المِصعَد والقِطار يغيران وجه العالم
في الميكانيك الكلاسيكي يُعد الفضاء و الزمان مُطلقان أي أنهما لا يُعانيان تأثير من قبل المادة أو الطاقة ولا العكس. ولكُل من الفضاء والزمان وجودًا موضوعيًا مُستقلًا عن المادة، فلو كانت هُناك ساعة على كوكب الأرض وواحدة على كوب زُحل وواحدة في أطراف مجرتنا وأخرى في تخوم الكون العميق كُلها ستدق دقة واحدة كساعة برلين.
بعد فشل تجربة الكَشف عن الأثير -الذي كانَ بمثابة الوسط الناقل للضوء– والذي أُريد به قياس سرعة الأرض في الأثير الساكن من قبل مايكلسون ومورلي، دخل العُلماء في حيرة كبيرة. وقادت تلك التجربة العالِم لورنتس بوضع تحويلاته التي حاول بها المُحافظة على التوفيق بين التجربة وأُسس الميكانيك الكلاسيكي التي أرساها نيوتن.
ظَلَّ الأمر والحال هذه إلى أن جاء آينشتاين بورقته البحثية سنة 1905، وألغى وجود الأثير ثُم أعطى مبدأين هُما:
1. مبدأ النسبية: يجب أن تكون قوانين الفيزياء (قوانين الميكانيك والكهربائية والثرموداينمك) هي نفسها ثابتة في جميع المراجع القصورية Inertial Frame.
علمًا أن الإطار المرجعي هو أن تقيس نفسك بثلاث محاور (X,Y,Z) أما الإطار المرجعي القصوري (المرجع القصور أو العطالي (النيوتني)) هو الإطار الذي يُطيع القانون الأول لنيوتن، أي أنه مرجع يتحرك بسرعة ثابتة وبدون تعجيل أو تغيير اتجاه.
2. ثبات سرعةالضوء: سرعة الضوء في الفراغ لها نفس القيمة وهي3*10 أُس 8 م/ث في جميع المراجع القصورية (أطر الإسناد) بغض النظر عن سرعة الراصد أو سرعة المصدر الذي ينبعث منه ضوء.
إن معنى كلمة النسبية التي جاء بها آينشتاين هو أن الموقف الواحد قد يُشاهَد ويُقاس بأشكال وأرقام مختلفة، بالاعتماد على مكان وحركة الناظر. حيث انتزع آينشتاين في نظريته تلك صورة الزمان المطلق التي آمن بها كل الناس، والتي رسخها نيوتن في الفيزياء بشكل جوهري، وقال بكلمه يقينية: “أن الزمن يعتمد على وضع الراصد”.
فالزمان المُطلق لا وجود له بل هو رهن الحركة، والمكان المُطلق لا وجود له بل هو رهن الأشياء التي تحتل مكانًا. فكانت نتائج نظرية النسبية الخاصة مَهولة ومُدهِشة. فقد بينت نتائج النسبية أن الأجسام المتحركة بسرعة كبيرة جدًا تعاني من انكماش في اتجاه حركتها بالنسبة للراصد المتوقف وكذلك يمتد (يتباطأ) زَمنِها وتزداد كُتلتِها وثمة مُعادلاتٍ ثلاث وضعت لذلك.
ولإثبات تباطؤ الزمن نظريًا، تخيّل آينشتاين أن هُناك قطارًا يسير بسرعة كبيرة جدًا، ويفترض أن في إحدى عربات القطار شخصًا جالسًا وآخر يقف على رصيف المحطة ينتظر، وفي سقف العربة هناك مصباح ضوء، وطبقًا لافتراض النظرية النسبية الخاصة فإن سرعة هذا الضوء ثابتة في الفراغ أو في مرجع عطالي (قصوري). فالشخص الجالس في العربة سيرى الضوء يضرب أرض العربة بخط مُستقيم، بينما الواقف في المحطّة سيرى مسير الضوء مُنحنيًا بعكس اتجاه سير القطار. ومن خلال تصوّر مُثلّث قائم الزاوية يصنعهُ مسير الضوء المُنحني، ومن خلال قوانين فيثاغورس للمثلث يمكن التوصّل إلى أن المسافة التي يقطعها الضوء بحسب الضلع الكبير هي أكبر من المسافة التي يقطعها الضوء في الضلع الصغير، وحيث أن المسافة تساوي السرعة مضروبة في الزمن d=v×t، لذا سيكون الزمن الوارد في المسافتين اللتين يقطعهما الضوء مختلفًا لدى من هو جالس في العربة ومن هو واقف خارجها، وأن هناك تباطؤًا في هذا الزمن لدى الأول مقارنة بالثاني.
وفجّر آينشتاين بفكرته هذه علمًا جديدًا ورائعًا، ثُم أعطى معادلات وتنبّؤات لاقت نجاحًا كبيرًا فيما بعد، ومن تلك النجاحات تجارب عديدة، وفي الغالب كانتا أشهر تجربتين هُما تجربة جُسيم الميون والساعة الذريّة. فأما الميون فهو جُسيم كمّي يتولّد من الشعاع الكوني عندما يصطدم بذرات العناصر في طبقات الجو العليا فتنتج بيونات تتحلل بدورها إلى ميونات سالبة وموجبة، ومن ثم سرعان ما تتحلل هذه إلى جسيمات أخرى. لكن الميون يتحلّل بسرعة كبيرة جدًا و تساوي تقريبًا جُزء من مليون جزء من الثانية. وبحساب سرعة تحلّل الميون نجد أنه من المُفترض أن يتحلّل قبل أن يصل لسطح الأرض، لكن الكشوفات بيّنت عكس ذلك، فهو موجود تحت سطح الأرض. ولا تفسير غير أن الطاقة العاليّة التي أكسبها له الشعاع الكوني جعلهُ يتحرّك بسرعة كبيرة ممّا أطال في زمن بقاءه إلى أن وصل للأرض، والحسابات الرياضية النسبية طابقت التجارب في هذا الصدد.
أما التجربة الثانية فهي القياسات المعتمدة على الساعة الذرية، حيث تمّت المقارنة بين ساعتين ذريتين إحداهما ثابتة والأخرى متحركة داخل طائرة نفاثة، ولوحظَ أن الساعة الموجودة في الطائرة المتحرّكة قد قاست زمنًاً أقل قليلًا جدًا من تلك الثابتة على الأرض، لذا اعتبر ذلك شاهدًا على تباطؤ الزمن.
سمّيت النسبية الخاصّة بهذا الاسم؛ لأنها تدرس سرعة الأجسام العالية لكن المُنتظمة غير الخاضعة لأي تأثير (أي المراجع القصوريّة). كانت النظرية النسبية الخاصة نفيًا جدليًا لميكانيك نيوتن الكلاسيكي، لأنها إذ حلّت محلها حافظت عليها كحالة خاصة حدّية للأجسام التي تتحرك بسرعة بطيئة جدًا مقارنة بسرعة الضوء، ووسعت مجال عمل تحويلات لورنتس التي كانت بالأصل تصلح على الإلكتروديناميك فقط، فأصبحت تشمل جميع حقول الفيزياء. لكن واجهتْ آينشتاين مُشكلتان هُما:
أولاً: النسبية الخاصة تقول أن أي تفاعل فيزيائي لا يُمكن أن ينتشر بسرعة أكبر من سرعة الضوء (بالأحرى الأشعة الكهرطيسية) يعني ذلك أنَّ لا معلومة ولا إشارة ولا حركة ولا تأثير يُمكن لهُ أن يتخطى سرعة الضوء .وذلك يتعارض مع تصوّر نيوتن للجاذبية، حيثُ عدّها الأخير كقوة تعمل لحظيًا (بلا زمن) بين الأجسام.
ثانيًا: النسبية الخاصة تنطبق على السرعات المُنتظمة فقط.
فحاول أن يحلَّ الإشكالين بضربة واحدة وبتصوّر واحد، فتخيّل مُجدّدًا مَصعدًا فيه رجلًا ماسكًا بيده شيئًا ما (فلنفرضها كرة قدم). افترض أن هذا المصعد ساكن في الفضاء بدون أي تأثير عليه، فعندما يترك الرجل كُرة القدم من يده ستبقى طائرة في المصعد لأنه لا توجد جاذبية باتجاه مُعين تشدّها له.
ولو كان المصعد على الأرض لسقطت الكُرة للأسفل. لكن عبقرية آينشتاين جعلته يفترض أن هذا المصعد الساكن في الفضاء بدأ يتسارع للأعلى، فماذا سيحصل؟ من المؤكد أن الأجسام الطائرة فيه ستسقط، وهذا هو مصير كرة القدم فستسقط للأسفل ولو كان تسارع المصعد للأعلى بنفس عجلة الجاذبية (9.8 م\ثا تربيع)فإن الكرة ستسقط للأسفل بنفس سرعة سقوطها لو كان المصعد على الأرض. فاستنتج أينشتاين بأن التسارع والجاذبية لهما نفس العمل وهذا ما أسماه بتكافؤ التسارع والجاذبيّة. ومن خلال ذلك المبدأ العقلي النظري الذي توصل له آينشتاين فإن الجاذبية والتسارع لهما نفس التأثيرات على الأجسام لكنهما شيئان مُختلفان. إذن ظواهر الجاذبية بانت في المصعد المُتسارِع، وهنا فكّر آينشتاين بأنه لو استطاع وصف الجاذبية فإنه سيتمكّن من تعميم (نسبيته الخاصّة) إلى عامة بشمول الحركة المُتسارعة والمُنتظمة (التي كانت موصوفة أصلًا في نسبيته الخاصّة). لكن ما هي الجاذبيّة؟
تسائل آينشتاين السؤال المهم، لو اختفت الشمس من المجموعة الشمسية متى “تشعر” الكواكب باختفاء الشمس وتخرج من مساراتها البيضويّة، بمعنى ما هي سرعة انتشار الجاذبية في الفضاء؟
نيوتن كان يُجيب بأن سرعة الجاذبية آنيّة (أي تنتقل بزمن صفر). آينشتاين قال إن هذا يُخالف المبدأ الأول للنسبية الخاصّة. فالمفترض بالضوء هو أسرع شيء مُتحرّك بالكون، فكيف تسبقه الجاذبيّة!
لذا تصوّر آينشتاين بأن الجاذبية أو تأثيرها سينتقل لو اختفت الشمس بسرعة الضوء وأن الأرض ستتحسّس باختفاء الشمس بعد 8 دقائق أي بنفس سرعة وصول الضوء لها.
مالذي ينقل الجاذبية من الشمس للأرض إذن؟ هل هناك وسط ينقلها؟
تصوّر آينشتاين مُجدّدًا بأن الفضاء نفسه هو المسؤول عن الجاذبيّة. وأن الفضاء يتموّج أيضًا وينقل موجات الجاذبيّة، ليس هذا وحسب بل أن الجاذبية تنشأ بفعل الأجسام نتيجة التشويه الذي تُمارسه للفضاء. فالكُتل أو الطاقات تقوم بتشويه الفضاء أو المكان (الأمر شبيه بحنيه) وأن الزمان شيء مُلازم للمكان. فلو كانت هُناك كُتلتان بالفضاء إحداهما أكبر من الأُخرى فإن الفضاء سيكون أكثر تشويهًا للكتلة الكبيرة، لذلك ستقع الكُتلة الصغيرة في دائرة الحقل الفضائي المُشوّه للأولى وهذا ما نُسميه بالجذب.
إذن الجاذبية ليست قوّة شبحية تربط الأشياء ببعضها البعض وإنما هي مكان مُشوّه يجمع بين جسمين أو أكثر في منطقة مُحدّدة، وتشوّه المكان كان بفعل الأجسام تلك، وتجتمع الأجسام في الحقل الجذبوي المُشوّه بشكل كبير بفعل الكتلة الأكبر. إذن، تمَّ تعميم مبدأ النسبية الغاليلي (القصوري) بحيث لم يبقى مُقتصرًا على المراجع القصورية، بل يصح على أي مرجع مهما كان نوع حركته (أكان مُتسارعًا أم مُتباطئًا أو مُغيرًا لاتجاه حركته). وبحسب النسبية العامة التي بيّناها للتو هناك تكافؤ بين الثقالة والسرعة،فقوانينهما واحدة دون اختلاف، وأنه لا فرق بين تعرض الجسم لجاذبية ضخمة، وتعرضه لسرعة كبيرة، فكلاهُما سيُغيّران من سرعته مقدارًا أو اتجاهًا وكذلك الأمر بالنسبة للجاذبيّة، فالكُتلة الأكبر تحوز على تشوّه زمكاني أكبر والعكس صحيح. فـ “المادة تُخبِر الزمكان كيف ينحني، والمكان يُخبر المادة كيف تتحرك”.