إرادة عدم المعرفة بقلم: سلافوي جيجك -مترجم-
حتى الآن لا يزال يحدونا بعض الأمل أن تكون البلدان التي ترتبط بالاشتراكية – نوعًا ما ــ أفضل حالًا في احتوائها للجائحة، ولا أعني بكلامي هذا البلاد التي ما زال الحزب الشيوعي يملك زمام السلطة فيها وحسب، مثل الصين (بالرغم من أن تايوان غير الشيوعية أفضل حالًا في التعامل مع الجائحة من الصين برمتها)، وفيتنام، وكوبا، بل أيضًا البلدان ذات التقاليد الاشتراكية الديمقراطية الراسخة مثل الدول الإسكندنافية (وحتى الدول الإسكندنافية؛ فقد باتت معرضة للانهيار قريبًا). هذا وتكرر القصة نفسها مرة تلو الأخرى: لا تنفك دولة ما أن تظن أنها على أهبة الاستعداد للتعامل مع الوباء، وأنها قد نجحت في احتواء الفيروس، قبل أن تضرب بها الجائحة مرة أخرى.
ويمكننا القول بأن نيوزيلاندا كانت هي الاستثناء الوحيد لتلك القاعدة. حتى أنا – ماركسي عجوز يميل للامبالاة – قد تابعت أعداد المصابين كل يوم أملًا في ألا تكون هناك حالات جديدة في نيوزيلندا. ومع ذلك- في 11 أغسطس- فقد سجلت نيوزيلندا أربع حالات إصابة جديدة بكوفيد-١٩بعد مضي ١٠٢ يومًا دون أي إصابات جديدة. والعبرة هنا واضحة: إن نيوزيلندا الخيالية الخاصة بنا ــ الملاذ الآمن بدون كوفيد-١٩ــ غير موجودة. أتمنى الأفضل لنيوزيلندا، إحدى الدول المفضلة بالنسبة لي، وأنا أدعم تمامًا كل الإجراءات التي تتخذها لاحتواء الفيروس على المدى القصير. ولكن ــ ومع مرور الوقت ــ فقد أصبح من الواضح أن الطريق الوحيد للنجاح في مجابهة الوباء على المدى البعيد هو انتهاج مقاربة عالمية موحدة.
لقد أصبح رد الفعل السائد على ظهور حالات جديدة – متى بدا الوضع تحت السيطرة بشكل ظاهري – ليس الفزع، بل هو تقبل الوباء: حتى مع تزايد أعداد المصابين والمتوفين ؛ فقد كان النهج السائد للعديد من الأماكن هو التطبيع مع الوضع الراهن. وقد حذرت منظمة الصحة العالمية من خطر»فتور الاستجابة» نظرًا لمختلف الضغوط الاجتماعية والاقتصادية على البلاد ويمكننا رؤية هذا الفتور بالفعل على الصفحات الأولى لوسائل الإعلام الكبيرة لدينا، وفي الأخبار التلفزيونية: التقارير حول كوفيد-١٩غالبًا ما تسبقها أخبار أخرى (بشأن الانتخابات المتنازع عليها في بيلاروسيا، وحول إخفاق برشلونة ضد بايرن، وعن كامالا هاريس، … إلخ). ولكن هناك شيء مزيف حول هذا التحول في الاهتمام: يبدو الأمر كما لو كنا نتعامل مع محاولة يائسة لتجنب الصدمة الحقيقية، وهي أن كوفيد-19 لايزال حقيقة قائمة. وأيضًا فإنه يصاحب هذا الفتور الغريب احتجاجات وأشكال أخرى من العنف الاجتماعي. وينبئنا عنوان التقرير الأساسي والفرعي في صحيفة الجارديان بكل شيء: “توقع ازدياد الاحتجاجات على مستوى العالم؛ لأن كوفيد-١٩ يسبب عدم الاستقرار”.توصل تحليل جديد إلى أن الصدمة الاقتصادية جِراء الجائحة المتفشية إلى جانب المظالم القائمة تجعل الانتفاضات العامة أمرًا حتميًا”.ويحذر الصليب الأحمر من هجرات بأعداد كبيرة بعد كوفيد، وهذا سبب آخر لفوضى مُحتملة. وعلاوة على ذلك، فإن العنوان الرئيسي والفرعي لخبر جديد لصحيفة الجارديان ــ”عملية الصحن الفارغ، يجعل – شي جين بينغ- من الطعام الفائض هدفه التالي. ويُطلب من رواد المطعم أن يطلبوا طبقًا واحدًا أقل من عدد الأشخاص “ــ وهذا مؤشر واضح على أن الخوف من مجاعة محتملة يمكن أن يظهر، ليس فقط في الصين، حيث تم تدمير كميات هائلة من المنتجات الزراعية بسبب الجراد والقوارض، أو بسبب أنها تُركت لتتعفن في الحقول من باكستان والهند إلى فرنسا وألمانيا.
والسؤال هنا أليس من الواضح اليوم أن الجائحة المتفشية مصحوبة بسلسلة من التهديدات الأخرى؟ إذن يجب علينا أن نفعل ما يطلق عليه النازيون: الحشد الكامل، ولكن بالطبع في اتجاه معاكس تمامًا للنازيين. وربما كان ج. فيشته أول من أشار إلى هذا الاتجاه في كتابه ” الدولة التجارية المغلقة ١٨٠٠”. ولكن ليس هناك ما يدعو للاستغراب في أن يتم تجاهل كتابه في الغالب بكياسة، أو رفضه تمامًا؛ باعتباره شمولي الأصل. وقد صنف كارل بوبر فيشته بأنه من ضمن أعداء “المجتمع المفتوح”. وكان أول من ينتقد فيشته على هذا المنوال هو هيجل، والذي يسخر من فكرته عن الدولة التي تتحكم بالكامل في تصرفات وتحركات مواطنيها. (على الرغم من أنه ينبغي للمرء أن يضيف إلى هذا، أن مثل هذه السيطرة مع التكنولوجيا الرقمية في مجتمعاتنا، لا يمكن تحقيقها بسهوله فحسب، بل إنها ضرورية في بعض الأحيان، كما هو الحال في جائحة كوفيد-١٩ العالمية). إذن، لماذا يجب علينا أن نعيد – بشجاعة – النظر في نظريات المفكرين المناهضين لليبرالية في المجتمع المغلق بداية من أفلاطون في مقابل أرسطو؟
لقد أصبح مشروع فيشته لإعادة تسييس الاقتصاد – في الاقتصاد الليبرالي المعاصر ــ أكثر واقعية من أي وقت مضى. وكما يبين دييغو فورسارو:
]يقدم فيشته[ مفهومًا ينهض بدور بالغ الأهمية في وجود نقد ” للحرية الليبرالية” من ناحية؛ ويسمح بفهم نقدي للغز”الظرف النيوليبرالي” المعاصر من ناحية أخرى. هذا ويدمر نظام الأناركية التجارية أولية الإنسان على الأشياء، والسياسة على الاقتصاد، وينتج ما أطلق عليه كارل شيمت: “عدم التسييس”، أي تجريف السياسة واختزالها في محض سيطرة اقتصادية. وإذا ما أعدنا صياغة كارل فون كلاوزفيتز المعروفة؛ فإن السياسة قد حٌطَ من قيمتها، وأعيد تشكيلها؛ لتصبح مجرد استمرار للاقتصاد بوسائل أخرى./…/ وهذا هو الظرف المميت والحتمي الذي سقطت فيه أوروبا: قارة قائمة كدولة تجارية ضخمة، حيث تدفع قوانين الاقتصاد الناس إلى بؤس العيش، وتفكك كل أشكال التضامن الاجتماعي./…/ فعندما تهزم دولة ما الهيمنة الاقتصادية؛ تُجبر الدول الأخرى على تقويض هذه الهيمنة؛ لكي تستعيد التوازن، وإذا لم يتمكنوا من القيام بذلك على حساب الدولة المهيمنة؛ فإنهم سيوجهون جهودهم – حتمًا – نحو الدول الأضعف. ويقود هذا السياق الذي ينطوي على إمكان كبير بنشوب نزاع ناتج عن عبادة المال- يقود كل دولة إلى محاولة – بلا هوادة -للتمدد والاتساع إلى ما هو أبعد من حدودها؛ وذلك لكي تصبح قوة اقتصادية: في هذه العملية، تكون جميع الدول خاسرة، خاصة الدول الأضعف. كما اقترح ديفيد هارفي، إن العولمة هي الشكل المرن ما بعد الحداثي للإمبريالية، أو بمعنى آخر هي النقيض تمامًا لكونية حقوق الإنسان المطمئنة الهادفة للسلام، كما يطرحها الفكر الواحد الصائب ذوالصواب السياسي.
وباختصار، يشير النقد القوي لفيشته إلى الأناركية التجارية حيث تخدم الدولة السوق فقط، وتضمن الشروط اللازمة لاستمرار وجودها. ولا يعتمد نقد فيشته على رأي سياسي معين، ولكنه مبني بشكل مباشر على المعارضة الفلسفية بين المثالية والدوغماتية. والحرية التي نتمتع بها – وفقًا للأناركية الليبرالية في التجارة -هي حرية التصرف بأنانية (كما تحددها طبيعتنا) في عالم السوق، وهو نظام فعلي نعتمد عليه، حيث نحتاج إلى إعادة تسييس الاقتصاد، وحيث ينبغي أن تخضع الحياة الاقتصادية للمراقبة والتنظيم من خلال القرارات الحرة للمجتمع المحلي، ولا تُدار بالتعاملات المستترة الفوضوية بين قوى الأسواق المقبولة باعتبارها ضرورة فعلية. وأعيد صياغة قول كانط: يريد فيشته أن يوقظنا من السُبات الدوغماتي للحياة الاجتماعية، حيث تكون حريتنا مقيدة بآليات السوق الفعلية. لقد رأى فيشته بوضوح أن الحرية الليبرالية تولد عدم المساواة وعدم حرية الأغلبية، وأيضًا تولد المنافسة الوحشية والاستعمار في العلاقات الدولية. وقد لا نتفق مع الإجراءات التي اقترحها فيشته، ولكن رأيه في هذه المسألة – تحديدًا- وثيق الصلة بالموضوع.
لنتذكر فقط المفاجأة السيئة الجديدة من العاصمة الكبيرة: “تواجه الحكومات في جميع أنحاء العالم – بما في ذلك المملكة المتحدة – موجة من الدعاوى القضائية من الشركات الأجنبية التي تشتكي من تضرر أرباحها؛ بسبب الجائحة. وباختصار، يجب على الدولة أي (دافعي الضرائب) أن تدفع للشركات الكبرى التي خسرت أرباحها منذ أن أدت الجائحة إلى خفض معدلات الربح؛ حيث أن الدولة تتحمل المسؤولية لضمان الشروط اللازمة لنفس معدلات الربح، وإذا تمت هذه الدعاوى القضائية بالفعل؛ فإنها ستكون مجرد امتداد منطقي للتنظيم القانوني منذ ما يقرب من عقد من الزمان؛ حيث تقرر أنه إذا استثمرت شركة عالمية في دولة ما، وانتخبت حكومة يسارية بعد هذا الاستثمار في الدولة ورُفعت الضرائب؛ فيمكن للشركة- حينئذ- مقاضاة الحكومة؛ لأن الظروف التي تم بموجبها الاستثمار تغيرت إلى الأسوأ (قامت شركة سويدية بمحاكمة ألمانيا لهذا السبب). الآن الدولة مسؤولة حتى لو تأثر الربح بسبب كارثة صحية، لا علاقة لها بسياسة الدولة… وإذا لم تتدخل بلادنا بقوة بصدد هذا الأمر؛ فسوف يتبين لنا بوضوح عودة الهمجية الرأسمالية.
تزامنًا مع هذا، فإن الضغوط التي تدفع المرء لتجاهل الآثار الكاملة لجائحة كوفيد-١٩ ليست مجرد ضغوط اجتماعية- اقتصادية، بل هناك علامات على أننا ببساطة نستسلم لهذه الضغوط. في يوم السبت الأول من أغسطس ٢٠٢٠، تظاهر ما يصل إلى 30 ألف شخص بمن فيهم الليبراليون ونشطاء مناهضون للتطعيم في برلين للاحتجاج على تعليمات احتواء فيروس كورونا في ألمانيا، وكان الحشد عبارة عن مزيج من مجموعات الهيبيز والشعبويين اليمينين، وعلى حد تعبير بعض المعلقين، كان ” الريغي و بيجيدا” ( بيجيدا هو حزب شعبوي ألماني متطرف مناهض للهجرة) استهزأ الكثيرون بالتوجيهات الخاصة بارتداء الأقنعة والتباعد الاجتماعي، حيث اتهموا الحكومة بـ “سرقة حريتنا”. ورفعوا لافتات محلية الصنع عليها شعارات مثل: “كورونا، إنذار كاذب” و “نحن مجبرون على ارتداء كمامة” و “دفاع طبيعي بدلًا من التطعيم” و “نحن الموجة الثانية”. ومن بين الشعارات التي رفعوها: إن نظرية المؤامرة الحقيقية الوحيدة هي فكرة انتشار جائحة كوفيد-١٩.
اقتبس أحد المتحدثين من رواية الأمير الصغير ل سانت إكسوبيري: ” لا يستطيع المرء الرؤية بوضوح إلا بقلبه”. ويرمز “القلب” هنا إلى الأيدلوجيا في أنقى صورها، لكل المواقف المتأصلة والفطرية تجاه حياتنا اليومية: “تبرهن الجائحة على أن الفصل بين الأفراد ليس أقل خيالية من الفصل بين الجسد والعالم، فنحن نخطو للعالم بأقدامنا، ونتداركه بأيدينا ونتحدث عنه بأفواهنا. ولذلك فإن الطريقة الصحيحة للتعامل مع هذه الجائحة هي طريقة – بالضرورة- غير طبيعية”. إننا نواجه هنا الفجوة القديمة بين العلم وخبرتنا اليومية، ولكن يمكن القول إن هذه الفجوة وصلت إلى الحد الأقصى.
اختارت نيكول باريا أسينجو “بناء حالة طبيعية جديدة” (Construction of a New Normality) كعنوان لكتابها القصير (الذي لم ينشر بعد) عن كوفيد-١٩. ويجب أن يُفسر هذا العنوان بأقوى معنى ممكن: لم تحطم جائحة كوفيد-١٩ الرعاية الصحية، والاقتصاد والعلاقات السياسية والاجتماعية فقط، فضلًا عن توازننا العقلي؛ بل لقد أدت إلى شيء أكثر راديكالية، والذي لا يمكن الوصول إليه إلا بالفلسفة. لقد هددت الجائحة مفهومنا عن “الحياة الطبيعية” وهو مصطلح ينبغي علينا أن نعطيه كل ثقله. ويمثل مصطلح الاعتيادية Normality ما أطلق عليه لاكان: ” الآخر الأكبر”: النظام الرمزي، وبوجود شبكة من القواعد والممارسات التي لا تعمل على بناء حياتنا النفسية فحسب، بل وأيضًا الطريقة التي نتعامل بها مع ما نختبره كواقع .
ويجب علينا هنا أن نطبق مثال الفكر التجاوزي Transcendental Thought: فما نختبره على أنه الواقع هو ليس ببساطة شيئًا موجودًا بالخارج”، من المنتظر أن نكتشفه؛ بل إنه يحدث عن طريق كوننا الرمزي. وعلى سبيل المثال: في أواخر العصور الوسطى في أوروبا، تم اختبار “الواقع” على أنه يتخلله قوى روحية، وكان يُنظر إلى الظواهر الطبيعية على أنها حاملة لمعنى خفي، وكان الكون يُرى آنذاك ككائن حي يسيطر عليه ذكاء أعلى، وبالتالي فإن المعنى في العصر الحديث ذاتي؛ ولكن “الحقيقة الموضوعية” هي آلية تتبع القوانين الطبيعية ونحن البشر فقط من نُسقط عليها المعنى.
يصف فوكو في كتابه “تاريخ الجنون” جانبًا آخر من هذا التحول: حالة الجنون المتغيرة، حتى في عصر النهضة، كان الجنون يُعتبر شيئًا روحيًا (حيازة الأرواح المقدسة أو الشريره)، وهو أمر يجب التحقق من معناه السري، بينما مع الكلاسيكية العقلانية، أصبح الجنون عملية فسيولوجية في الجسم، على غرار الأمراض الأخرى، وبالتالي يتم علاجه بطريقة طبية بحتة (ولهذا السبب ظهرت عيادات الطب النفسي). يصور فوكو في كتابه ” نظام الأشياء” تحولًا لاحقًا من العقلانية المنهجية الكلاسيكية إلى نظرية التطور الإنساني والتاريخانية، والتي تغطي كلًا من: داروين وماركس. وهذه التحولات في المعرفة ليست مجرد تغييرات في إدراكنا الذاتي للواقع، وإذا تصورناها على هذا النحو؛ فإننا نعتمد بالفعل على مفهوم معين للواقع محدد تاريخيًا. بل إنهم يحددون بدلًا من ذلك كيف نتصور الواقع ونتعامل معه بفاعلية.
يرى جورج لوكاس أن الطبيعة نفسها هي فئة تاريخية.ويتغير فهمنا الأساسي لما يمكن اعتباره “طبيعة” مع الفترات التاريخية العظيمة: في القرن السابع عشر الاستبدادي، تظهر الطبيعة كنظام هرمي للأنواع والسلالات؛ وفي القرن التاسع عشر الديناميكي الذي اتسم بالمنافسة الرأسمالية، ظهرت الطبيعة كموقع للنضال التطوري من أجل البقاء (من المعروف أن داروين اخترع نظريته عن طريق نقل رؤى مالتوس إلى الطبيعة). وفي القرن العشرين، كان يُنظر إلى الطبيعة كقاعدة عامة من خلال عدسات نظرية النظام؛ ولكن في العقود الأخيرة – وبعد انهيار دولة الرفاهية المركزية- أصبح من الشائع إجراء مقارنة بين التحول إلى الديناميكية الشعرية الذاتية والتنظيم الذاتي للعمليات الطبيعية، والانتقال إلى أشكال جديدة من الديناميكيات الرأسمالية.
لماذا إذًا نحتاج إلى التحليل النفسي هنا؟ لماذا لا نعتمد على الفلسفة فحسب؟ ليس فقط لأن الجائحة تٌسبب انهيارات عقلية واسعة النطاق وأمراض نفسية أخرى، وكما أوضح لاكان: إن الفئات الإكلينيكية الأساسية لفرويد (الهستيريا، العصاب الوسواسي، الانحراف، جنون العظمة،…إلخ) هي – في نفس الوقت – فئات وجودية خارقة للطبيعة، وهو ما أطلق عليه هيدجر: أشكال الكشف عن العالم، وعلى سبيل المثال: إن مرض العصاب الوسواسي ليس سمة من سمات حياتنا النفسية، بل إنه رؤية محددة لكيفية انتمائنا للواقع. وعلى نفس النحو، فإن السؤال الخاص بالهستيريا يتلخص في نمط من الشك في “طبيعتنا” التي يحددها رمز السيد المهيمن، وأيضًا كما تستلزم البارانويا رؤية للواقع يسيطر عليها متلاعب خفي يضطهدنا ويسيطر علينا.
اقترح باريا- أسنجو وهانت – مؤخرًا- تفسير لجائحة كوفيد-١٩ من خلال عدسة بنية الأحلام كما أوضحها فرويد (بقايا يومية، محتوى الأحلام، شكلها الواضح، الرغبة اللاواعية للحلم، إلخ). يقع الاختلاف الأساسي هنا بين محتوى الحلم والرغبة اللاواعية الظاهرة في الحلم، والتي تكون مجرد تشويش لمحتوى الحلم (ما يطلق عليه فرويد “أفكار الحلم”)، والذي يترجم إلى بنية الحلم الواضح والذي نتج تمامًا عن المحتوى اللاواعي للحلم. وهذا يدل على أن السر الحقيقي للحلم ليس محتواه الخفي (أفكار الحلم)، ولكن بنية الحلم نفسه:
“أفكار الأحلام الكامنة هي المادة التي تحول عمل الأحلام إلى الحلم الواضح. / … / لا يقيد عمل الحلم نفسه أبدًا بترجمة هذه الأفكار إلى نمط تعبيري قديم أو رجعي مألوف لك، وبالإضافة إلى ذلك، فإن الأمر يتطلب بانتظام حيازة شيء آخر، وهو ليس جزءًا من الأفكار الكامنة في اليوم السابق، ولكنه القوة الدافعة الحقيقية لبناء الحلم. هذه الإضافة التي لا غنى عنها هي الرغبة اللاواعية بنفس القدر في تحقيق محتوى الحلم بشكله الجديد، وبالتالي قد يكون الحلم أي شيء بقدر ما تأخذ فقط في الاعتبار الأفكار التي يمثلها فقط، أي التحذير، النية، الإعداد، وما إلى ذلك؛ ولكنه دائمًا تحقيق الرغبة اللاواعية، وإذا كنت تعتبرها نتاج عمل الحلم؛ فهي كذلك” (١)
هذا وتتلخص الفكرة الأساسية التي نشرها فرويد في ” الثلاثي”: فكر الحلم الكامن، محتوى الحلم الواضح، و الرغبة اللاواعية. وهذه الرؤية تحد من نطاق ــ أو بالأحرى تُضعف بشكل مباشر ــ النموذج الهرمينوطيقي لتفسير الأحلام (الطريق من محتوى الحلم الواضح إلى معناه الخفي، فكر الحلم الكامن). وعمل الحلم ليس فقط عملية إخفاء “المعنى الحقيقي” للحلم: جوهر الحلم الحقيقي، الرغبة اللاواعية، فهو لا يدون نفسه إلا من خلال عملية الإخفاء هذه، لذلك فإنه في اللحظة التي نعيد فيها ترجمة محتوى الحلم إلى فكر الحلم المُعبر عنه، نفقد ” قوة الدافع الحقيقي” للحلم. وباختصار، إن عملية الإخفاء هي التي تدون في الحلم سره الحقيقي، ولذلك فإنه ينبغي على المرء أن يعكس المفهوم النمطي في اختراق عمق أساس الحلم، وإن الرغبة “الخفية” تقع في الفجوة بين فكر الحلم الكامن ومحتوى الحلم الواضح.
ربما تساعدنا المقارنة مع الكون الرقمي، ولكن هل التمييز بين الرغبة اللاواعية للحلم و(الوعي المسبق في أفضل تقدير) وأفكار الحلم لا يشبه التمييز بين الإنترنت المظلم والخفي (الدارك ويب والديب ويب)؟ إن المرء يحتاج إلى رمز خاص للوصول للإنترنت العميق (مثل: كلمة المرور لعنوان بريد إلكتروني). إن الإنترنت المظلم أكثر صعوبة للوصول إليه، فالمرء يحتاج إلى برامج خاصة حتى لتحديد موقع على الإنترنت العميق، وعلى سبيل المثال: المواقع ذاتها- وليس الوصول إليها فحسب- أصبحت سرية، إن الإنترنت العميق هو اللاوعي الخاص بالعالم الرقمي. وبالمثل: فإن مجموعة الخصومات والأزمات التي تعد خلفية جائحة كوفيد-١٩ هي (الإنترنت العميق)، والتي يمكن الوصول إليها من خلال التحليل الاجتماعي البسيط، في حين أن الكارثة الوجودية المجاوزة للطبيعة التي تسببت فيها الجائحة هي (الإنترنت المظلم)، وهو مكان معظمنا لا علم لنا بوجوده.
تمثل حالة أخرى نفس التمييز الذي نشهده بين الجرائم البسيطة التي تخالف القوانين الاجتماعية والجرائم التي تُرتكب بواسطة الدولة نفسها في مكافحة الجريمة. الجرائم هي الإنترنت العميق للمجتمع في حين أن الجرائم المرتكبة من قبل أجهزة الدولة في معركتها لمكافحة الجريمة هي ( الإنترنت المظلم) للمجتمع، (مثل: السيطرة غير القانونية على الأفراد واضطهادهم )، شيء خفي، وهذا إذا اعتمدنا فقط على التعارض بين القانون وانتهاكه. وبالتالي فإن سؤال مشكلة اللاوعي الاجتماعي هو: هل هناك بقعة ضرورية للجريمة (اللاشرعية) التي تتمسك بسلطة القانون في حد ذاتها، وليس فقط كخطأ عرضي في حكم القانون، ولكن لحظته التأسيسية؟
ولكن – ومرة أخرى- يبقى السؤال: ما علاقة كل هذا بجائحة كوفيد-١٩؟ فرضيتي هي: أنه يمكننا بسهولة تحديد موقع “الثلاثي” نفسه من الجائحة كحقيقة اجتماعية. إن كورونا بحد ذاته هو “نص الحلم الواضح”، النقطة المحورية لوسائل الإعلام لدينا، ما نتحدث عنه جميعًا (وما نحلم به): ليس مجرد ظاهرة حقيقية، بل إنه مادة للروابط الخيالية، للأحلام والمخاوف. واليوم هو الدلالة الرئيسية (The Master Signifier) ولكن على حد تعبير كلاوديو ماجريس فإنه “طاغية أفكارنا. فهو مثل كل الطغاة، يريد ألا نتحدث عن أي شيء غيره”. وكما ذكرنا سابقًا، شهدنا مؤخرًا تحولًا إلى الأخبار الأخرى، ولكن هذا التحول يبدو مزيفًا، وتبقى الجائحة الدلالة الرئيسية الحقيقية. وتم تحديد الدلالة الرئيسية (The Master Signifier) بطريقة حتمية من خلال سلسلة كاملة من حقائق وعمليات الحياة الواقعية المتصلة (فرسان الرؤيا) التي تٌكون “محتوى الحلم”: ليس فقط حقيقة الأزمة الصحية، ولكن أيضًا المشاكل البيئية (الاحتباس الحراري، آثار تلوث البحار والتعدين، وما إلى ذلك) والأزمة الاقتصادية (البطالة وغيرها حتى خطر المجاعة الجماعية).
وهذه موجة جديدة من الاضطرابات الاجتماعية والاحتجاجات التي تضع العديد من البلدان على حافة الحرب الأهلية، والصراعات الدولية التي قد تتحول بسهولة إلى حرب كبرى جديدة، أو بطبيعة الحال إلى أزمات الحياة النفسية. وباختصار، فإن الجائحة كانت بمثابة المُفجر، الذي أدى إلى نشوء الصراعات التي كانت موجودة بالفعل في مجتمعاتنا. ولكن فرضيتي الأخرى هي أن التفاعل بين جائحة كوفيد-١٩ والأسباب الاجتماعية التي تحدد هذا الواقع ليست كل شيء. وهناك مستوى ثالث في العمل هنا (وهو ما يقابل بشكل غامض الصدمة الحقيقية، “الرغبة اللاواعية ” للحلم) وهذه هي الأزمة الوجودية التي أحدثتها الجائحة، والتي تقلل من شأن إحداثيات قدرتنا الأساسية للوصول إلى الواقع، والتي تتجاوز إلى حد كبير ” الأزمة النفسية” المعتادة.
يبدو أنه في وقت مثل عصرنا هذا عندما يهددنا الفيروس جميعًا، كان من المفترض أن يكون الموقف السائد هو الرغبة في المعرفة، والرغبة في الفهم الكلي لعمل الفيروس من أجل السيطرة عليه بنجاح والحد من انتشاره. ومع ذلك، فإن ما نشهده هو نسخة من الرغبة في عدم المعرفة بالكثير عنه؛ لأن هذه المعرفة سوف تحد وتُقيد أسلوب حياتنا اليومية.
نحن نتعامل هنا مع شيء كان – لفترة طويلة- جزءًا من تقاليد الكنيسة الكاثوليكية التي أصرّت مع ظهور العلم الحديث، على أنه سيكون من الأفضل لنا ألا نعرف بعض الأشياء. نجد صدى لهذا الموقف حتى عند كانط ، المناصر العظيم للتنوير، والذي كتب في مقدمة الطبعة الثانية لكتابه “نقد العقل الخالص” أنه كان عليه أن “يلغي المعرفة لتوفير حيز للإيمان؛ لأن الإيمان وحده هو القادر على إنقاذ حريتنا و استقلالنا الأخلاقي. واليوم فإن العلوم المعرفية أدت إلى نفس المعضلة، إذا فرض علم الدماغ الاستنتاج بأنه لا توجد إرادة حرة؛ فما الذي قد يفعله هذا باستقلالنا الأخلاقي؟ يتبع يورجن هابرماس هذا الفِكر أيضًا حيث أنه مع نشوء احتمالات التدخل في علم الوراثة الحيوية؛ فقد بات من المحتمل أن نتمكن من الوصول إلى الجينوم البشري، تتغير الأنواع بحرية وتعيد تعريف نفسها وإحداثياتها الخاصة. وهذا الاحتمال يحرر البشرية فعليًا من محدودية الأنواع، ومن استعباد الجنس البشري لِلْجين الأناني، ولكن هذا التحرر له ثمن:
” مع التدخلات في الإرث الجيني للإنسان؛ فإن الهيمنة على الطبيعة تتحول إلى فعل السيطرة على الذات، وهو ما من شأنه أن يغير فهمنا الأخلاقي الشامل للذات، و يزعج- كذلك- الظروف الضرورية لأجل حياة مستقلة وفهم أخلاقي عالمي”. (٢)
كيف علينا إذًا أن نستجيب لهذا التهديد؟ يرى هابرماس: أنه مادامت تْعد نتائج العلم بمثابة تهديد (المفهوم السائد) لاستقلاليتنا وحريتنا؛ فإنه يتعين على المرء أن يحد من العلم. والثمن الذي ندفعه مقابل هذا الحل هو الانقسام التام بين العلم والأخلاق ( اعرف جيدًا، ما يزعمه العلم ولكن رغم ذلك، ومن أجل الحفاظ على (مظهر)استقلاليتي؛ فأنا اختار أن أتجاهله وأدعي عدم المعرفة). وهنا تكمن المفارقة العجيبة حيث شارك الفيلسوف المعاصر التنويري هابرماس في تأليف كتاب مع الكاردينال جوزيف راتزيجر ( والذي أصبح فيما بعد البابا بيندكت السادس عشر، المحافظ جدًا) عن جدلية العلمانية (٣)، حيث يؤيد كل منهما ــ على الرغم من اختلافهما ــ فرضية أننا نعيش في عصر “ما بعد العلمانية”. حيث أصبح من الواضح أن مزاعم العلم لا بد أن تكون محدودة كي لا تُهدد حرية الإنسان وكرامته. وأولئك الذين يتجاهلون النطاق الحقيقي للجائحة يتصرفون على نحو مماثل، فبما أن المعرفة المُفصلة والدقيقة عن الجائحة قد تؤدي إلى اتخاذ تدابير تشكل تهديداً لفكرتنا عن حياة كريمة؛ فمن الأفضل أن نعمل وكأنه لا شيء خطير يحدث. دع العلماء يبحثون عن اللقاح، ولكن عليهم، بخلاف ذلك، تركنا وحدنا لنعيش حياتنا بالطريقة التي اعتدنا عليها…
وهذا هو الخيار الذي يتعين علينا جميعًا اتخاذه: هل سنستسلم لإغراء إرادة عدم المعرفة، أم أننا على استعداد للتفكير حقًا في أن جائحة كوفيد- ١٩ ليست فقط مشكلة صحية كيميائية بيولوجية، ولكن أيضًا باعتباره أمرًا متأصلًا في مكانتنا الإنسانية المركبة الشاملة في الطبيعة وفي علاقتنا الاجتماعية والأيديولوجية؟ وقد يتضمن هذا القرار إدراك: أن علينا التصرف “بشكل غير طبيعي” وبناء حالة طبيعية جديدة.
نرشح لك/ فنُّ العيش: الفلسفة في زمن الكورونا
ملاحظات: [1] Sigmund Freud, Introductory Lectures on Psychoanalysis, Harmondsworth: Penguin Books 1973, p. 261–62. [2] Quoted from Thorsten Jantschek, “Ein ausgezehrter Hase,” Die Zeit, 5 July 2001, Feuilleton, p. 26. [3] See Juergen Habermas and Joseph Ratzinger, Dialektik der Saekuralisierung , Freiburg: Herder Verlag 2011.
المصدر:
Zizek, Slavoj. “The Will Not to Know”. The Philosophical Salon, 24 August 2020.