في التمييز بين العلم والميتافيزيقا.. قراءة في محاولة فتجنشتاين (2)
العلم والميتافيزيقا
في بدايات القرن العشرين، أصبح العلم، كما تكلمنا عنه، مبادئ وخصائص وشروط في المقال السباق، بما حققه من إنجازات ضخمة، وبما أنجزه من توسع هائل في سيطرة الإنسان على الطبيعة، وفيما يبشر به مستقبله من تقدم مطرد ومستمر، هو السيد والقائد للإنسانية في قرنها الجديد. ومن هنا بدأ هو الذي ينظر في جميع المعارف الإنسانية الأخرى ويقيمها ويجيز وجودها أو لا يجيزه طبقًا لمعاييره الخاصة، حيث رأى أنه ليس هناك من فكر أو معرفة تستحق الوجود سوى ذلك أو تلك التي تمتلك معاييره، ويعطيها هو صك الحق في الوجود ويدمغها بإسمه.
بالطبع فإن العلم في حد ذاته، ككيان مجرد وجسم من المعارف والمناهج والتقنيات، لم يكن هو الذي أقدم على هذه الخطوة، إنما المشتغلين به وبفلسفته، أي العلماء والعاكفين على فلسفة العلم، هؤلاء الذين يؤمنون أنه ليس ثمة نوع من الإدراك والتفكير يمكن أن يوصلنا إلى معرفة حقيقية إلا إذا كان تنطبق عليه معايير العلم وموصفاته. وكان أبرز الممثلين لهذا الاتجاه في أوائل القرن العشرين هم جماعة فيينا.
1- جماعة فيينا
إن جماعة أو حلقة ڤيينا Vienna Circle (بالألمانية: Wiener Kreis) كانت مجموعة من الفلاسفة الذين تجمعوا حول موريتس شليك عندما استُدعي إلى جامعة ڤيينا في 1922، وتشكلت في ارتباط فلسفي، ترأسه شليك، وأسموه جمعية إرنست ماخ (Verein Ernst Mach) تكريمًا للعالم إرنست ماخ. ضمن أعضائها كان گوستاف برگمان، رودولف كارناپ، هربرت فايگل، فيليپ فرانك، كورت گودل، هانز هان، تشا هونگ، ڤيكتور كرافت، كارل منگر، ريتشارد فون ميسس، مارسل ناتكين، اوتو نويراث، اولگا هان-نويراث، تيودور راداكوڤيتش، روزه راند وفريدريش ڤايسمان. وباستثناء گودل، فأعضاء حلقة فيينا كان لديهم موقف مشترك تجاه الفلسفة تمثل باعتقادين رئيسيين:
- الأول: الخبرة هي المصدر الوحيد للمعرفة.
- الثاني: التحليل المنطقي بمساعدة المنطق الرمزي هو الطريقة المفضلة لحل المشاكل الفلسفية.
لقد عُرفت وجهات النظر الفلسفية لجماعة فيينا فيما بعد باسم “الوضعية المنطقية Logical Positivism”.[[1]] . كان لـبرتراند راسل عظيم الأثر على جماعة فيينا فيما يتعلق باتجاههم المنطقي في الرياضيات واهتمامهم بالاستقراء، بينما كان تأثير فتجنشتين مرتبطًا بمشكلة التمييز بين العلم والميتافيزيقا. [[2]]
2- تحديد ماذا نعني بالميتافيزيقا
في أغلب الأحوال، يكون المدخل إلى دراسة موضوع ما هو أن يبدأ الباحث بتقديم وصف عام للموضوع الذي يبحثه. ولقد وضعنا تحديد عام لما نقصده بكلمة العلم في المقالة الأولى من تلك السلسلة، وقد حان الوقت أن نحدد ماذا نقصد بكلمة الميتافيزيقا في بحثنا هذا.
في حالة الميتافيزيقا، على وجه الخصوص، تكون الحاجة أكثر إلحاحًا إلى تقديم تعريف. فإذا تساءلنا: ما هو موضوع الميتافيزيقا؟ فسوف تتعدد الإجابات بتعدد المذاهب والفلاسفة.
يمكن القول أن أول ظهور مرصود لكلمة «ميتافيزيقا» كان عندما أطلقت على كتاب أرسطو الرئيسي المسمى بهذا الاسم، مع أن المعلم الأول لم يستخدم هذه الكلمة على الإطلاق، بل لم يستخدمها واحد من فلاسفة اليونان، فهي لم تظهر في العصر الهليني، وإنما ظهرت في العصر الهلينستي Hellenistic age عندما قام أندرونيقوس الرودسي Andronicus Rhodes (حوالي 60ق.م) الرئيس الحادي عشر للمدرسة المشائية Peripateticism [[3]] في روما بتصنيف كتب أرسطو وترتيبها ونشرها مع شرح للفلسفة الأرسطية، وأثناء ترتيب أندرونيقوس لكتب أستاذه أرسطو، وجد أن هناك مجموعة من البحوث لم يطلق عليها المعلم الأول اسمًا معينًا يستقر عليه، وقد جاءت في الترتيب بعد البحوث التي كتبها أرسطو في الطبيعة (الفيزيقا)، فاحتار أندرونيقوس: ماذا يسميها؟ وأخيرًا أطلق عليها مؤقتًا اسم ميتا Meta أي ما بعد وفيزيقا Physics أي علم الطبيعة، أي أنها البحوث التي تلي كتب الطبيعة في ترتيب المؤلفات الأرسطية. فكلمة «ميتافيزيقا» أو «ما بعد الطبيعة» لا تحمل أي إشارة إلى مضمون هذه البحوث، بل هي ما بعد طبيعة أرسطو فحسب، وهكذا جاءت التسمية عَرَضًا أو مصادفة، لكنها مع تطور المصطلح أصبحت وصفًا للموضوعات التي يدرسها هذا الفرع من المعرفة، بمعنى أنها دراسة موضوعات تجاوز الظواهر المحسوسة، فهو يعني بدراسة الوجود بصفة عامة وملحقاتِهِ: أي المقولات التي تعبر عن خصائص أساسية لهذا الوجود، كالجوهر والعرض، والتغير، والزمان، والمكان، والعلاقات…إلخ، وهي كلها صفات كلية تصلح ملحقات أو مقولات للوجود. بالإضافة إلى الوجود الإلهي، وصفاته، والنفس والروح… إلخ. [[4]]
إن مشكلة الميتافيزيقا هي في عدم وجود تعريف واحد عام لها. وإذا رجعنا إلى التاريخ من أجل حل هذه المشكلة، لوجدنا أن كلمة “ميتافيزيقا” قد استعملت في معان متباينة لا حصر لها، مما قد يصعب معه أن نجد تعريفا واحدا لها يمكن أن يتفق عليه جميع المشتغلين بالميتافيزيقا. والسبب في هذا التباين هو أن الفلاسفة قد عرفوا الميتافيزيقا بالاستناد إلى مذاهبهم، بدلًا من أن يجعلوا نقطة البداية في أبحاثهم الميتافيزيقية تعريفًا واحد متفق عليه. [[5]]
لذلك في بحثنا هذا يجب أن نحاول أن نميز أولًا ونعرف ما المقصود بالميتافيزيقا، تلك التي حاولت جماعة فيينا و”فتجنشتين” وضع الحدود بينها وبين العلم. إن الميتافيزيقا هنا تشتمل على المذاهب الدينية – كمذهب التثليث Trinity- وعلى أشباه العلم، كالتنجيم. وتشتمل أيضًا على أي نظريات عامة توصل إليها الفلاسفة، مثل نظرية المثل عند “أفلاطون”، والمونادات عند “ليبنتس”، والمطلق عند “هيجل”. لا شك أن الفلاسفة قد قاموا في الماضي بوضع هذه النظريات، ولكن السؤال الآن: هل كان قيامهم بذلك أمرًا ضروريا؟ هل لمثل هذه النظريات قيمة ما؟ ألم ليكن من الأفضل استثمارهم لطاقتهم العقلية في إقامة نظريات علمية؟ مثل هذه الأسئلة سوف يتم مناقشتها من خلال تناول مشكلة ترسيم الحدود بين الميتافيزيقا والعلم. [[6]]
3- تبني جماعة فينا لرسالة فتجنشتاين
في بدايات القرن العشرين صب فتجنشتين جل اهتمامه في كتابه “الرسالة” (1921) على ترسيم الحدود بين العلم والميتافيزيقا، وعلى ترسيم الحدود بين العلم والدين أيضا، وهو المنحنى الذي اتبعته جماعة فيينا. وكما أشرنا من قبل، فإن رسل كان له تأثير على أعضاء جماعة فيينا فيما يخص اهتمامهم بالمنطق وفيما يتعلق بتناولهم مشكلة الاستقراء. أما فتجنشتين –تلميذ رسل– فهو الذي أثار اهتمامهم بمشكلة ترسيم الحدود بين العلم والميتافيزيقا. ومن المؤكد أن مشكلة الترسيم هي أحدى الموضوعات الرئيسية التي تضمنها أول عمل فلسفي لـفتجنشتين، ألا وهو كتابه “رسالة منطقية – فلسفية Tractatus Logico- Philosophicus” الذي صدر عام 1921. ويتطابق ذلك مع رأي فتجنشتين الشخصي حيث كتب إلى رسل في التاسع عشر من أغسطس عام 1919، يقول:”إني أعتقد أن المشكلة الأساسية للفلسفة هي التمييز بين ما يمكن التعبير عنه أو التفكير فيه استنادًا إلى دعامات معينة، وبين ما لا يمكن التعبير عنه وإنما يشار إليه فحسب”. وكما سنرى فإن التمييز بين ما يمكن التعبير عنه وما يمكن الإشارة إليه فحسب، هو التمييز بين العلم والميتافيزيقا. [[7]]
إن تأثير كتاب “الرسالة” على جماعة فيينا هو أمر مؤكد بالوثائق، فبرنامج الجماعة قد طرأ عليه تغير بدأ من 1926/1927، إذ برزت على السطح اعتراضات شتى داخل الجماعة تجاه كتاب “الرسالة” لـ”فتجنشتين”، ولذلك قرر “شليك Schlick” يناء على اقتراح كرناب ضرورة تخصيص عدة اجتماعات متتالية لقراءة الكتاب جهرًا. وقد شغلت قراءة الكتاب جملة جملة ذلك العام الدراسي بالكامل. [[8]]
*** *** ***
وعلى ذلك فإنه من الأفضل أن نبدأ بحثنا في مشكلة ترسيم الحدود بين العلم والميتافيزيقا بفحص آراء “فتجنشتاين” التي وردت في “الرسالة”، ولاسيما كيفية تأثير هذه الآراء على جماعة فيينا.
على أن فلسفة “فتجنشتين” مرتبطة جدا بالحياة الغنية الثرية، المضطربة في الآن ذاته، التي عاشها، لذلك فإننا سنتعرض إلى مسيرة حياة “فتجنشتين” ونقسمها إلى جزئيين، ما قبل كتابه “الرسالة” وما بعده، حيث أن “فتجنشتين” بعد أن انتهى من كتابه “الرسالة” غادر ميدان الفلسفة، مقتنعًا أنه قال كل ما يمكن أن يقال في هذا الميدان، إلا أن تجربته الحياتية بعدها، وما تعرض له من مناقشات وأراء جعلته يراجع الكثير من نظرياته وأراءه ويعدلها، وكان ثمرة هذه المراجعة كتابه الثاني الأشهر، الذي نشر بعد وفاته، “تحقيقات فلسفية”. لذلك فإنه من المهم جدًا الإلمام ببعض من تفاصيل حياة “فتجنشتين” لفهم نظريات وأراء واحد من أهم فلاسفة القرن العشرين، صابين اهتمامنا على محاولته البارزة لترسيم الحدود بين العلم والميتافيزيقا.
المصادر [[1]] دونالد جيليز: فلسفة العلم في القرن العشرين، ص 108. [[4]]إمام عبد الفتاح إمام: مدخل إلى الميتافيزيقا، ص 17 - 18. [[3]]"المدرسة المشائية" لقب أطلق على المدرسة الأرسطية . والسبب أنه كان من عادة أرسطو أن يغشى ممشى في المدرسة التي أنشأها في ملعب رياضي يدعى بـ"اللوقيون" فيوافيه التلاميذ إليه، فيلقي عليهم دروسه وهو يمشي في حديقة "اللوقيون" وهم يسيرون حوله. وقد ورد اللفظ في كتب الفلاسفة المسلمون بهذا المعنى (راجع "النجاة والإشارات والتنبيهات"). [[4]]إمام عبد الفتاح إمام: مدخل إلى الميتافيزيقا، ص 17 - 18. [[5]]علي حسين: الأسس الميتافيزيقية للعلم، ص 15. [[6]]دونالد جيليز: فلسفة العلم في القرن العشرين، ص 309 – 310. [[7]] المصدر نفسه ص 310 -311. [[8]]المصدر نفسه ص 311.