لماذا يصعب عليك أن تسامح من أساء إليك
استكشاف التوَزان الهش ما بين التسامح والانتقام
إن كُنتَ مثل معظم البشر على كوكب الأرض، ستُلقي بك فكرة مسامحة عدوِّك إلى غياهب الضيق؛ وهذه الحقيقة لا تجعل منك شخصاً سيئاً، بل تجعلك إنساناً شأنه شأن غيره من البشر. وتُعزى صعوبة التسامح إلى تمتعنا بحافز نفسي -اكتسبناه أثناء تطورنا البشريّ- لتجنب التعرض للاستغلال. وإحدى أسهل الطرق لتجنب الاستغلال هي أن نرد الضربة الموجهة إلينا أو أن نتجنب من يستغلنا. وبذلك نرى أن أي نقاش حول التسامح سيبدأ بشكل تلقائي بالتفكير الحذِر حول رغبتنا بالثأر ممن أساء إلينا.
نوعين من أنواع الثأر: الانتقام والمعاملة بالمثل
إن الثأر -بما في ذلك الثأر باستخدام أساليب العنف– لمن أكثر آليات تسوية الخلافات شيوعاً. فالثَأر منتشر على نطاق واسع في مملكة الحيوانات بهدف تسوية النتيجة النهائية من خلال عكس أي مكاسب حصل عليها المُعتدي. إلا أن أشكال الثأر تختلف بشكل كبير؛ فعلى الرغم من أن كلمة “الانتقام” تُستخدم لوصف كل أنواع الثأر، إلا أنّ الانتقام مجرد شكلٍ متطرفٍ من أشكال الثأر. فهنالك شكل أخر يطلق عليه الباحثون مصطلح “المعاملة بالمثل”.
وإليكم الآن الفرق ما بين المصطلحين:
- الانتقام
الانتقام هو شكل متطرف من أشكال الثأر يُراد منه التسبب بالمعاناة بحد ذاتها، ولا يتناسب عادةً مع الإساءة التي وقعت بحق الساعي للانتقام. ووِفقاً لعالِم النفس Aaron Sell تعد مشاعر الكره الدافع الرئيسي وراء الانتقام، إضافة إلى الاعتقاد بأنً “كينونة الشخص الآخر ورفاهيته ستُلحِق الضرر بالمُنتقم”. كما ويوضح عالم النفس Eran Halperin وزملائه، يتم إحياء الكراهية من خلال اعتقاد الفرد بأنّ من أساء إليه لا يمتلك القدرة على تغيير أساليبه الدنيئة. وبالتالي فإن ما يحرك الرغبة بالانتقام هو إيمان الفرد بمفهوم العدو اللدود؛ ذاك العدو المهووس الذي يشكل تهديداً كبيراً والذي لا يمكن تغيير طريقة تفكيره أو إيقاف سلوكه الضار.
أمّا على صعيد المجموعات، يعتبر الانتقام المحرك الثابت للعنف الاجتماعي والسياسي بدءاً بالنزاع العسكري بين عائلتي هاتفيلد ومكاوي وانتهاءً بالصراع العربي الإسرائيلي. ويُدرِك علماء الأنثروبولوجيا -علم الإنسان- أنّ الغزو والثأر بالدم لَمِن أكثر دوافع شنِّ الحروب شيوعاً حول العالم؛ ويعود ذلك -بشكل جزئي- إلى اعتماد تطور الأمم على سلك درب الانتقام. وكنتيجة لتاريخنا العريق في العيش في مجموعات بدوية صغيرة، فإننا نمتلك تحيزاً وغريزةً -تطوَرتا عبر السنين- تدفَعاننا إلى تفضيل الروابط التي تنشأ داخل المجموعة على الروابط التي قد تنشأ بين مجموعات أخرى. فتُوحِدنا الحماسة الوطنية، ونرتابُ غريزياً من الغرباء الذين ينتمون لمجموعات أخرى. وتعمل هذه التحيزات على إظهار الانتقام بصورة التصرف السهل والواضح، بينما تُظهِر كلاً من التصالح والتنازل بصورة التصرف الخطر والخاطئ. حيث يتم التقليل من شأن وقائع حالات التهدئة السياسية والسلام أو تختفي طيَّ النسيان، بينما تتأصل الوقائع التي أدت إلى مزيد من الاستغلال والتحيز إلى أجل غير مسمى في النسيج المجتمعيّ. وبذلك، تلقى مطالبات التسوية السياسية وسط الأزمات الدولية توخٍ للحيطة والحذر ضد تكرار الخطأ الذي وقع نتيجة استرضاء هتلر في ميونخ.
- المعاملة بالمثل
لا يتمثل رد فعل الفرد الأولي تجاه تعرضه للظلم بالتصرفات العنيفة المتطرفة الناجمة عن الكراهية. فغالباً ما نشعر في المواقف المُشابهة بالغضب لا بالكراهية، ومن حسن حظنا أن ردود فعلنا الأولية لا تصل لحد الرغبة بإبادة منافسينا. مما يقودنا إلى النوع الثاني من أنواع الثأر؛ المعاملة بالمثل. ويشير المصطلح بحد ذاته إلى حدوث تبادل في الضرر: فإن ألحقت بي الضرر، سأعمل على إلحاق الضرر ذاته بك. ويختلف ذلك عن الانتقام الذي لا يتناسب بالضرورة مع الضرر الذي أُلحِق بالفرد في المقام الأول والذي يُحفزه كراهية الفرد، بينما يتمثل الدافع الرئيسي وراء المعاملة بالمثل بالغضب. وأظهرت الأبحاث أن المرء يغضب ممن حوله بُغيَةَ ترميم العلاقة لا تدميرها. وبذلك نرى أن المعاملة بالمثل تمثل رد فعلٍ أو عقابٍ يتناسب مع الضرر الأوليّ، وتهدف إلى تغيير رأي الطرف الآخر؛ وبالتالي تحمل بين طياتها أملاً بترميم علاقة تعاونية مع الطرف الآخر بدلاً درئها. ومن الطبيعي أن يعتمد ظهور المزايا التعاونية للمعاملة بالمثل على رد فعل الفرد إثر هذا العقاب؛ فرد الفعل الوَجِلِ أو الواهن يدعو الفرد إلى استغلال الطرف الآخر، بينما تؤدي المبالغة في رد الفعل إلى تفاقم الخلاف. وفي بعض السياقات المجتمعية -مثل العالم الفوضوي للعلاقات الدولية- يفضل أن يتوقع الفرد أسوء السيناريوهات من قِبلِ الشخص أو المجموعة التي سبق أن ألحقت الضرر به. فيُوضح المُختصان في العلوم السياسية دومينيك جونسون و دومينيك تيرني أن ميلنا إلى توقع الأسوء حول الآخرين، إضافة إلى ثِقتنا بقدراتنا تغرس بذور الصراع والحرب.
وتكمن المشكلة في الانتقام -مقارنة بالمعاملة بالمثل- في سعينا له في المواقف التي تتطلب أن نعامل الطرف الآخر بالمثل. أي أننا نُفاقِم الخلافات التي لا داعيَ لإعطائها أكبر من حجمها ونميل إلى معاملة أصحاب المظالم وكأن قلوبهم غارقة بالضغينة والكراهية. ويبدو هذا النوع من التراجيديا النسبية أكثر وضوحاً وانتشاراً بين المجموعات لا بين أفراد المجموعة الواحدة. ولكن هذه المعلومة لا تنفع ولا تشفع إن أخذنا بعين الاعتبار القوة الفتّاكة للعنف السياسي. وعلى أية حال، نحن مخلوقات تعيش في نطاق اجتماعي؛ أي أننا معرضون للاستغلال وأننا نعتمد بشكل كبير على الآخرين لاقتناص الفرص التعاونية القيّمة.
التسامح
تمهِّد المعاملةُ بالمثل -إضافة إلى بعض من الجهود الإضافية- الطريقَ أمام التسامح. حيث تشير البروفيسورة جيني بورنيت وزملاؤها إلى أن التسامح مرهون بأهمية العلاقة لدى المُخطِئ وبِاحتمالية إلحاقه المزيد من الضرر بالطرف الآخر في المستقبل. حيث خلص بحث بورنيت وزملاؤها إلى أنّ اجتماع هذين العاملين هو ما يحدد احتمالية مسامحة المخطئ والعفو عن الانتهاكات التي ارتكبها؛ مما يفسر السبب وراء كون الاعتذار البسيط غير كافٍ لتدفق التسامح الصادق من قلوبنا.
وإليك الآن مثالين من سياق السياسة الدولية:
- آلت الدراسة التي قام بها الباحثان كاثرين فيلبوت وماثيو هورنسي إلى أن اعتذار المسؤولين السياسين عن سوء معاملة أسرى الحرب الأستراليين خلال الحرب العالمية الثانية لم تؤثر على استعداد الاستراليين لقبول الاعتذار ومسامحة المسؤولين عن ذلك.
- خلصت دراسة أخرى قام بها براون وزملاؤه إلى أن الاعتذار ذو الطابع السياسي كان كافياً بالنسبة للكنديين؛ حيث سامح الكنديون الجنودَ الأمريكين لقتلهم جنودهم من خلال حادثة إطلاق نيران صديقة- أي إطلاق النار بين أفراد الجيوش المتحالفة بهدف إلحاق الضرر بالعدو.
وبدلا من الكشف عن الطبيعة الواهنة والمتعارضة للاعتذار السياسي، نرى أن المثالين آنِفي الذكر يوضحان نقطتان رئيسيتان حول التسامح السياسي:
فأولا وكما يوضح فريق الباحثة بورنيت، يتم تحفيز التسامح عند الطرف المتضرر عندما تكون العلاقة مهمة لدى الطرف الآخر وعندما ينخفض خطر التعرض للاستغلال مجدداً. ويمكننا القول بأن هذين الشرطين وُجِدا في حالة النيران الصديقة بينما لم يكن لهما أثر في حالة أسرى الحرب.
ثانيا، ينتج التسامح عن تحقيق الشروط اللازمة للمصالحة -أي أنه لا يخلُقُها. ومن المؤكد أن العلاقات السياسية والاقتصادية بين الولايات المتحدة الأمريكية وكندا من أكثر العلاقات سلميةً وازدهاراً حول العالم. وعلى الرغم من أنّ الاعتذار والتسامح الذي يعقُبه لمِن التصرفات قليلة الانتشار على الصعيد الدولي، إلا أن النجاح الذي يحققه ليس بالعشوائي ولا المُستحيل.
شبكة مُعقَّدة من الدوافع
من المنظور الذي عرضناه سابقاً، نجد أن الميل الانتقامي والقدرة على التسامح ينسجان شبكة معقدة من أنظمة الدوافع المتداخلة التي تساعدنا على:
- تجنب التعرض للاستغلال
- حل النزاعات الناتجة عن تضارب المصالح
- ترميم العلاقات المهمة في حياتنا
ومن الجدير بالذكر أن ذلك يعتمد بشكل رئيسي على السياق.
ففي المرة القادمة التي يُخطىء فيها شخصٌ ما بحقك، قد تجد أنه لمن الجدير بالاهتمام أن تُمعِن النظر بجذور رغبتك المعقدة بالثأر والتسامح؛ تلك الجذور الضاربة عميقاً في أعماق نفسك. فكلاهما -الثأر والتسامح- ينطوِيان على مخاطر وفوائد هامة. كما وأن الثأر والتسامح لمِن الأمور الضرورية واللازمة لقبول المبادئ والقيم التي نؤمن بأهميتها في ترميم علاقاتنا المهمة وفي بناء علاقات صادقة أخرى.