تحقيق ما للإلحاد من مقولة.. هل رفْضُ الدين دليلٌ على عدم وجود الخالق؟
في ٤٥٠ صفحة من منشورات الجمل جاء كتاب (تحقيق ما للإلحاد من مقولة) لمؤلفه الباحث التونسي محمد المزوغي لينتصر لوجهة النظر الإلحادية، كما يقول الكاتب. ولكنّ المخيّب للآمال هو أن الكتاب ركّز في محتواه على نقد الأديان -الإبراهيمية على وجه الخصوص- و هدف إلى تبيان شرّها وخرافاتها و تناقضاتها متخذًا من ذلك كله منطلقًا ومسوغًا للقول بعدم وجود الإله الخالق.
لكن، كان حرِيًّا بالكاتب أن يضع له عنوانًا يشي بنقد الأديان عوض الانتصار للإلحاد، حيث أنّ الحجج التي ساقها في موضوع إثبات وإنكار وجود الخالق لا تتجاوز صفحات قليلة، بينما الغالب الأعظم منها كان في الهجوم على الإسلام والمسيحية وأحيانًا اليهودية بِسَوق مواضيع شتّى حول نقد الأديان كثر النقاش حولها، ولا جديد فيها مثل الحروب الدينية والاستعباد ولا عقلانية الإيمان والتعصّب.
الأمر الآخر المثير للدهشة أن يصرّح الكاتب أنّ تبنّيه للإلحاد نابع من الصورة التي عرضها اللاهوتيون والمتكلّمون عن صفات الخالق وإقراره أنّ تِلكُمُ الصفات غير عقلانية ولا إنسانية ومتعارضة بعضها مع بعض ثمّ يقفز باستنتاج أنّ ذلك دليل على بشرية الأديان ومن ثمّ عدم وجود الإله الخالق، أي أنّ عدم مقدرة الإنسان على وضع الأوصاف الخاصة بالخالق وعجزه عن استكناه طبيعته و عدم اتفاق الفلاسفة ورجال الدين على صفات الإله هو دليل قاطع على عدم وجوده.
الخلاصة التي يخرج بها قارئ الكتاب المنصف هي أنّ الكتاب في جوهره دعوة إلى نبذ الأديان والتخلّي عنها، وطرح الإلحاد المنكر للألوهية بديلًا عنها. وذلك واضح فيما نقله الكاتب عن أحد الفلاسفة فيما قاله بأنّ الاعتقاد بعدم وجود الله أكثر تشريفًا للخالق من نسبة الظلم والفظائع إليه.
فيما يلي استعراض مختصر لفصول الكتاب مع تعليق موجز على كلّ فصل.
مرافعة عن الإلحاد
في الفصل الأول، استعرض المؤلف الأفكار المسبقة عن الإلحاد وأبرزها النظرة الدونية من الناس والفلاسفة تجاه الملحدين وفكرة شقاء الإنسان دون الله.
– ثمّ تحت عنوان (لمَ الإلحاد؟) يستعرض مقولة فولتير عن أنّ الإلحاد نتيجة لاختلاف علماء اللاهوت (الكلام) في تعريف الله وصفاته، ويورد شواهد على ذلك من مؤلفات علماء الكلام المسلمين.
– في باب “الكتب المقدسة ينبوع الإلحاد” يستمرّ المؤلف في الإحالة إلى فولتير الذي هاجم المعجزات التوراتية والإنجيلية ناسبًا إياها إلا اللاعقل، وفَعَل المؤلف المِثل بالنسبة للقرآن ثمّ ذكر أنّ الأمر الثاني الذي تحويه الكتب الدينية هو العنف والتوحّش.
– في باب (اليقين الإيماني ضدّ الشكّ العقلاني)، قام بمقارنة موفقه بين يقين اللاهوتيين وشكّ الفلاسفة في تعريف الخالق.
– ثمّ يقوم الكاتب بتفنيد دعوى الإجماع على الألوهة ودعوى أنّ وجود الخالِق فطرة موجودة بداخل كلّ إنسان وذلك بالإحالة إلى الفيلسوف الفرنسي “بايل” ومنطلقه الأساسي في محاجّته هو وجود مجتمعات تؤمن بتعدد الآلهة.
– بعد ذلك، ناقش المؤلف عدم اتفاق الأديان والفلاسفة على تعريف الإله وصفاته حتى من داخل الدين الواحد واعتبر ذلك دليلًا على زيف الأديان ولاصدقيّتها، ولكن لم يوضّح علاقة ذلك بنفي وجود الإله، إذ أنّ وجود خالق صانع للكون كفكرة لا علاقة له بوصفنا وتصوّرنا لذلك الخالق والصانع.
– تحت عنوان (الإلحاد و الفضيلة) أعاد المؤلّف فكرة التحسين والتقبيح العقليين التي قال بها المعتزلة والتي اتّخذها ابن الراوندي لاحقًا حُجّةً لإنكار الأديان. وَذَكَر المؤلف أنّ الأخلاق الدينية هي أصلًا ميكيافيلية؛ همّها الأول هو إرضاء الخالق بعكس أخلاق الملحدين النابعة من العقل حصرًا. وههنا نقطتين كان حريًّا بالمؤلف أن يناقشهما: الأولى هي عن علاقة وجود الخالق بفساد الأخلاق الدينية كما يصفها، والثانية عن مبرّر حديثه عن “أخلاق الملحدين” بالجمع ووصفها بأنها نابعة من العقل وهو ما يتضمّن القول بوجود عقيدة إلحادية متكاملة يتبناها جميع الملحدين، وكما هو واضح فهذه مقولة مخالفة لما نراه من تعدّد مشارب ومسالك الملحدين وعدم اتّفاقهم واجتماعهم على غير إنكار وجود الخالق.
كيف فسدت الأديان؟
في الفصل الثاني تحت عنوان (فساد الأديان) نقرأ:
– تحت عنوان “بطلان النبوّة” يسرد المؤلف الاعتراضات ضدّ النبوة كما جاءت في كتاب (المطالب العلية) للفخر الرازي، وأبرزها: عدم احتياج الخالق إلى العبادات ولذلك فلا معنى من تعذيب الخلق على تركه، مخالفة المعجزات للسّنن الكونية والقوانين العقلية، كفاية العقل للوصول إلى الأحكام الخلقية وما يعنيه ذلك من انتفاء الحاجة إلى النبوة والرّسالات، الأوامر الدينية بقتل الكفّار وسلب أموالهم وديارهم، تمجيد الأنبياء لأنفسهم ونسبة ذلك إلى الله. المؤلّف يشنّ هنا حملة شعواء على الأديان ولكن كعادته لا يبيّن علاقة ذلك بإنكار وجود الخالق، والأشدّ من ذلك أنه يقتبس الاعتراضات من الرازي دون إيراد ردوده عليها ولا توجد أيّ إضافة جديدة من المؤلف هنا بل هو مجرّد عرض واقتباس.
– حروب الأنبياء:
هنا لوم وتقريع لا جديد فيه ضدّ الأديان التي ارتُكبت الحروب باسمها وتحت قيادة أنبيائها. الكاتب، كما هو واضح، يرفض الرأي القائل بأنّ نشوء الدين لا ينفصل عن أحداث التاريخ الجارية بما فيها من حروب، وسواء اتّفقنا في نسبة تلك الحروب إلى الدين أم لا فهذا ليس كافيًا لتقويض أسس الأديان عقليًا.
– تحت عنوان (وثتية الأديان) تمحورت الفكرة حول أنّ الأديان – الإبراهيمية كما يبدو من الاستدلالات- وصفت الخالق بما لا يليق به من النعوت ولذلك فإنّ القول بعدم وجوده أسلم للعقل من إلصاق تلك الأفعال والصفات الشنيعة به.
– لاهوت الطاغية: يقول الكاتب أنّ في الأديان حربٌ تدور رحاها بين الله و الشيطان والإنسان ثم يسوق كلامًا للاهوتيين مسلمين مبنية على فكرة أنّ ما يأمر به الله ويأذن فهو خير حتى لو كان في نظرنا من أشنع الشنائع، مثل تجويز فعل الله للشرور والقبائح عند الأشاعرة ويُستدل بآيات إغواء وإضلال الله للكفّار وختمه على قلوبهم، ويردّ، بل الأحرى، يرفض كلّ التأويلات التي قام بها المعتزلة لهذه الآيات لتتوافق مع أحكام العقول، وهذا الرفض لأجل إثبات التُّهَم بأنّ إله المسلمين طاغية يوجب الكفر على جماعة بقضائه وقدره ثم يعاقبهم ويعذبهم عليه.
– مكارم الأخلاق أم تخريب الأخلاق:
يقول الكاتب أنّ الأديان جاءت لإذلال الإنسان وتمريغ عقله في الحضيض، ثمّ يستعرض تاريخ المسيحية منذ استضعافها على يد الرومان حتى الحروب المذهبية ومحاكم التفتيش وتسلّط الكنيسة.
– شناعات المسلمين: الحروب الدينية والمذهبية والسبي والرّق والجزية وقتل المرتدّ وزواج القاصرات، كل هذه المواضيع التي ما فتئ المفكرون الإسلاميون يناقشونها منذ ظهور الاستشراق جاء المؤلف ليثبت شناعتها وبالتالي شناعة المسلمين ممهدًا لإطلاق مقولة: الإلحاد هو الحلّ!
– لعنة الأديان: تعميم ما سبق أعلاه على كل الأديان وإعادة تأكيد أنّ الاديان التوحيدية أشدّها خطرًا.
الدين والشقاء
– يستهلّ الفصل الثالث (شقاء المؤمنين) بعنوان فرعي هو “سعادة الإنسان دون الله” حيث يستعرض المؤلف كثيرًا من الأدبيات الإسلامية الزهدية الداعية إلى احتقار الدنيا وأدبيات أخرى تعتبر العلم الديني هو العلم الجدير بالتعلم وألّا أهمية لما سواه من ضروب المعرفة والبحث عن الحقيقة وإن كنّا نوافقه في خطأ هاتين الفكرتين فإننا لا نجد فيهما دافعًا قويًا لإسقاط الأديان كما يزعم المؤلف.
– رهان باسكال: ينص رهان الرياضي وعالم الاحتمالات الشهير باسكال على أنّ الإيمان بالله أحوط وهو أخف الضررين عند مقارنته بعدم الإيمان لأنّ عواقب الإيمان إن اتضح صدقه هي الفوز والنجاة في مقابل الهلاك والخسران في حالة عدم الإيمان. وقد تمّ نقد هذه الفكرة كثيرًا خلال القرون الثلاثة الماضية وقام الكاتب بإيراد بعض نقود فولتير، مثل أنّ المراهنة ليست مرادفة للحقيقة الموضوعية بل هي عزاء للنفس فقط.
– جحيم المؤمنين وجنة الملحدين: مقارنة براغماتية بين حياة المؤمن الذي يعيش حياة عبد في خوف دائم من سيّده – الله- وحياة الملحد الحرّ الذي لا يخشى شيئًا غيبيًا بل يعيش راضيًا عن نفسه. وقع الكاتب في ثلاثة أخطاء؛ فهو أوّلًا قسّم الناس إلى قسمين فقط هما مؤمنين دينيين وملحدين متجاهلًا اللادينيين، وهو ثانيًا عمّم صفة الحياة الرغدة على كلّ الملحدين والحياة التعيسة على كلّ المؤمنين، وهو ثالثًا أراد أن يفنّد حقيقة وجود الخالق من عدمه بناءً على النتائج العملية لكليهما.
– شقاء المسلمين: اتّكاءً على كتب التفسير والحديث ثم نقلًا من الإمام الغزالي، يسعى الكاتب إلى تقرير أنّ المسلمين يحلمون بالكوابيس بسبب خوفهم من الآخرة وأن الثقافة الإسلامية هي ثقافة تفكُّر دائم في العذاب والجحيم. هذا الكلام ينطبق على فئة غير يسيرة من المسلمين ولذلك فهذا سبب كافٍ من وجهة نظر الكاتب لترك هذا الدين.. إلى ماذا؟ إلى الإلحاد!
– مصير مرعب: نقد وهجوم على أفكار التراث عن عذاب القبر ونزع الروح من الجسد والحساب وجبرية القضاء والقدر. يحاكم المزوغي أتباع دين بأكمله من خلال كتابات الغزالي!
– الجحيم للجميع: إدانة للخطيئة الأولى في المسيحية التي يتم توارثها من الآباء إلى الأبناء. بعدها يعرج الكاتب على ذكر الغيبيات الدينية وأنها جميعًا غير عقلانية وفي مقدّمتها الاستعداد للموت وأنّ المؤمن يعيش حياته لا لغاية سوى الاستعداد للموت ولِما بعده عوضًا عن عيش حياته ويستشعر وجوده فيها.
محاولة لإثبات موقف الإلحاد
في الفصل الرابع بعنوان (تقرير الإلحاد) نجد الفصول التالية:
– الفلاسفة والألوهية: يتحدّث الكاتب عن التعارض بين الفلسفة والإيمان وكيف أنّ الإله الذي اعترف به مشاهير الفلاسفة يختلف عن إله الأديان في كثير من الأوصاف، كالخلق من عدم والعناية ومفارقة الطبيعة، ثم يستعرض هجوم علماء الكلام المسلمين على الفلاسفة ضاربًا مثالًا بهجوم ابن تيمية وابن خلدون والشهرستاني على الفلاسفة المشائيين والصوفيين. ثم يطالب المؤلف أن يكون الفلاسفة أكثر راديكالية في رفض تصور الإله و لا يكتفوا بنقد تصورات الأديان عنه بل عليهم أن ينكروا وجوده كذلك!
– ملحد بالقوة: يستعرض أفكار فولتير الذي كان يحتقر الدين والنقاشات التي جرت بينه وبين الماديين أمثال دولباخ وديدرو الذين عاتبا فولتير على عدم تصريحه بالإلحاد وعلى اعترافه بوجود قوة مطلقة وراء العالم، ولكن المؤلف يستطرد أن موقف فولتير من الدين المسيحي وإله المسيحيين كان حافزًا كبيرًا لانتشار الإلحاد.
– هداية المؤمنين: يعقد الكاتب مناظرة بين المؤمنين والماديين يخلص منها بالنتائج التالية:
١- كلا الفريقين يؤمنان بوجود مبدأ خالد مشروط بالحتمية ولكن نسبته إلى الطبيعة لا تتنافى مع القول بحتمية القوانين التي يخضع لها المبدأ العام بعكس نسبته إلى الإله.
٢- إنكار الإله ضامن لعدم اعتباطية خرق قوانين الكون.
٣- النسق الإلحادي هو الذي يعطي تفسيرًا عقلانيًا للشرور.
– جهل المصمم الذكي:
ينقل المؤلف رأي فيورباخ في أنّ فكرة الخلق من عدم أساسها سيكولوجي بحتة راجعة إلى أنانية الإنسان ورغبته في تسخير الطبيعة لإرادته وشهوته. ثمّ يصف نظرية التصميم الذكي بأنها سلاح خطابي ويورد أمثلة على دور الصدفة في الطبيعة والبيولوجيا وانتفاء الغائية مقتبسًا بعضًا من كتابات أرسطو الشاب في كتابه (الحث على الفلسفة). ثم يورد تعليقات وشروح ابن رشد وألبرتو الكبير وتوما الإكويني على أرسطو؛ فقد قام هؤلاء الفلاسفة بمحاولة إثبات – برأي الكاتب- انتفاء القصدية والغائية وراء الخلق، ثم اقتطع من الفخر الرازي أدلة الماديين في إنكارهم للألوهية متجاهلًا ردوده – الرازي- عليهم كالعادة، وبعدها ينتصر للملحدين بذكر وجود الاختلال والشرور في العالم محيلًا إلى اقتباس لشيشرون والفخر الرازي مرة ثانية. ثم يقوم بالإحالة إلى ديفيد هيوم في نفي العلية والسنخية وعدم وجود دليل تجريبي على أنّ عالمنا هو أحسن ما يمكن، ويقوم بمحاولة إثبات الصدفة ونشوء الكون المتناسق من الخواء واللاانتظام، ويصفه بأنه وُجد بسبب طفرة ويذكر “نصل أوكام” القائل بعدم إكثار العلل دون سبب ثم يعيد ذكر معضلة الشر الأبيقورية. وكما هو واضح فإنّ المؤلف هنا يورد سرديات تاريخية تمت مناقشتها كثيرًا ويعطيها صبغة القطعية واليقين وعدم الدحض.
– دولباخ أو الإلحاد للجميع:
يبدأ الكاتب بالأسف على العبارات اللاذعة التي وجَّهها بعض الفلاسفة نحو كتاب دولباخ (نظام الطبيعة)، ثم يورد فقرات من هذا الكتاب تتحدث عن أنّ فكرة الألوهية نشأت لحاجة الإنسان البدائي لتفسير أحداث الطبيعة، ثم يقول بأنّ الإله المتوهم أصبح لاحقًا طاغية ومتجبرًا ومحبًا لإذلال البشر وأن قدرة الله وعلمه يتنافيان مع حرية الإنسان ومعنى التكليف، وأنّ الإله يحب طقوس التقرب إليه والتذلل والخنوع.
– لاهوت التناقض .. تحطيم العقل: يبدأ بالحديث عن تعارض خيرية الله مع وجود الألم والشر، ثم عن تعارض حكمته في إعطاء الإنسان المقدرة على معصيته مع الحكمة من معاقبة الناس. ويصف الإله -حسب الأديان- بأنه متجبّر محبّ للانتقام والتعذيب، ثمّ يأتي بكلام إنشائي عام عن عدم وجود دليل دامغ لكل العقول على وجود الخالق.
– إفلاس التوفيقية: نقد لبرهان كانط الأخلاقي في إثبات وجود الخالق ثم عرض لمساقط كانط و آرائه بخصوص الحرب والمرأة والمساواة بين الناس، وكأن الكاتب يربط بين هذه الآراء وبين برهان كانط الأخلاقي.
– لاهوت الصمت: يقول الكاتب أن كل محاولات البرهنة على وجود الخالق ينطلق أصحابها من مقدمة إيمانية في داخلهم وأن وجود منكرين للخالق يقوم دليلًا على عدم قوة الأدلة ولو كانت معرفة وجود الخالق أمرًا عقليًا لكان حكرًا على الأذكياء فقط.
– عدم وجود الله .. البراهين: ذكر ستة براهين أهمها: ١- معضلة الشر ٢- التوق السيكولوجي لوجود الإله ٣- خِسّة ووضاعة الإنسان واستصغاره ونقصه.