في عصر الذكاء الاصطناعي: هل المترجم مهدد بالانقراض؟ | صلاح الدين منذر

مع التطوّر التكنولوجي الهائل في عصرنا، ارتقت الخدمات وسهولة الوصول إلى المعلومات إلى مستوى جديد، مستوى يُغني الفرد عن الحاجة للتفكير العميق أحيانًا، فيمكنك اليوم الوصول إلى أيً معلومة، والحصول على إجابة لأي سؤال، وتنظيم جدولك الأسبوعي، بل وحتى حل واجباتك الدراسية… وكل ذلك في لحظات، نعم، إنه الذكاء الاصطناعي!

لقد أصبح جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، متسللاً إلى معظم،-إنْ لم يكن جميع- المجالات، ومع قدرته المتزايدة على فهم النصوص وإنتاجها بجميع اللغات، يبرز سؤال جوهري: هل لا زال العالم بحاجة إلى مترجمين؟ أم أن دورهم أصبح مهدداً بالزوال؟

قبل أن نجيب عن هذا السؤال، دعونا أولًا نلقي نظرة على كيفية عمل أدوات الترجمة المدعومة بالذكاء الاصطناعي وتاريخ تطور الترجمة الآلية.

تاريخ الترجمة الآلية وكيفية عملها

لم تكن الترجمة الآلية دائمًا على هذا المستوى المتقدّم، ففي بداياتها خلال خمسينيات القرن الماضي، أجريت محاولات بدائية للترجمة بواسطة الحواسيب، تعتمد بشكل أساسي على القواميس وقواعد بسيطة، والتي لم تكن نتائجها مرضية، وغالبًا ما كانت مضحكة أو غير مفهومة، ومع مرور الوقت، تطوّرت النماذج تدريجيًا من قواعد لغوية جامدة إلى نماذج إحصائية، ثم إلى ما نشهده اليوم في الترجمة الآلية العصبية التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي وسنتطرق إليها تاليًا، هذا التطوّر لم يأتِ بين ليلة وضحاها، بل كان نتيجة عقود من البحث والتجريب.

معظم أدوات الترجمة الحديثة مثل «شات جي بي تي – ChatGPT»، و«ديب سيك – DeepSeek»، وترجمة جوجل تعتمد على ما يُعرف بـ «الترجمة الآلية العصبية – Neural Machine Translation» أو «NMT» كاختصار، وهي طريقة للترجمة الآلية تعتمد على فهم النص الكامل وسياقه أولًا ومن ثم ترجمته، بعكس طرق الترجمة الآلية التقليدية التي كانت تترجم كل كلمة بشكل منفصل، حيث تستخدم هذه التقنية شبكات عصبية اصطناعية، تحاكي طريقة عمل دماغ الإنسان في معالجة اللغة، مما يتيح انتاج ترجمات أكثر دقة وسلاسة، ومع مرور الوقت وتزايد عدد النصوص التي تترجمها هذه الأدوات وتزايد حجم قواعد بياناتها، تزداد جودة الترجمة بشكل ملحوظ، فلو قارنا بين ترجمات الذكاء الاصطناعي قبل بضع سنوات واليوم، سنجد أن هناك فرقًا واضحًا في الدقة والأسلوب.

إعلان

نقاط قوة الذكاء الاصطناعي في الترجمة

لا يمكن إنكار أنّ الذكاء الاصطناعي قد حقق تقدماً كبيراً في مجال الترجمة، مما يجعله أداة قوية ومفيدة في العديد من السياقات، وأبرز ما يميزه هو السرعة الهائلة التي تفوق سرعة المترجم البشري بمراحل كبيرة، إذ يمكنه ترجمة صفحات كاملة في ثوانٍ معدودة، فعلى سبيل المثال، يستطيع الذكاء الاصطناعي ترجمة محتوى المواقع الإلكترونية أو المقالات الإخبارية في وقت قياسي، مما يسهل الوصول إلى المحتوى العالمي بشكل لحظي، كما يتمتع بقدرة عالية على التعامل مع مختلف أنواع النصوص سواء كانت بسيطة أو ذات طابع تخصصي، مما يتيح توظيفه بشتى المجالات، فبعض المنظمات تستخدمه بشكل فعال في التواصل مع جمهور واسع متعدد اللغات، كمنصات الدعم الفني العالمية، أو في التواصل الأولي مع اللاجئين والمهاجرين، حيث تكون السرعة أهم من الكمال اللغوي، إضافة إلى ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداة مساعدة فعالة للمترجمين أنفسهم، فبدلًا من البدء بالترجمة من الصفر، يمكن للمترجم البشري أن يستخدم الترجمة التي يوفّرها الذكاء الاصطناعي كنقطة انطلاق يقوم بتحريرها والتعديل عليها حسب الحاجة، مما يوفّر الوقت والجهد.

نقاط ضعف الذكاء الاصطناعي في الترجمة

على الرغم من التطوّر الكبير الذي حقّقه الذكاء الاصطناعي في مجال الترجمة، إلّا أنّ هناك حدودًا واضحة لا يمكن تجاهلها، إذ يعتمد بالكامل على الأنماط الإحصائية وقواعد البيانات المتاحة له، والتي، رغم ضخامتها، تظلّ غير كافية لتحقيق فهم عميق في كثير من الأحيان، نتيجة لذلك، قد يُنتج الذكاء الاصطناعي جملاً صحيحة من الناحية اللغوية، لكنها خاطئة من حيث المعنى، أو بعيدة عن السياق المقصود، وتُلاحظ هذه المشكلة بوضوح في ترجمة العبارات الثقافية، والتعابير المجازية، والفكاهة، والبلاغة؛ فهي تتطلب خلفية ثقافية وفهماً للسياق الاجتماعي والتاريخي، وهو ما لا يمكن محاكاته بالخوارزميات وحدها، كل ذلك يجعل الاعتماد عليه في ترجمة النصوص الدقيقة أو الحساسة، مثل العقود القانونية أو الوثائق الطبية، محفوفًا بالمخاطر؛ فخطأ بسيط في ترجمة مصطلح واحد قد يؤدّي إلى عواقب وخيمة، وقد أظهرت العديد من الدراسات الحديثة مثل (Al-Salman, Saleh & Haider, Ahmad. (2024).) أنّ أدوات الترجمة الآلية، بما فيها تلك المدعومة بالذكاء الاصطناعي، تواجه صعوبة ملحوظة في الحفاظ على الأمانة الثقافية عند الترجمة، مما يضعف دقة الترجمة ويزيد احتمالية فقدان المعنى الأصلي، كما أظهرت دراسة أخرى (Almanna, A., & Almanna, R. (2024)) أنه على الرغم من أنّ ترجمات الذكاء الاصطناعي غالبًا ما تكون صحيحة من الناحية النحوية، إلّا أنها تفتقر إلى العمق والدقة المطلوبين في السياقات القانونية، مما قد يؤدّي إلى خلافات قانونية تكلّف الشركات والأفراد خسائر مادية كبيرة.

إذن، هل المترجم مهدد بالانقراض؟

لا شكّ أنّ الذكاء الاصطناعي قد أحدث ثورة في عالم الترجمة، وبات أداة لا يمكن تجاهلها أو الاستغناء عنها في بيئات العمل الحديثة، ومع ذلك، لا زال غير قادر على أن يمثّل تهديدًا وجوديًا للمترجم البشري، بل يكشف عن حاجة جديدة إلى إعادة تعريف دور المترجم، فالمترجم في العصر الحديث أصبح وسيطًا ثقافيًا، ومحرّرًا لغويًا، ومحلّلًا للسياقات الدقيقة التي يعجز الذكاء الاصطناعي عن فهمها أو تقديرها، وبدلًا من النظر إلى أدوات الذكاء الاصطناعي كخصم، يمكن النظر إليها كمساعد ذكي يزيد من إنتاجية المترجم، ويمنحه مساحة أكبر للتركيز على الجوانب الإبداعية والتحريرية للنص، ومن المتوقع أن يتطور دور المترجم مستقبلًا ليشمل مهارات إضافية مثل التحرير المتقدّم، والمراجعة التقنية، والتدريب على استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، وهذا ما يجعل المهنة مرنة وقابلة للتطور مع الزمن، ومن هذا المنطلق، يمكن القول إنّ مستقبل الترجمة لن يكون بيد الذكاء الاصطناعي وحده، ولا بيد المترجم وحده، بل في التعاون بين الإنسان والآلة، حيث يجمعان بين السرعة والدقة من جهة، والوعي والسياق من جهة أخرى.


مراجع:

Al-Salman, Saleh & Haider, Ahmad. (2024). Assessing the accuracy of MT and AI tools in translating humanities or social sciences Arabic research titles into English: Evidence from Google Translate, Gemini, and ChatGPT. International Journal of Data and Network Science. 8. 1-16. 10.5267/j.ijdns.2024.5.009.

Almanna, A., & Almanna, R. (2024). Assessing the accuracy of MT and AI tools in translating humanities or social sciences Arabic research titles into English: Evidence from Google Translate, Gemini, and ChatGPT. Stockholm University. [PDF]. DIVA. https://su.diva-portal.org/smash/get/diva2:1958922/FULLTEXT01.pdf

 

إعلان

اترك تعليقا