لماذا يجب علينا أن نتذكر رفاعة الطهطاوي ؟
أنت تعرف بالتأكيد اسم رفاعة الطهطاوي، ولكن ماذا تعرف عن أفكار الرجل الذي يُعتبر رمزًا للمثقفين في عصره؛ منتصف القرن التاسع عشر الذي يعد عصر التنوير المصري؟
كان رفاعة الطهطاوي الذي وُلد في أكتوبر 1801م قد اتخذتْ حياته مسارًا مختلفًا عن رجالات عائلته التي اشتهرت بالقضاة الشرعيين والشيوخ الأزهريين عندما عُيِّنَ كإمام في الجيش النظامي الذي أنشأه محمد علي، ثم إرساله وهو في الرابعة والعشرين من عمره الى فرنسا إمامًا وواعظًا لبعثة من أربعين طالبًا أُرسلوا لدراسة اللغات والعلوم الأوربية؛ ليتحول إلى نموذج لرواد التنوير في هذا العصر، الذّين جمعوا بين الأصول الثقافية الإسلامية العربية والاطلاع العميق على الثقافة الأوربية؛ فلمع نجمه خاصة في عهد إسماعيل الذي شهد صحوة كبرى قام فيها البرلمان والمطالبات بحكم دستوري وإقرار مبدأ مسئولية الحكومة أمام نواب الشعب، والذي تولي فيه رفاعة رئاسة قلم الترجمة و مجلة روضة المدارس و أنتج أهم كتبه: (المرشد الأمين للبنات والبنين)، و(نهاية الإيجاز في تاريخ ساكن الحجاز)، والكتاب الذي نعتمد عليه في هذا المقال؛ لأنه يوضح طبيعة فكره، ويعتبر مرآة لعصره وموقفه من أهم القضايا الفكرية والاجتماعية والتي للمفارقة لاتزال حية، ومحل نظر ليومنا هذا، والكتاب الذي أعنيه هو: (مباهج الألباب المصرية في مناهج الآداب العصرية).
والملاحظة الأولى في آراء رفاعة الطهطاوي أنه وإن كان على عادة أهل الشرق الإسلامي يوقّر الحاكم ويظهر احترامه، فعلى الرغم من أن عباس الأول قد نفاه إلى السودان من غير جريرة ولا ذنب إلّا أنه لا يكاد يذكره هو أو غيره من أبناء محمد علي إلا بكل احترام وتقدير، ولكنه في الوقت نفسه كان يعي تمامًا مفهوم شرعية الحكم القائمة على سيادة القوانين، والعلاقة التعاقدية بين الحاكم والمحكومين؛ فيقول:
“وقد تأسست الممالك؛ لحفظ حقوق الرعايا بالتسوية في الأحكام والحرية، وصيانة النفس والمال والعِرض على موجب أحكام شرعية، وأصول مضبوطة مرعية؛ فالملك يتقلد الحكومة لسياسة رعاياه على موجب القوانين”.
كما كان رفاعة يدرك مبدأ الفصل بين السلطات وأهميته؛ فيقول: “فالقوة الحاكمة العمومية وما يتفرع عليها تسمى أيضًا بالحكومة وبالملكية هي أمر مركزي تنبعث منه ثلاثة أشعة قوية تٌسمى: أركان الحكومة وقواها؛ فالقوة الأولى: قوة تقنين القوانين وتنظيمها، وترجيح ما يجري عليه العمل من أحكام الشريعة أو السياسة الشرعية، الثانية: قوة القضاء وفَصْل الحكم، الثالثة: قوة التنفيذ للأحكام بعد حكم القضاة بها”.
بل كان رفاعة الطهطاوي يدعو إلى تعليم النشء في القرى مبادئ العلوم السياسية؛ فيقول: “فما المانع من أن يكون في كل دائرة بلدية معلم يقرأ للصبيان بعد تمام تعليم القرآن، والعقائد، ومبادئ العربية مبادئَ الأمور السياسية والإدارية، ويُوقِفَهم على نتائجها، وهو فهم أسرار المنافع العمومية التي تعود على الجمعية، وعلى سائر الرعية… وهل هذا التعليم إلا إيقاف أهل الوطن على معرِفة حقوقهم وواجباتهم بالنسبة لأملاكهم، وأموالهم، ومنافعهم، وما لهم وما عليهم؛ محافظة على حقوقهم، ودَفْعًا للتعدي عليها؟ فاللائق أن يكون بكل ناحية معلم لمبادئ الإدارة ومنافِع الجمعية العمومية في مقابلة ما تَدفعه الجمعية للحكومة؛ فإن هذا التعليم له تأثير معنوي في تهذيب الأخلاق ومنه تفهم الأهالي أن مصالحهم الخصوصية الشخصية لا تتم ولا تنجز إلا بتحقيق المصلحة العمومية”.
ولا أملك هنا إلا أن أقف مُتَعَجِّبًا أمام مثقفٍ من القرن التاسع عشر يري العلاقة التكاملية بين المجتمع (الجمعية) والدولة (الحكومة)، وأن إصلاحهما وضمان اعتدالهما يكون بغرس الثقافة الديمقراطية في نفوس الناس منذ طفولتهم، وأقارنه بمن يدعون أنهم نظراؤه في القرن الحادي والعشرين، ولا يهرفون إلا بسخافات فاشية متعالية تحتقر حق الناس في المعرفة والاختيار باعتبارهم لا يعرفون مصالحهم.
وبمناسبة التعليم؛ فقد كان رفاعة الذي أنشأ مكاتب لمحو أمية الكبار أول من دعا بحسب علمي إلى إدخال العلوم المدنية والطبيعية إلى الأزهر، يقول:
“ينبغي أن تُضِيف إلى ما يجب عليها مِن نشر السنّة الشريفة، ورفع أعلام الشريعة المنيفة: مَعْرِفَة سائر المعارف البَشَرية المدنية التي لها مَدْخَل في تقديم الوطنية، مِنْ كُلِّ ما يُحْمَد على تَعَلُّمِه وتعليمه عُلَمَاء الأمة المحمدية؛ فإنه بانضمامه إلى علوم الشريعة والأحكام يكون من الأعمال الباقية على الدوام، ويُقتدى بهم في اتِّبَاعه الخاص والعَام، حتى إذا دَخَلوا في أمور الدولة يحسن كل منهم في إبداء المحاسن المدنية قولَه”.
أما في الاقتصاد؛ فلرفاعة آراء تقدمية تستحق منا وقفة..
فبخلاف دعوته للمشاريع القومية الكبرى لإقامة السدود على النيل للاستفادة به طوال العام وليس في موسم الفيضان فقط، وعدم إهدار المياه في المتوسط، ووضع خطة متكاملة لنظام ثابت للري في مصر لتعظيم رقعة الأراضي الزراعية وتخطيط الزراعة بحيث تتخصص كل مديرية بما يناسب جوها وأراضيها من المحاصيل، وإعفاء الزارعين للمحاصيل المرغوب فيها من الضرائب مؤقتًا لتشجيعهم؛ فأهم آرائه الاقتصادية هي رفض أن تكون علاقة العامل بصاحب العمل قائمة على العرض والطلب؛ فيقول: “فمواكسة المالك له في تقليل أجرته محض إجحاف به، ووصف استملاك الأراضي والصرف على الزراعة من رأسمال المالك لا يقتضى كونه يستوعب جل المحصولات، ويجحف بالأجير نظرًا إلى ازدحام أهل الفلاحة و تنقيصهم للأجر، وسومهم على بعضهم بالمزايدات التنقيصية، وهذا لا يثمر محبة الأجير للمالك (من يزرع الشوك لا يحصد به عنبًا)؛ فإن هذا فيه إيذاء بعضهم لبعض وهو ممنوع شرعًا”.
ويذكر العديد من الأحاديث النبوية التي تعضد رأيه في أن إقامة علاقة العمل على العرض والطلب يؤدى إلى التحاسد والبغضاء والظلم وكل ذلك محرم شرعًا، وما يستفاد من ذلك أنه وإن كان لم يصرح بذلك إلا أنه يعني أن العامل يستحق الأجر العادل الملائم لما يقدمه من جهد، ويُحَدَّدُ هذا الأجر من خلال أهل صنعته، من خلال تقييمهم للجهد المبذول، لا جزافيًّا عن طريق صاحب العمل.
ويظهر رفاعة الطهطاوي بوضوح الاعتزاز بالحضارة والثقافة العربية الإسلامية، ويظهر ذلك من خلال رفضه لتزيي الشرقيين بملابس الأوربيين؛ فيقول: “فإن مُسْتَحْسَنَ العرف والعادة لا يوجبه عقل أو شرع بدليل اختلاف ذلك باختلاف البلاد كالتجمل والزينة؛ فإن لأهل المشرق زيًّا مألوفًا، ولأهل المغرب زيًّا معروفًا غيره كذلك، يختلف العرف باختلاف أجناس الطوائف؛ فإن للأجناد زيًّا مألوفًا يخالف مألوفَ العلماء والتجار، وأصله أن يكونَ للناس على اختلافهم سمة يتميزون بها؛ فإن عَدَلَ واحد عن عرف بلده وجنسه بدون مندوحه عُدَّ ذلك منه حمقًا… وربما توهم البعض أن التزيي بزيِّ البلاد الأجنبية المشهورة بالتمدن هو المروءة الكاملة والسيرة الفاضلة؛ فبادر بالامتياز بها عن الأكثرين بدون موجب مع أن قيافة بلده لا تنتقص عنها شيئا، وإنما قصد بذلك الخروج من قيافه وطنه التي استرذلها الأجانب، وخفي عليهم تعدي طورهم، وتجاوز قدرهم، وقبح بين أهل الوطن ذكرهم… فالتمدن ليس في زينة الملابس بعرف مجهول متخيل استحسانه ولا سيما إذا كان لا يمكن لمن تزيا به إحسانه… فحاجة الوطن إلى المنفعة الحقيقية أشد من حاجته إلى تقليد العرف، الذي هو منفعة ظاهرية”.
ولكن لا يتحول هذا الاعتزاز بالهوية العربية الإسلامية إلى معاداة للأجانب وكراهية لهم، بل يدعو إلى تيسير إقامتهم، ومعاملتهم معاملة الوطنيين. “إن أعظم وسائل تقدم الوطن في المنافع العمومية رخصة المعاملة مع أهالي الممالك الأجنبية، واعتبارهم في الوطن كالأهلية”؛ لتيسير التبادل العلمي والثقافي والتجاري والإفادة من النابغين من كل الأمم.
وليس هذا الموقف راجعًا لاعتبارات برجماتية بحته لتحصيل فوائد عملية فحسب، بل يؤسس هذا على رؤية إنسانية؛ إذْ يقسم رفاعه الأخوة إلى ثلاثة أنواع: الأول هو أخوة الإنسانية التي يتساوى فيها كل البشر، ويسميها أخوة العبودية، بينما حقوق العبودية الخاصة هي أخوة المسلم لأخيه المسلم التي ترتب له حقوق المسلم على المسلم، والأخوة الوطنية التي يجب بها كل ما يجب على المؤمن لأخيه المؤمن من تواد وتراحم وتعاون.
كان معنى الوطنية إذن عند رفاعة الطهطاوي قائمًا على أصول أخلاقية، والرغبة في العيش المشترك في ظل المساواة، وليست كالأفكار الشوفينية العنصرية عند الأوربيين؛ فيقول: “ولا مانع في أن يعمم في مكارم الاخلاق؛ فبجميع ما يجب على المؤمن لأخيه المؤمن منها يجب على أعضاء الوطن في حقوق بعضهم على بعض لما بينهم من الأخوة الوطنية، فضلًا عن الأخوة الوطنية فيجب أدبًا لمن يجمعهم وطن واحد التعاون على تحسين الوطن، وتكميل نظامه فيما يخص شرف الوطن وإعظامه وغناءه وثروته؛ لأن الغنى إنما يتحصل من انتظام المعاملات وتحصيل المنافع العمومية، وهي تكون بين أهل الوطن على السوية لانتفاعهم جميعًا بمزية النخوة الوطنية؛ فمتى ارتفع من بين الجميع التظالم، والتخاذل، وكذب بعضهم على بعض، والاحتقار؛ تثبت لهم المكارم والمآثر”.
ويحرص على التأكيد على المساواة بين المسلمين وغيرهم من أبناء الوطن مستشهدًا بأقوال العلماء كقول سراج الدين الحنفي: “أهل الذمة في المعاملات كالمسلمين وما جاز للمسلمين جاز لهم”، وقول الإمام ابن حجر في شرح حديث “المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يسلمه”، إن تخصيص ذلك بالمسلم لمزيد حرمته لا للاختصاص به؛ لأن الذمي يشاركه في حرمه ظلمه وخذلانه بدفع نحو عدوه عنه والكذب عليه واحتقاره.
أما رؤيته لحقوق المرأة؛ فهي أيضًا تقدُّمية؛ فنجدة يطالب بإقامة مكاتب لتعليم البنات ولاسيما فاقدات البصر منهن، ويُوجِبُ على وليّ البنت تعليمها ما يليق بها من أصول الدين والقراءة، وما يليق بالنساء من خياطة وتطريز، وما يقتضي حال البلاد من تعليم نافع لها، ويتشارك الذكور والإناث في تعلُّم الأخلاق والآداب وحسن السلوك على حد سواء.
وتبرز وثيقة عقد زواج رفاعة نفسه أنه قبل اشتراط زوجته أنْ لا يتزوج عليها، أو يتخذ جارية، وعلَّقَتْ عصمتها على ذلك (على مذهب الإمام أحمد، على خلاف السائد في مصر باتباع مذهب أبي حنيفة الذي لا يري هذا الشرط واجب الوفاء”.
ويبقي السؤال حائراً ماذا حدث لمصر التي كانت مثل هذه الأفكار تزدهر بها منذ أكثر من 150 عامًا!
لماذا تحولت الأفكار القائمة على أسس أخلاقية وعقلانية واضحة الى أفكار غريبة في عصرنا، بينما تتنامى الأفكار الفاشية، وخطاب الكراهية، والتمييز، والعنصرية مثل الأعشاب؟
هذا سؤال ربما علينا جميعًا أن نحاول إجابته، ولعل تَذَكُّرَ رفاعة الطهطاوي وأقرانه يعيننا على محاولة إجابته.