رواية “الربع الأخير من القمر”: عندما أحبت العجوز الجبل
أرواح قلقة تريد أن تهرب لتتجرد من كل شيء تستمر في ملاحقته بدون وعي وسبب حقيقي؛ ففي ذلك العالم المتسارع الذي لا يمنحنا أي فرصة للانفصال عنه، يلجأ البعض إلى الطبيعة والبساطة في رحابها؛ وذلك اعتقادا بأن العالم ينزع الكثير من آدميتنا في شكله الحالي.
تمكن هؤلاء من أن يعيشوا في عزلة اختيارية عن تلك الحياة بصورتها الحالية وبكل مايندرج فيها تحت مفهوم الاستهلاك مثل طائفة الأميش التي تنتشر في كندا والولايات المتحدة.
والتي أسسها جاكوب أمان في القرن ال 17؛ والذين يعيشون حتى الآن منقطعي الصلة بالعالم فوفقًا لمعتقداتهم الدينية والاجتماعية هم يرفضون كل مظاهر الترف والاستهلاك وتلك الأفكار التي توارثونها عبر الأجيال والتي أغلبها دينية وجدوا فيها سعادتهم ولكنها سعادة خالية من أي وسيلة للتقدم والتطور.
والصورة المصغرة لتلك الحياة قد يتبناه البعض حاليا من خلال مفهوم المينيمالزم والذي ظهر مؤخرًا؛ ويقصد به القليل الذي تكتفي به احتياجك، واللجوء للطبيعة والرفض لأي نوع من الاستهلاك السائد أو التقليلية، والبساطة من حيث نمط الحياة. البعض قد يتبناه في جوانب حياته كلها أو جزء منها، ولكن قد تجد نفسك تعيش بعض مفاهيمه في رواية أو كتاب حتى إن كاتبه قد أثار ذلك فيك دون قصد منه.
فرواية “الربع الأخير من القمر” للكاتبة “تشيه جيان” تعطينا صورة للعزلة الخالية من الصراعات وذلك من خلال عدة فصول تحمل أسماءً مثل الظهيرة ونصف القمر؛ حيث أن الرواية في مجملها تعد بمثابة فيلم تسجيلي يُتابِع بهدوء حياة سكان الجبل ونهر الأرجون فتثري روحك بمعتقدات ولغة القومية الأيونيكية الصينية؛ والتي تعطينا الكاتبة قليل من مفرداتها في عدة صفحات أحيانا لتثير فضولنا.
والصوت الوحيد في الرواية هي تلك العجوز التسعينية غير معروفة الاسم، ولكن في صحبتها نجد حكايات كثيرة على مدى عمرها الطويل وكأنها جدتك التي تحبها؛ تمرر حكاياتها عن الطبيعة والبشر بذاكرة يقظة ولغة بسيطة شاعرية مسالمة كما أن اختيارها للحكايات غير متوقع؛ كأنه كلما نبضت الطبيعة بمظاهرها، نبض قلبها بحكاية عن شخصية أو حدث كما أننا ندرك أن هناك المخفي عنا في القصة كاختفاء البعض من تلك القبيلة؛ فبحسب وعيها وذاكرتها تتوارد مشاعرها والأحداث.
تقول العجوز وهي آخر زعيمة من قوم إيونيكية في الصين: ” إنني امرأة لا تجيد سرد الحكايات إلا أنني في تلك اللحظة التي اسمع فيها صوت قطرات المطر وأرى فيها النيران المتراقصة تنتابني رغبة عارمة في الحديث الى أحدهم“.
تحكي العجوز ذكرياتها منذ أن كانت طفلة نشأت في تلك القومية التي جعلت لها طريقتها الخاصة في تلقيها للحب والزواج والأحداث العادية ففي عزلتها تلك والتصاقها بالطبيعة نجدها تتخلص من المشاعر القاسية التي تمر على نفسها؛ فتتقبل الموت والمرض والفقدان.
وهي لا تحكي عن نفسها بقدر ما وضعت مكانة لكل شخص في رواياتها؛ فأن نتعرف على تلك القومية أهم من التعمق في الذاتية؛ لذلك كانت شخصيات الرواية بسيطة، فلا نعرف أحلامهم ومخاوفهم الخاصة حيث بالكاد تهتم الرواية بداخل الشخصية وإن جاءت كانت ممزوجة بالمظاهر حولها من الطبيعة لتوقعك في الإحساس بها أكثر من تلك المشاعر الذاتية.
الكل غادر الجبل وبقيت هي وانتساور الحفيد. حيث الذكريات البعيدة جدًا والحنين إليها وهو الأمر الذي خلق حكايات في منتهى الدفء.
كانت إيفولينا المرأة ذات اللسان اللاذع أول من شاركت العجوز في تناول القصص والحكايات عن القبيلة كما أنها أيضا أمهر نسائهم في الصيد؛ وذلك لأنها تحب اللحم الطازج؛ فكثيرًا ما تضطر النساء في غياب الرجال لممارسة الصيد.
كما أنهم لا يرفضون أن يكون الكاهن امرأة والكهنة بشكل عام يتمتعون بمكانة كبيرة لديهم وليست لكل القوميات كهنة ولكنها مكانة خطيرة.. فالكاهنة نيخاو والتي عليها إنقاذ البشر عندما تجد الموت يحوم حول أحدٍ منهم؛ كانت تدفع ثمنًا لذلك فقدان العديد من أطفالها.
نيخاو أتت بعد الكاهن نيدو هو زعيم القبيلة في طفولة العجوز وكانت تناديه بايجادوما أي العم الأكبر وهو الذي كان يتحرك بخفة حين يقرع طبلة الآلهة عندما يأتي الأفراد من القبائل الأخرى باحثين عنه؛ بغية شفاء المرضى.
أما في حياتهم العادية فكانت النساء تمارسن أعمال منزلية، مثل: دبغ الجلود وتدخين اللحم المجفف وصناعة السلال والقوارب من لحاء شجر البتولا.
وكان هناك من يأتوا إلى المعسكر لعقد صفقات لتبادل الجلود مقابل الدخان والخمر والسكر والشاي والدواء ويطلق على هؤلاء التجار كلمة “أندا” منهم “رولينسكي” وهو أندا روسي يأتي كل عام إلى القبيلة ويقوم بقص الحكايات عن القبائل الأخرى مثل أي قبيلة تعرضت غزلانها لهجوم الذئاب وأي قبيلة اصطادت فئران رمادية أكثر مثلًا.
وعندما يأتي يقومون برقصة “واريتشي” -وتعني رقصة البجعة- وقد قام أجدادهم باختراع تلك الرقصة عرفانًا بجميل البجع في إنقاذهم من الأعداء.
وليس البجع فقط له تلك المكانة؛ فالأحداث بشكل كبير في الرواية تتحرك في إطار هيمنة الطبيعة على حياة القومية ومنها كانت تأتي القصص والأساطير لتربط حوادث حياتهم وتؤكد تلك السطوة عليهم.
فمثلًا أيوان المعروف ببراعته في الصيد ما إن وجد ثعلبين يتحدثان معه بلغة البشر أثناء صيدهم حتى أطلق سراحهما لذلك عند موته جاءت فتاتان تحملان بعض الملامح الغريبة عن القبيلة.. وما إن انتهى ذلك العزاء حتى اختفت الفتاتين، أما إيفولينا فعندما افتقدت دامالا وجدت روحها في ثعبان يتحدث معها.
وكانت الطبيعة تهديهم الغزلان الجديدة لمواساتهم في المفقودين، ولكن أيضًا ولادة الغزلان المشوهة أو الطقس السيء لهو إشارة نذير وشؤم.
وللغزلان مكانة كبرى في حياتهم فهي بجانب تحمل مشقة الترحال فكل جزء من جسدها يعد ثروة يمتلكونها.
لاشك أن الغزلان المروضة هي هبة الآلهة لنا فدونها ما كنا نحن؛ فعلى الرغم من أنها أخذت مني أحد أقربائي إلا أني ما زلت أحبها وعدم رؤية عينيها يشبه عدم رؤية الشمس في النهار أو النجوم في الليل ما يجعل المرء يطلق تنهيدة من أعمق أعماق القلب.
قسوة الطبيعة:
عانت العجوز من فقدان الكثير سواءً بسبب البرد القارس في أماكن معيشتهم أو الصيد فابنها “ويكتيه” قد قَتَل أخيه “انداور” عن طريق الخطأ أثناء الصيد و”والواجيا” زوجها فقدته عندما كان يحاول أن يدافع عنهم من هجوم الدب.
أما زوجها لاجيدا الذي أحبته لأنه كان يذكرها بنوع الحب بين أبيها وأمها دامالا الطيبة الرقيقة فقد كان يغني لها كثيرا. “وفي تلك الليلة أيضًا غنى لي بصوت منخفض أغنية من تأليفه. كانت أغانيه تختلف عن أغاني الآلهة التي تغنيها نيخاو فقد كانت أغنية دافئة”.
ولكنها فقدته أيضًا بسبب البرد القارس وكانت العجوز تحتفظ بذكراهم من خلال كيس مصنوع من جلد الغزال تضع به الأشياء التي تحبها وهي الأشياء التي تركها أشخاص قد رحلوا، لذلك تعد تلك الأشياء مثل الأصدقاء بالنسبة لها.
أيضا كانت محبة للرسم حيث؛ تقوم بفرك الطين لتصنع منه شرائط وتتركها تجف لتستخدمها كأقلام للرسم.
وقد كانت أول صورة ترسمها صورة لجسد رجل؛ رأسه تشبه لينيكه وذراعاه وقدماه تشبهان الكاهن نيدو أما صدره العريض فقد كان يشبه صدر لاجيدا.
“بعد أن انتهيت من الرسم على الصخور فاضت في قلبي مياه الربيع الدافئة تلك ثانية كما لو أن تلك الألوان قد امتزجت في قلبي المصاب بفقر الدم لتجعله يفيض مرة أخرى بالحيوية والقوة هذا القلب بلا شك يشبه نبتة الزهر والتي ستتفتح فيها الأزهار ثانية”.
كذلك علمت حفيدتها “اليانا” الرسم وقد كانت أول طالبة من قومية الأيوينكية التي تعيش على رعي الغزلان تلتحق بكلية الفنون الجميلة وهو ما جذب انتباه العالم الخارجي إليهم؛ وكانت لوحاتها بعد أن تركت المدينة المملة تتجه إلى استخدام شعر وجلد الحيوانات، أما لوحتها الأخيرة والتي استغرقت منها سنتين، كانت أهم لوحاتها التي وَضعت فيها روح قوميتهم وعاداتها ولكن أليانا رحلت بشكل مفاجئ عن الحياة بعد أن انتهت منها.
الرحيل:
كانت العجوز ترفض الترحال فالجبل والبشر والذكريات هي الأشياء التي تستطيع من خلالها أن تولي ظهرها للعالم وحداثته فهى ترفض التعليم وترفض الطب تجد أن الطبيعة هي النجاة الحقيقية وهي ما يمكن أن تمد إليها كل وسيلة للشفاء لإنقاذها من أي خطر حتى لو كان مجرد الاستماع إليها.
فمع استمرار الرواية نفقد الأشخاص تدريجيا ويحل آخرون فالكثيرون منهم تبتلعهم الطبيعة على نحو غير متوقع ولكن يبقى فقط انتساور بعقله وإمكانايته الضئيلة في وسط حياة مهددة من حوله.
فهل سيأتي آخرون ليكونوا معه أم سنتقطع الصلة بالجبل؟ وهل من الممكن أن الحياة بين الطبيعة على قدر بساطتها هي عميقة الأثر في الروح كما كانت الحياة في الجبل بجانب نهر الأرجون؟