bird box: الشيطان يعدكم القتل
يحلو للكثير من الناس تصوير المرض النفسي، والأنواع الأشد حدَّة من الاكتئابات التي تدفع الفرد على الانتحار ؛ على أنه ناتج من خلل عضوي ومشكلة نفسية فقط بمعزلٍ عن أيِّ تفسيراتٍ ما ورائية أخرى تأخذ في الاعتبار إمكانية وجود الروح والأبعاد غير المرئية لنا.
“في كلِّ مكانٍ أخطو فيه بقدمي، أنا محارب” من الرسائل الأخيرة لأحد المنتحرين.
في الفيلم المنتج حديثًا والمذاع على شبكة (نيتفلكس) الأمريكية، شكَّل (bird box) صدمة حقيقية لملايين المشاهدين حول العالم، وحقَّق أرقامًا قياسية في عدد المشاهدات. مكمن الرعب الأساسي في هذا الفيلم لا يكمن فقط في الجاذبية الكبيرة التي تشكلها السرديَّات الأبوكاليبتية المختلفة لنهاية العالم؛ لكن في مدى تماس مشاهد الانتحار المفزعة الواردة في الفيلم مع باطنية الخوف والهلع الموجودة في عقل المشاهد، والناتجة بالأساس من الترسبات والهواجس التي يحملها كل فرد إزاء أفكار الانتحار التي تراوده أحيانًا وبالأخص في أكثر أوقات ضعفه وخذلانه وفشله الشخصي.
“إني أفقد صوابي مرةً أخرى، أنا متأكدة من ذلك؛ ولكني لن أتعافى هذه المرة. أسمع أصواتًا غريبة، ولا أقوى على التركيز. ولذلك، أنا أفعل أفضل شيء يمكن فعله الآن”
يكمن تفرُّد (bird box) الأساسي -من وجهة نظري- في عرضه لهذه الفكرة التي بات يتم تجاهلها على نطاقٍ واسع؛ خصوصًا إذا نظرنا إلى الذاتية الرهيبة التي يتعامل بها علم النفس واحتقاره لكلِّ الفرضيات الدينية والميتافيزيقية الممكنة في سياق تعريف الألم النفسي وكيفية علاجه.
الفكرة هي: ماذا لو أنَّ شيئًا أكبر من فهمنا الحالي يحدث في اللحظات القليلة التي تسبق إنهاء الفرد لحياته؟
يحدِّد فيلم (bird box) فرضية الكائنات الشريرة والمسوخ، وهو إذ لا يحدِّد طبيعتها ولا يصوِّر أشكالها بل يتركها مفتوحة لفهم كل مشاهد؛ لكن إجمالًا يمكننا أن نستكشف أنها كائنات ذات طبيعة شريرة هائلة. ولها بُعدين:
البعد الفيزيائي العادي والذي يمكن الإحساس به ويمكن للطيور الدلالة عليه حين اقترابه من حيز المكان.
البعد الآخر هو ميتافيزيائي غير مفهوم، ويتجسد أساسًا من الذاكرة الفردية التي يختزنها كل فرد داخله، ومن استجماع وتضخيم كل المرارة والحسرة والألم والحزن والفقد والرفض والفشل والمرض الذي أحسه كل إنسان في حياته مسكوبة كلها في لحظة واحدة قصيرة، لكنها هائلة الثقل والكثافة من النسج الزمني؛ وهي اللحظة التي يقرر فيها الفرد ذاته خلع العصابة التي يتدثر بها حول عينيه والتطلع لوهلةٍ قليلة، والاتحاد بهذا الكيان المهول الشر وتصديقه والنزول معه إلى جحيمٍ لا نعلم عنه شيئًا.
شيئًا من هذا يمكننا أن نراه في القصة الإنجيلية الشهيرة التي تحكي عن وقائع اللحظات الأخيرة التي عاشها يهوذا تلميذ المسيح الذي خانه وسلمه للحكم عليه، فنجد أن الكتاب يقول: “فلما رأى يهوذا الذي أسلمه أن قد حكم عليه، ندم ورد الثلاثين من الفضة إلى عظماء الكهنة والشيوخ، وقال: خطئت إذ أسلمت دمًا بريئًا. فقالوا له: ما لنا ولهذا الأمر؟ أنت وشأنك فيه. فألقى الفضة عند القدس وانصرف، ثم ذهب فشنق نفسه”، ثم يرجع و يقول عنه في كلمة: “دخله الشيطان”.
“وداعًا يا ثيو… الحزن يدوم إلى الأبد”
أو هل يدوم الحزن إلى الأبد فعلًا؟
في اللحظة التي يدرك فيها أبطال الفيلم استحالة مواجهة الشرِّ القائم على الأرض بعيون مفتوحة، يدركون أيضًا استحالة بقائهم على قيد الحياة بعيون معصوبة، هنا يعرج الفيلم إلى الحبكة التي تحوِّل نهاية العالم إلى مجرد إبادة جماعية مأساوية؛ وليست نهاية للعالم كله بمعنى الكلمة.
(مالوري) التي أجادت في تجسيدها الممثلة (ساندرا بولوك) والتي يحوِّلها حدث الإنجاب من مجرد امرأة عدمية عاكفة أغلب الوقت في منزلها تأتي لها أختها بحاجيات البيت، إلى إنسانة مقاتلة صلبة تذهب وحدها في رحلة مع ولديها في النهر المتعرِّج المنحدر بحثًا عمّا يمكن أن يكون ملجأ لها. هنا نجد أن الحرب التي تخوضها (مالوري) هي لا تخوضها من أجل نفسها فقط، إن العالم حزينٌ وحزينٌ جدًا لو حصرناه حول ذواتنا الضيقة، كما أنه عالمٌ قاتم السواد وبلا أمل محدَّد في أيِّ شيء. كل ذلك يتبدَّل لو سيطرت قوى الحب والخير علينا كما كانت تحمي (مالوري) طوال الوقت ما دفعها للسعي الحثيث في تأمين الحياة لأولادها عبر الخوض في نهرٍ من التطهر نحو الملجأ الموعود. يمكننا أن نقرأ أيضًا رغبة صنّاع الفيلم في إعادة القيمة لفكرة تشكيل الأسرة في الغرب، والخروج من الفردانية الخانقة التي يقبع فيها شعوبه وخصوصًا الأجيال الجديدة إلى رحب الحب المتولد باستمرارٍ داخل الأسرة الواحدة.
إن الحب يخلق في نفوسنا الأمل ومعه يتجدَّد الإيمان بنجاتنا سويًّا من أسوأ كوابيسنا وخبراتنا الشخصية، ومن أسوأ الظواهر غير المفسرة والتي يمكن أن تطال العالم يومًا ما.
الشرير وبرغم قوته التي ظهرت مهولةً على الشاشة لا يستطيع -ومهما أوتي من قوى- أن ينزع عنا عصائب الإيمان والأمل في الحب التي تحمي أرواحنا وأجسادنا من الفتك والهلاك، بل إننا وحدنا من نختار التطلع إلى الشر والكراهية والانحطاط والإيذاء بالامتلاء به والغوض فيه، وأحيانًا الدعوة له كجنودٍ أوفياء.
كما أن ليس كل العلم خير، وليس كل الرؤية صواب، وليس كل القوة حقيقة، وأن الحقيقة هي ليست كل ما نراه فقط.
“كم أتمنى أن ينقذني أحد، لم أجد يدًا تُربِّت على قلبي قبل أن أكمل رسالتي الأخيرة.”
قد يعجبك أيضًا: Black Mirror: Bandersnatch اخلق مغامرتك الخاصة