كتاب البعد الخفي وتأثير الحيز في التواصل الإنساني
هل تساءلت يومًا عن سبب توتّرك الناجم عن الازدحام مع مجموعة من الأشخاص بداخل مصعد؟ أو عن سبب اختلاف المساحات الداخلية لبيتك العربيّ بطابعه عن التصميم الداخلي لبيت أمريكي؟
أعلم أنّ كلمة واحدة كفيلة بإعطائك لمحة عن إجابات تلك الأسئلة، ألا وهي “الثقافة”. لكن ما الرابط بين الثقافة السيكولوجية للإنسان وتقبّله لتلك المساحات التي تتمثل بالحيز الذي يفصلنا مع من نتفاعل بهم أو المساحات التي تفصل بين الأشخاص في السكن؟
التفاصيل المعمارية ستساعدنا بلا أدنى شكّ للتوصّل إلى إجابات لأسئلتنا المُحيّرة عن الحيّز في التفاعل الإنساني، وهذا ما يقدّمه كتاب البعد الخفي الذي بين أيدينا اليوم.
لكلّ منا إقليم يشكّل مملكة كيانه الذي يشعر فيه بالراحة. وقد قدّم ادوارد .تي.هول -مؤلف كتاب البعد الخفي- مصطلحًا يرمز لهذا الإقليم وهو (البروكسيمية) أو بما سماه (بروكسيميكس)، ويدلّ على المشاهدات ذات العلاقة المتبادلة ونظريات استخدام الإنسان للحيز كتطور متخصص للثقافة.
من خلال بحث الكاتب عن العوالم الحسية المختلفة للعرب والأمريكان كمثال على ثقافتين متباعدتين، وجد أنّ العرب يعيشون في عوالم حسية مختلفة في كثير من الأوقات ولا يستخدمون الحواس نفسها والمسافات المحافَظ عليها خلال المحادثات، فالعرب يستعينون بحاستَي الشم واللمس أكثر من الأمريكيين.
حتى أنّ خبرة العرب للجسد في علاقته بالأنا العليا تختلف عن خبرة الأمريكان وأنّ النساء الأمريكيات المتزوجات بعرب في أميركا واللاتي عرفن فقط الجانب الأمريكي المكتسب بالتعلم من شخصياتهنّ، لاحظن غالبًا أنّ أزواجهنّ ينتحلون شخصيات مختلفة عندما يعودون إلى أوطانهم حيث ينغمسون في الاتصالات العربية من جديد ويتقيدون بالمفاهيم العربية ويصبحون أشخاصًا آخرين.
إنّ العلاقة بين الإنسان والثقافة هي علاقة يتشارك فيها الإنسان وبيئته في تشكيل بعضهما البعض، ويدلّ على ذلك أنّ مدننا توجد أنواع مختلفة من الناس في أحيائها الفقيرة وضواحيها مما جعل الكاتب ييفسر صعوبة دمج الأقليات في الثقافة السائدة.
في الفصل الأول يوضح الكاتب أهمية الثقافة في فهم الحيز، فعندما طور الإنسان الثقافة مدّن نفسه وفي أثناء ذلك ابتكر سلسلة كاملة من العوالم، كلّ منها يختلف عن الآخر.
كلّ عالم له مجموعته الخاصة من المدخلات الحسية بحيث أنّ ما يؤدي إلى ازدحام الناس في ثقافة ما ليس بالضرورة سببًا في ازدحامهم في ثقافة أخرى، وأنّ ما يكون مصدرًا للتوتر في ثقافةٍ ما لا يكون مصدرًا للتوتر في ثقافة أخرى.
وهذه الصفة الإقليمية توجد أيضًا عند الحيوانات، فعند الشعور بخطر يواجههم ضمن هذه المنطقة يقومون بالهجرة إلى منطقة يشعرون فيها الأمان، وهذا ما يناقشه الكاتب في الفصل الثاني والثالث، فهم الحيوانات لهذا الحيّز بما يحتويه من المسافات الشخصية والاجتماعية وما يندرج تحت ذلك من سلوكيات اجتماعية تتصف بها الحيوانات.
ومن التجارب التي خاضها العالِم كالون على الفئران، تم اكتشاف نتائج مذهلة بما يكفي لتبرير وصفٍ مفصّل لها؛ وجد أنّ بإمكانها إخبارنا كيف يتصرّف الكائن الحيّ تحت ظروف مختلفة عن الاكتظاظ، كما تلقي ضوءًا جديدًا على إمكانية أن يكون للسلوك الاجتماعي الذي يرافق الاكتظاظ نتائج فسيولوجية هامة.
وفي باقي فصول كتاب البعد الخفي يطبّق الكاتب ما تم استنتاجه من تجارب مراقبة الحيوانات في مسافاتها الاجتماعية في التواصل على الإنسان، من خلال بعض الصور المعروضة في الكتاب. عند الاتصال يخلق الإنسان ثلاث مسافات، ومحتوى هذا الاتصال يحدد ما هي المسافة التي يختارها.
بالصورة الأولى المسافة الشخصية هي المصطلح الذي استُخدم من قبل عالم نفس الحيوان (اتش.هيديجر) لوصف المسافة الطبيعية التي تحافظ عليها الحيوانات غير المحتكة بين أنفسها وأفراد جنسها.
فالطيور التي تتشمس على زند خشب والناس الذين ينتظرون حافلة، كلاهما يوضح هذا التجمع الطبيعي.
إنّ المسافة العامة تكون جيدة خارج دائرة الانخراط الشخصي، وتتم برفع الصوت أو تضخيمه، ويتغير معظم الاتصال إلى إشارات وحركات جسدية، هذه هي مسافة الخطابة العامة والأداء المسرحي وهذه الصورة السابقة توضح ذلك.
فهذه الصورة للرجلين المقتربين من بعضهما كثيرًا توضح الطبيعة العدوانية لمشاعرهما في تلك اللحظة.
وتتم إدارة العمل غير الشخصي عادة في مسافة اجتماعية تتفاوت بين أربعة أقدام إلى اثني عشر قدمًا وفقًا لدرجة الانشغال. إنّ مسافاتنا المتحكَّم بها في تواصلنا مع بعضنا تدلّ بشكل كبير على الحالة النفسية التي نكون عليها، لذلك احرصوا على استخدام هذه المسافات في تفاعلكم مع من حولكم بشكل جيد.