القديمة كممارسة لتغيير الذات ونمطها الخاص في العيش، فإن بيير هادو وميشال فوكو يختلفان، رغم ذلك، عندما يتعلق الأمر بتحديد سبب وكيفية مواصلة الفلسفة القديمة الاضطلاع بدور مركزي في حياتنا اليوم.
فمن جانبه، يؤكد بيير هادو على أن وصفه للتمارين الروحية القديمة، يهدف إلى مد الإنسان المعاصر ب “نمط للعيش”. فبالنسبة له، في الواقع، مازال بمقدورنا ممارسة مثل هذه التمارين التي تحتفظ بقيمة عابرة للتاريخ، و تتيح، حتى في أيامنا هذه، الولوج إلى موضوعية الحكمة وكونية المنظور الكوسمولوجي.
في الجانب المقابل، لم يتوقف ميشال فوكو قط، عن التذكير بالطابع التاريخي لتقنيات الذات القديمة، ونقد كل وجهة نظر تحاول إحياءها فحسب. ففي نظره، ما تسعى الفلسفة القديمة إلى تعليمنا إياه، أولًا وأخيرًا، هو أن علاقة الذات بذاتها، التي هي ما يصنع ذاتيتنا في نهاية المطاف، ليست معطى طبيعيًا، وإنما هي ثمرةُ صناعةٍ معقدة، قد نشارك في صياغتها بطريقة فعالة. وبالتالي، فدراسة القدماء، لا تتيح لنا اكتشاف حقيقة كونية حول الكائن البشري : كل ما تفعله هو حثنا على ابتكار أشكال جديدة لعلاقتنا بأنفسنا، لم يتوصل إليها الإنسان بعد.
مصدر المقال الأصلي: Sciences Humaines, Les grands Dossiers n°43, La philosophie un art de vivre
Danielle Lorenzini : Professeur d’éthique et de philosophie des sciences humaines à l’université Paris-Est-Créteil, il est l’auteur notamment de Etique et politique de soi. Foucault, Hadot, Cavell et les techniques de l’ordinaire, Vrin, 2015.