يا عزيزي كلنا زنوج!
الرأسمالية هي التي خَلَقَت ماركس، والفقر المُدْقِع في صقلية هو الذي خَلَقَ جاريبالدي، والأوتوقراطيَّة الروسيَّة هي التي خَلَقَت لينين، كما خَلَقَ الاسْتِعْمَار البريطانيّ غاندي أما فانون فقد خَلَقَه الرَّجُل الأبيض.
هكذا بدء د. فوزي سيلسلي مقدَّمته للترجمة العربيَّة لدراسة ديفيد كوت (فرانز فانون- سيرة فِكْريَّة)، والتي ترجمها عدنان كيالي باقتدارٍ، ولا نكاد ننتهي منها حتى نوافق د. فوزي على رؤيَته وكلماته.
من هو فرانز فانون؟
فانون طبيبٌ نَفسيٌّ وجُنديُّ وثَائِرٌ ومُفكِّرٌ يساريٌّ شهير، ولكنه قبل كل ذلك زِنجيّ. فعندما أوفد في عام 1953م إلى جونيفيل بالجزائر للعمل بمستشفي بها، تحوَّل الطبيب الفرنسيّ إلى صفوف الثُّوَّار الجزائريين (المجاهدين) ضِدّ اسْتِعْمَار بلاده فرنسا.
يبدو سلوك فانون عجائبيًّا من أكثر من زاويةٍ، فانحياز فانون لصُفُوف الثَّورة الجزائريَّة يبدو غاية في التناقض مع جنسيته الفرنسيَّة ومع هُويَّته الآيديولوجيَّة كيساريٍّ حتى النُّخَاع، فكيف ينحاز الشيوعيّ الفرنسيّ إلى الإسلاميين في جهادهم ضِدّ فرنسا؟
كان فرانز فانون الذي وُلِدَ في جُزُر الإنتل عام 1925م، وتطوَّع في الجَيْش الفرنسيّ عام 1944م، ليقاتل النازيين من أجل حُرِّيَّة فرنسا، وتخرَّج بتفوقٍ من جامعة ليون العريقة، ونشر كتابه “بشرة سوداء وأقنعة بيضاء” عام 1952م، بل وتزوَّج من امرأةٍ بيضاء، قد أدرك بعد صراعٍ طويلٍ أن جُهْده المضني للتغلُّب على حاجز اللون والاعتماد على ثقافته وتميُّزه العِلميّ وطاقاته المُتفجِّرة للحصول على التقدير الذي يستحقه “كإنسانٍ” أمرًا مستبعدًا، فطالما كانت الثقافة السائدة عُنصريَّة، سيظل دومًا مُجرَّد زِنجيّ أخر!
فكما يعبِّر بقول: “عندما أتحدَّث إلى من يُحبونني، يقولون إنهم يُحبونني على الرغم من لوني، وحينما أتحدَّث مع من يكرهونني يعتذرون بأنهم لا يكرهوني بسبب لوني، وفي كلتا الحالتين أجد أني حبيس الحلقة اللعينة إياها”.
ولم يمُرّ وقت طويل على وجود فرانز فانون بالجزائر حتى اندلعت ثورتها، وشهد فانون المثقفين الفرنسيين، أمثال ألبير كامو، يدعون إلى عدم التخلّي عن الجزائر، بينما المذابح البشعة تجري على قدمٍ وساق في انتقامٍ أعمى من أعضاء جبهة التحرِّير الجزائريَّة بتدمير القرى التي ينتمي إليها أفرادها، وقتل وتعذيب أبناءها، وتهجير ما قُدِّر بمليونيْ جزائريّ في حُمَّىٍ فاشية أصابت الفرنسيين الذين أعلنوها حُرْبًا مُقدَّسة من أجل كرامة فرنسا، وكأن عظمة فرنسا لا تتحقَّق إلا بكونها دولة استعماريَّة تُقْهِر أُمَّة أخرى وتحتل أرضها!
ولم ينجُ من تلك الفظائع حتى الطلاب الجزائريين في قلب باريس، الذين كانوا يُجرَّون لأقسام الشُّرطة ويُعذَّبون بها بلا أسباب وتلوَّث بها أطباء فرنسيين تعاونوا في تعذيب المعتقلين لانتزاع الاعترافات منهم مع الحرص على الأخذ بالشكل الحضاريّ والسمت القانونيّ في وجود تحقيقات في الانتهاكات ومحاكمات انتهت جميعها إلى لا شيء، ولم تُجْرَ إدانة فرنسيّ واحد، عسكريّ أو مدنيّ، بقتل أي جزائريّ، و كأن بحر الدماء الذي تفجَّر لم يكن شيئًا!
فتحت التَجرِبة أعْيُن فانون على جانبٍ جديد من الإشكال، فعندما استشاره ضَابِطٌ فرنسيّ أنه يريد الاستمرار في مُمَارسة تعذيب العَرْب، ولكن دون أن يتحوَّل إلى شخصٍ عنيفٍ بصفةٍ عامة، فيُعامِل الأوربيين بعُنْفٍ، كانت الرسالة واضحة: التمييز العُنْصُريّ يقصر الإنسانيَّة على البيض فقط، ففي أعْيُن الاستعمار مَن ليس أوروبيًّا لا يُعتبر إنسانًا.
ولم تكن بشاعة الممارسات الاستعماريَّة حكرًا على الفرنسيين، بل كانت التقنيات التي استعملها الفرنسيون في الجزائر هي ذاتها التي استعملها البريطانيون في الهند وكينيا والبلجيك في الكونغو وغيرهم، فسيكولوجيَّة المُسْتعمِر واحدة ونظرته للمُستعمَرين واحدة، لذا فكل المعذبين في الأرض، بتعبير فانون، أصحاب قضية واحدة ولهم عدو واحد يستوجب أن يصطفوا جميعًا في معسكرٍ واحد ٍ لمواجهته، رغم خلافاتهم العرقيَّة والآيديولوجيَّة.
ويَسْخَر فانون من موقف اليسار الفرنسيّ المُنغمِس في النفاق، حيث دعا للحَرْب في الجزائر وسحق ثورتها، بينما دعَّم الهند الصينيَّة في مسار استقلالها، لأن قادة كفاحها كانوا شيوعيين تؤيدهم الصين والاتحاد السُّوفيتيّ، فأصبح التوافق الآيديولوجيّ هو المعيار وليس حق الإنسان الكَادِح في حياةٍ كريمة، والمبادئ التي يدعون بها انحيازهم للإنسانيَّة بلا تمييز.
كان فانون قد اكتسب سُمْعَة الخائن والمُدافِع عن الإرهاب الإسلاميّ سريعًا، عندما برَّر هجمات حزب التحرِّير الجزائريَّة التي أوقعت ضحايا من المدنيين الفرنسيين، بأنه ليس هناك بين المُسْتعمَرين بريء، وأن كل الأوربيين في الجزائر متواطئين في استعمارها للحصول على المنافع الاقتصاديَّة من استمرار الاحتلال، فالفلاح الفرنسيّ عندما يطأ أرض الجزائر يتحوَّل لمستوطنٍ ويفقد صفته كفلاحٍ ويتحوَّل إلى عاملٍ مساعدٍ للاستعمار، الذي يجد فيه مبررًا لجرائمه ويتذرَّع بالدفاع عن مصالحه وحمايته في سحق الجزائريين ونهب بلادهم.
كما وقف فانون ضِدّ محاولة “عصرنة” المرأة الجزائريَّة بنزع حجابها، وأخرجها من نطاق المنزل إلى الحياة العامة، لا قناعة بآراء الإسلاميين وإنما إدراكًا أن غاية الاستعمار ليست مجرَّد احتلال الأرض وقهر الشَّعْب، وإنما إعادة تشكيل المجتمعات على ما يهوي المُسْتَعمِر، فسمَّى سلوك صاحب العمل الفرنسيّ الذي يطلب من مستخدميه الجزائريين الإتيان بزوجاتهم لحضور المناسبات الاجتماعيَّة نوعًا من الاغتصاب المعنويّ، كما كانت قناعته الراسخة أن الحُرِّيَّة لا تأتي عن طريق الهِبات أو الصُدَف، وإنما الحُرِّيَّة الحقيقية هي التي تُنْزَع بعد كِفَاحٍ يبدأ بإدراك الحقوق.
وفي العام الأخير من حياة فانون الثَّريَّة والمليئة بالتناقضات والتحوُّلات الفِكْريَّة والتَجارِب العميقة، نَشَرَ كتابه الأهم والأشهر “معذبو الأرض”، الذي عرض فيه الثَّوْرة الجزائريَّة كنموذجٍ لأفريقيا بأسرها في سعيها للتحرِّير والتخلُّص من رِبْقَة الاسْتِعمَار والتَّبَعِيَّة، والذي توصَّل فيه لاستنتاجٍ دقيقٍ ومبكرٍ، أن مجرَّد خروج القوى العسكريَّة للمُستعمِرين من أفريقيا لا يعني تحرُّرها، لأنها ستُخلِّف وراءها طبقة برجوازيَّة طفيليَّة تُشكِّل العائق الأكبر إزاء التحرُّر الحقيقيّ الاقتصاديّ والثقافيّ، حيث تلك الطبقة التي صنعها الاسْتِعمَار على عينه ووضعها في منزلةٍ أعلى من سائر إخوانهم قد انفصلت عن الشعور الوطنيّ العام، بل ويَكِنّون الاحتقار لأبناء وطنهم مقابل انبهارهم بالأوروبيّ المُسْتَعمِر الذي منحهم التعليم والوظائف الإداريَّة والثَّروات، وإن تلك الطبقة ستتحول سريعًا إلى وكلاء للمُسْتَعمِر تُحقِّق أهدافه تحت رايات التحديث والتقدُّم!
لذلك، رأى فانون أن حركة التحرُّر الوطنيّ لا بُدّ أن تكون مندمجة بالثَّوْرة الاجتماعيَّة، وكاشتراكيٍّ صميم رأى الخُطُوات المؤدية لذلك، هي تأميم المؤسذَسات الاقتصاديَّة الاحتكاريَّة، واتخاذ خُطُوات جذريَّة نحو الإدارة اللا مركزيَّة والمشاركة الجماهيريَّة الديمقراطيَّة في مشروعاتٍ تعاونية حتى لا تترك الفرصة للبرجوازيَّة الانتهازيَّة أن تَحِل محل المُسْتَعمِرين في مقاعد السُّلْطة والسَّطْوَة.
وكما انتقد فرانز فانون السياسيين اليساريين الذين أيدوا الاستعمار، التفت إلى موقف العُمَّال والفلاحين الفرنسيين المؤيد للقمع والمذابح التي واجهت بها الثَّورة الجزائريَّة، الأمر الذي جعله ينفي عن الفلاحين والعُمَّال الفرنسيين الانتماء إلى البروليتاريا العالمية وأن مصالحهم الشَّخصيَّة طغت على انتمائهم الطبقيّ.
ولكن أكثر ما عرَّض فانون للانتقاد، هو قناعته بالعُنْف كوسيلةٍ للتقدُّم الاجتماعيّ.
“فالعُنْف وحده، العُنْف الذي يلتزم به الشَّعْب، العُنْف الذي يُنَظِّمه ويبثه قادة القائمين به، هو الذي يجعل في إمكان الجماهير أن تفهم الحقائق الاجتماعيَّة ويعطيها مفتاح هذه الحقائق”. رَفَضَ فانون تكتيك غاندي وفَلْسَفة اللا عُنْف في صراع الهند مع الاسْتِعمَار البريطانيّ، واعتبره صراعًا غير أصيلٍ لرفضه العُنْف الذي جعله فانون شرطًا للتحرُّر الحقيقيّ وشفاءً لما يُعانيه أبناء المستعمرات من مُركَّب نقص وإحساس بالدُّونيَّة.
ويمكننا النَّظر لرؤيَة فانون هذه على اعتبارها نقيضًا لعملية الاستعمار ذاتها، فلكي يتمكَّن الأوربيون من التحوُّل إلى قوى استعماريَّة، استعملوا قدرًا هائلًا من العُنْف، وبرَّروا هذا العُنْف بأن الشُّعوب التي يستعمرونها هي من أجناسٍ أدنى منزلة، ولهذا فوفقًا لقانون الطبيعة الذي يجعل البقاء للأقوى فالطبيعيّ أن يقوموا بغزوهم وقهرهم واستعمار بلادهم، وكانت أُسطورة الرَّجُل الأبيض الذي حمل الحضارة إلى شُعُوبٍ بدائيَّة رغمًا عنها ويجرهم إلى التقدُّم الإنسانيّ مقيدين بالسلاسل، ولعكس آثار هذه العملية يجب انتهاج العُنْف في مواجهة المُسْتَعمِر لا السَّلميَّة التي تُزكيّ المهادنة والإحساس بالدُّونيَّة بالاحتكام إلى ضمير المُسْتَعمِر وعدالته.
ينظر منتقدو فرانز فانون إليه كداعيةٍ للعُنْف، بباعث الكراهية والعُنْصريَّة المضادة، بينما ينظر فانون للعُنْف الثَّوريّ ويبرِّره كوسيلةٍ للتطهُّر الاجتماعيّ وعلاج لعُصَابٍ جمعيّ سبَّبه الاسْتِعمَار، مما جعل الشُّعُوب المُسْتَعمَرة تشيع فيها دُونيَّة أخلاقيَّة تجعل من يَصِلون لمقاعد السُّلْطة لا يتورَّعون عن السرقة ونهب شُعُوبهم، كما كان “أسيادهم” المُستَعمِرون يفعلون، وربما تكون هنا نقطة التقاء فانون الماركسيّ مع الإسلاميين الذين يرفعون من قيمة الجهاد، لأنه يُخْرِج الناس من رِبْقَة عبوديَّة الدنيا ويُكْسِبهم الإحساس بالكرامة من خلال تَصَديهم للمُضْطَهِدين كأندادٍ لا يقلون عنهم قوة ولا عزيمة ويتفوقون عليهم بأنهم على جانب الصواب الأخلاقيّ في سعيهم نحو الحُرِّيَّة.
فكان انضمام فانون لمعسكر الثَّوْرة الجزائريَّة ذات السمت الإسلاميّ السَّاطع ونافح عنها وتولَّى الاشتراك في تحرِّير جريدة المجاهد صوت جبهة التحرِّير الجزائريَّة في تونس، واختير ممثلًا عن الثَّورة وسفيرًا لها في غانا ومالي، ونجا من محاولاتٍ فرنسيَّة عديدة لاختطافه واغتياله، لكنه لم ينج من المرض الذي فَتَّ في عضده سريعًا.
لم يمهل القدر فانون الذي أُصيب بسرطان الدم وتدهورت صحته بسرعةٍ، لتطوير أراءه وأفكاره اللافتة، ففي مطلع 1961 م لفظ فانون أنفاسه الأخيرة عن 36 عامًا فقط في مستشفى بواشنطون، ثُمَّ نَقَلَ الجزائريون جثمانه ليواريه التراب في مقبرة شهداء جيش التحرِّير الجزائريّ قبل أن يشهد إعلان استقلال الجزائر في العام التالي 1961م
وبقي لنا تراث فرانز فانون الفِكْريّ، الذي حتى يومنا هذا يستحق الالتفات والتأمُّل، فعندما يتحدَّث فانون عن “الرَّجُل الأبيض” لا يتحدَّث عن اللون، بل عن ثقافة لها سمات خاصة ما زالت ليومنا هذا مسيطرة، وعندما يتحدَّث عن “الزِنجيّ” لا يقصد اللون، بل عن وضعٍ اجتماعيّ وثقافيّ واقتصاديّ، ما زالت شُعُوبٌ كاملة أسيرة له، فمعركة التحرِّير أبعد ما تكون عن نهايتها.