الفردانية في الفكر الحديث
مدخل إلى الفردانية في الفكر الحديث
الفردانية Individuum تعني اشتقاقًا -من اللاتينية- الشيء الذي لا ينقسم ماديًا. والفرد في علم النفس مرادفٌ للشخص من جهة كونه متميزًا عن الآخرين بهويته ووحدته، أو من جهة كونه ذا صفاتٍ خاصّةٍ مختلفةٍ عن الصفات المشتركة بينه وبين أبناء جنسه. والفرد في علم الاجتماع هو الوحدة التي يتألّف منها المجتمع كالمواطن في الدولة.
وهناك فرق بين مفهوم “الفرد” ومفهوم الفردانية أو الفردية؛ فالفرد هو جزءٌ أحاديّ، أما الفردانية فهي سماتٌ خاصةٌ بالفرد لا تتكرّر لدى غيره، والفرد هو حامل الفردية؛ إنه كائنٌ أوّل، وخامةٌ يمكن إبراز ما بها من طاقة.
فمتى إذًا تظهر الفردية لدى الكائن الفرد؟ إنّها تظهر من خلال ممارسة الحرية وحين يدرك قواه الكامنة ويعمل على تنميتها.(١)
المعنى الاصطلاحي للفردانية “Individuality”
من الصعب إيجاد مفهومٍ جامعٍ لمصطلح الفردانية، ولكن في هذا المقال سنتناول الفردانية من حيث هي مبدأ سياسي اجتماعي؛ يضع الفرد مقابل الجماعة.
هناك من عرّف الفردانية بأنها “صورة الإنسان الذي يتميّز عن الآخرين أو الجماعة بطرق تفكيره وعلمه ونظرته للوجود، وأنّها حالةٌ من إن إعطاء الفرد سماتٍ وخصائصَ شخصيةٍ يتفرّد بها ويكتسب عبرها هويّتَه المميّزة، إلاّ أن الفردانية لاتعني من جهة أخرى العزلة أو التضاد مع ما هو اجتماعي؛ بل تعني أنّ الفرد يكتسب خصائص يتميّز فيها عن الآخرين في سياق التعاون والتكامل الاجتماعي ..” (٢)
إذًا الفردانية هي الحالة التي يكون بها الفرد كيانًا مستقلًا ومتفرّدًا عن الجماعات التي ينتمي إليها وقادرًا على اتخاذ قراراته استنادًا إلى إمكانياته الخاصّة وقدراته المستقلّة عن أفراد الجماعة الآخرين التي ينتمي إليها.
والفرد هنا، وفقًا لمفهوم الفردانية؛ هو كائنٌ إنسانيٌّ يمتلك وحدته الداخلية، ويؤدي وظيفته كنسق ونظام متكامل، ويمتلك استقلاليةً خاصةً في الوسط الذي ينتمي إليه. (٣)
الفردانية والجماعية
إنّ المبالغة في الروح الجماعية أفقدت الفردية الإنسانية حريّتها وتميّزها، ومعظم الحريّات قد قُضي عليها في المهد باسم الحفاظ على وحدة المجتمع وإرادته العامة.
وبصدد التطوّر الاجتماعي تشكّلت الفردانية، وتحديدًا في قلب الحياة الاجتماعية للمجتمعات الحديثة والمعاصرة.
وعلى خلاف ذلك توجد الجمعية “collectivness” والتي تعد سمةً أساسيةً من سمات المجتمع البدائيّ حيث يكون الفرد صورةً عن الجماعة التي ينتمي إليها.
فالفردانية على ذلك “مؤشِّرٌ حضاريٌّ يجسّد حالة التطوّر التي استطاع المجمتع أن يحقّقها ثقافيًا واقتصاديًا واجتماعياً” (٤)
ولا تعني الفردانية الأنانية أو النرجسية أو العزلة عن المجتمع؛ فالسمات الخاصة بكل فرد إنمّا هي تشكّل منطلقًا لازدهار الجماعة ككُلّ، وهنا لا يتعارض الخاصّ مع العام الاجتماعي؛ بل يتكاملان فيما بينهما؛ فالإنسان كائنٌ اجتماعيٌّ بطبعه ولا يمكنه أن يكون خلاف ذلك.
وعلى هذا فإن الجانب الفردي في الجماعة لا يتعارض مع الجانب الاجتماعي؛ بل إنّ التوافق بين الفرد والجماعة يشكّل منطلق النهوض للمجتمعات سواءً القديمة أو المعاصرة.
وعبّر دوركايم عن ذلك بقوله: “إن في كلّ منّا كائنان: كائنٌ فرديٌّ يعبّر عن منظومة الميول إلى الفردانية التي تخصّ الفرد دون أن يشترك فيها مع الجماعة، وكائنٌ اجتماعيٌّ يمثّل جميع الحالات والاتجاهات والقيم التي يشترك فيها الفرد مع الجماعة“.
وقد بلغ تقدير الفردانية والحرص على الإعلاء من شأن الفرد الحدَّ الأقصى في المجتمعات المعاصرة؛ فهي تتضمّن منظومةً من الحقوق ونسقًا من السلوكات والمكاسب التي تعزّز قيمة الفرد وكرامته وحريته، وهي عطاءات تؤكّد أولوية الفرد على الجماعة، وليس هدفها خدمة الجماعة، وإنما يكون ذلك متربتًا عليها.
“إن الروح الجماعية هي في النهاية نتاجٌ وعطاءٌ لتفاعل الأفراد الذين يشكّلونها، وبالتالي فإنّ المجتمع يكون قويًّا إذا كانت مكوّناته الفردانية قويّةً ومتماسكة“. (٥)
وإنّ عطاء كلِّ فردٍ يغني المجتمع ويثريه؛ وبخاصّةٍ إذا استثمر المجتمع هذا التفرّد والتنوّع، وعلى النقيض فإنّ المجتمعات التي لا تحترم خصوصية أفرادها وتفرض عليهم واجباتٍ ومتطلّباتٍ تتجاوز سعة طاقتهم أو لا تتّفق مع آدميتهم –بكل ما نتطوي عليه الكلمة– ستواجه التخلّف والجمود على مستوياتٍ مختلفة.
“الفردانية أصبحت في المجتمعات المعاصرة حتميةً تاريخيةً وحضاريةً تُعادِل من حيث المبدأ حتمية الحضارة نفسها؛ ذلك أنّها تتجه نحو ازدهار الإنسان ونموّ القدرات الطبيعية الخلّاقة يديه”.(٦)
البعد الفلسفي والتاريخي
في الفكر الحديث والمعاصر؛ كانت الفردانية والشخصانية عبارةً عن محاكمةٍ فلسفيةٍ للمذاهب العقلية والدكتاتورية بأشكالها المختلفة؛ الليبرالية والاشتراكية على حدٍّ سواء، فقد تمرّدت الفلسفة على ذاتها الموضوعية لتبحث في حياة الفرد وتكون أكثر ارتباطًا بالواقع.
ومنذ ظهور الفردانية والذاتية في الفلسفة الوجودية وفلسفة الحياة والفلسفة البرجماتية؛ بدأ عهدٌ جديدٌ وثورةٌ من التفكير، وبدأ الاتجاه نحو الذات؛ بعد أن استُغرقَت الموضوعية بكلِّ أشكالها.
ومع شارل رينوفييه مؤسس الشخصانية أو الفردانية؛ بدأت فلسفة جديدة موازية للفردانية ومجاوزة لها وللجماعية معًا، ولكنّه تجاوزٌ يؤكد على الذات الإنسانية الحرّة والفاعلة في التاريخ.
وبنضال الإنسان ظهرت النزعة الليبرالية التي دعت إلى تحرير الإنسان من كل القيود الشمولية، ولكن نتائجها لم تكن كذلك، فقد تحوّل الإنسان إلى جزءٍ من آلةٍ اقتصاديةٍ وتقنيةٍ وعسكريةٍ وبيروقراطيةٍ ضخمة؛ تضاءلت فيها حريّته واغترب عمّا ينتج، إذ ارتدت كل منتجاته المادية والفكرية لتفتك به.
وجاءت الاشتراكية محاوِلةً نقد المجتمع الرأسمالي، وإخراج الإنسان من حالة الاغتراب والقهر والعبودية، إلّا أنها وصلت إلى النتيجة السابقة نفسها؛ إذ صهرت الأفراد في بوتقة واحدة؛ وهي الدولة والحزب الواحد، وجمّدت حياة الأفراد وقواهم الإبداعية لتجعل معيار كل عملٍ متميّزٍ معبّرًا عن الواقع الموضوعي، وعن إرادة الكل.
ولهذا كانت الصرخة الثورية المتمرّدة لمعظم تيارات الفلسفة المعاصرة؛ تعلن الخطر وتهاجم كلَّ نزعةٍ جماعية، وتعلن انحيازها ثانيًا للحياة وللفردانية التي هي هدف الحياة وقيمتها. (٧)
حدث لمفهوم الفردانية –بطبيعة الحال– العديد من التطوّرات والتغيّرات عن التصوّر الذي كان لها في القرنين التاسع عشر والعشرين، وبلغت المفاهيم الجديدة حدّ التعارض والتناقض أحيانًا، والتي أثرت في مفهوم الديمقراطية وما يدعى بالليبرالية الجديدة، وذلك يتعذر حصره في سطور قليلة، وإنما يقتضي كثيرًا من البحث والتمحيص في الحقبة الجديدة وخصائصها ومستّجداتها.
مصادر ومراجع: (١،٤،٧) الفردانية في الفكر الفلسفي المعاصر، د. حسن الكحلاني (٢) لويس دوما، المفهوم الحديث للفردانية، باريس ١٩٧٨/ Louis Dument,le concept moderne de l'individu, Paris 1978 (٣) مفهوم الفردانية في الفكر الفلسفي المعاصر- د. نورة عابد، مخبر الفلسفة وتاريخها- جامعة وهران (٥) اميل دوركايم، التربية والمجتمع، ترجمة علي وطفة (٦) بول توليش، الشجاعة من أجل الوجود، مؤسسة شباب الجامعة، الأسكندرية