العمارة في بعدها العاطفي
الشكل يتبع أي شيء!
لطالما سمعنا عبارة (الشكل يتبع الوظيفة) “FFF: Form follows function”، والتّي ظلت منذ أن أطلقَها «لويس سوليفان – Louis Sullivan» عام 1896م وإلى اليوم تطبع مختلف أشكال التصميم، ليس في مجال العمارة وحسب، وإنما تعدّته لتشمل مجالات التصميم الصناعي وحتى تصاميم الويب. ولكن، هل يمكن لنا أن نفتح آذاننا لشعارٍ آخر قد لا يلغي شعار سوليفان بقدر ما يعطيه بعدًا روحيًا وشاعريًّا؟
«الشكل يتبع أي شيء – Form follows anything»
مدخل حمام الورد في فال/ سويسرا– بيتر تسومتر
الشكل يتبع أي شيء. هل تعتبره عنوانًا سخيفًا؟ حسنٌ، ما رأيك لو أخبرتك أنه كان عنوانًا لندوةٍ حضرها المعماري الشهير Peter Zumthor منذ أكثر من عقدين ولا يزال صداها يتردد إلى يومنا هذا؟ Peter Zumthor المعماري السويسري الحائز على جائزة بريتزكر لعام 2009م وجائزة RIBA لعام 2013م وصاحب الأعمال الفريدة التي طمست حدود العمارة ككيانٍ مادي، سيقودنا في هذا المقال عبر أفكاره وأعماله؛ لنحاولَ إدراك العمارة من منظورٍ جديد وكأنّها مساحةٌ من المشاعر تتأثّر وتتطور تبعًا لعناصر الوسط المادي المحيط كالضوء والصوت ومختلف أشكال الطاقة.
بيتر تسومتر
في كتابه عمارة التفكير، يؤكّد «تسومتر – Zumthor» على أهمية استكشاف التجارب المكانية، والتي تعمل كمستودعٍ للأجواء التي يعتمد عليها خلال مرحلة التصميم لمشاريعه. فالبشر ينظرون للعالم المادي من خلال حواسهم، ولكن ماذا لو نظرنا للعالم بعواطفنا؟ ماذا لو حاولنا إدراك المكان عن طريق ردود الفعل في أذهاننا وخلاصة تجربة وجودنا فيه؟ في ذهن كل واحد منّا تجربته مع أجواء المدن التي زارها، الأماكن التي عاش فيها، الناس الذين تفاعَل معهم، وحتى الكائنات التي شَعَر بوجودها، وهذه التجارب تساعدنا على استنباط المعنى من الموقف والتفاعل والوجود.
“العمارة قصيدة مادية”
قد يبدو مصطلحًا رمزيًا أكثر منه واقعيًا، ولكن بمزيدٍ من الفهم يمكن للمرء أن يدرِكَ الحقيقة، فالعمارة مكوّنة من الاتصالات العاطفية، والتي تخلق ذكرياتٍ أبدية. هذا ما يؤكده تسومتر في كتابه “أجواء”، إذ يرسم إطارًا عامًا يجمع ضمنه تسعة عناصر تشكل برأيه الجو العام للهندسة المعمارية، والتي من المحتمل أن تكون مصدر إلهام لتطوير فهمنا لمدى استيعاب العمارة لكل أحاسيسنا.
مدخل معرض Kunsthaus Bregenz / النمسا – تصميم بيتر تسومتر
الرؤية
لا شكّ أن السياقَ البصريّ هو العنصر الأبرز في أي وسط كان، فنحن محاطون دائمًا بالعناصر البصرية في كلِّ زمانٍ ومكان. ربما تكون عناصرَ طبيعية أو صناعية، ربما تهدف للمنفعة أو لمجرد الفنّ، ربما تكون موادَ بناء أو أثاث أو أيّ تفاصيل أخرى يمكن لنا رؤيتها، ولكلٍّ من هذه العناصر لونه وملمسه الخاص، فإذا اجتمعت مع بعضها يجب أن تعطي انطباعًا موحّدًا للمبنى. المواد مثلًا، يجب أن تتناسب مع بعضها البعض، فكل مادة يمكن أن تعطي نتيجة مختلفة في خلق الجو العام للمبنى، على سبيل المثال، كتلةٌ حجريةٌ بملمسٍ ناعم قد تؤثّر في مشاعرنا على نحوٍ مختلف عن الكتلة ذات الملمس الخشن، وربما يتغير شعورنا جذريًا إن اجتمعت مع الخشب أو الزجاج. فالموادُ لها قدرة لا نهائيّة على خلق أجواء مختلفة بمجرّد تغيير نسب تواجدها ضمن التكوينات المعمارية.
مؤسسة Louis Vuitton / باريس – تصميم فرانك جيري
لا بدّ أيضًا من التأكيد على موضوع الظل والنور وأهميته ضمن السياق البصري، حيث يجب أن نركزَ على موضع الضوء بالنسبة للكتلة، وعلى التوجيه والشِدّة، هل الضوء طبيعي أم صناعي؟ منتشر أم مباشر؟ كيف سيكون شكل الظل الناتج عنه؟ وكيف سيكون انعكاسه على المواد؟ كيف سيكون إشعاع الأضواء الصناعية ليلًا؟ والأهم من هذا كله، كيف سيؤثر الظل والنور على تلطيف الجو العام أو زيادة حدّيّته.
مدخل مكتب أبحاث الفضاء / موسكو – تصميم زها حديد
أيضًا الحجوم والكتل ونسبها ضمن التكوين تلعب دورًا هامًا في خلق الجو العام، ولذلك يجنحُ Zumthor إلى استلهام أعماله من الموسيقى الإيقاعية المتناغمة، كمقطوعةِ الفصول الأربعة للموسيقار Vivaldi، ويميل لتكرار نفس الشعور من التناغم والإيقاع البصري في الجسم المعماري؛ الجسمُ الذي يستطيع أن يحرّكَ المشاعرَ الإنسانية.
السمع
“العمارة أشبه بجهازٍ ضخم، يجمع الصوت، يضخّمه، ثم ينقله في كلِّ مكان”. صوت المكان ودوره في تصوّر الجو العام لا يقل أهمية عن العناصر المرئيّة، وهذه الأصوات تتشكّل حسب الوظيفة المعماريّة، المستخدمين، وسطوح المواد التي تكسو الفراغ الداخلي للمبنى. إذًا، فللمكان صوته الذي يشكّل هويته ويهبه مساحةً أبديّة في الذاكرة، وهذا ما يؤمن به Zumthor حيث يتخيل استخراج كل الأصوات المنبعثة عن مبنى ما، ويعتقد بأن لكلّ مبنى نغمته الخاصة -شريطة ألّا تنتج عن الاحتكاك- ويمكن ملاحظتها في بيئةٍ معزولةٍ صوتيًا. على كل حال، حتى الصوت الناجم عن الاحتكاك له أهميته في حد ذاته، مثل صوت خطواتك على أرضية خشبية أو حفيف النباتات في فناء المنزل.
المتحف اليهودي/ برلين – تصميم دانيال ليبسكند كنيسة القديس Voile Chapel / اليابان – تصميم مكتب Kasahara
الشم
مع أن هذه الحاسة لا تشغل حيزًا كبيرًا في كتابات Zumthor، إلا أنه لم يغفل أهميتها في تكوين الجو العام. ففي بلدية “فال” في سويسرا صمّم بركة مخصصة تُدعى “حمام الورد” حيث يبدأ المرء باستكشاف الروائح. جو البركة مشبع بأبخرة زيت اللافندر وتطفو على سطحها بتلات القطيفة. هذا العنصر (أي الروائح) وإن تم التغاضي عنه بشكلٍ كبير، إلا أنه يملك القدرة على تصفية الذهن وتهدئة الروح، فالرائحة بتجردها من البعد المادي تُشعِرك أنك لا تزال حقًا على قيد الحياة.
مدخل حمام الورد في فال/ سويسرا – بيتر تسومتر
اللمس والإحساس
إن درجة حرارة المكان هي أوّل ما يلفت انتباهنا عند تواجدنا في أيّ بيئة مبنية. كل المواد تكون في حالة توازن حراري مع الوسط المحيط بها، وهذا يشمل مواد البناء. على سبيل المثال، يمتص الخشبُ الحرارةَ ويشعّها، بينما نجد الحديد باردًا في أغلب الأحيان. يشرح Zumthor هذه الظاهرة في الجناح السويسري الذي شيّده من الخشب، مُظهرًا أنّ الموادَ المكوِّنة للمكان تحدد درجة حرارة جوّه.
الذوق
قد لا يكون هذا الشعور على نفس المستوى من الأهمية، ولكن أهميته تكمن في كيفية تعزيز العمارة لتجربتنا عندما يتفاعل هذا الشعور مع الحواس والمشاعر الأخرى. تخيل مثلًا أنك تأكل على أنغام الموسيقى وتحت ضوء خافت.
الصيغة الشعوريّة
على ضوء استكشافنا للعمارة من خلال كافة الحواس، يمكن للمرء أن يعتبرها ذلك الحضور الذي يثير العواطف فينا، ففي كل عنصرٍ من عناصرها، يمكن للعمارة أن تُحلِّقَ بنا عبر سماواتٍ لا متناهية، وهذا الشكل الميتافيزيقي هو الجوهر الحقيقي للعمارة.
متحف فن Teshima / اليابان – المعماري Ryue Nishizawa
وبعبارة Zumthor: “ثمة شيءٌ أكبر منك في العالم”. ربما علينا أن نؤمن بهذه الحالة من الاستنارة الروحيّة التي نستمدها من أحاسيسنا، فللعمارة قدرتها التي تجعلنا ندرك الطاقةَ والإحساس والروح في المكان وفي أعماقنا أيضًا.
المصادر: