لوك فيري: البحث عن السعادة لا يعني الاستغناء عن الحقيقة
حوار مع مجلة "بارونتيز"، حاورته ماري برنارد
التفكير يمكن أن يساعدنا على العيش بشكلٍ أفضل، بيد أنّه ينبغي معرفة التفكير، بإمكان الفلاسفة الكبار إرشادنا في رحلة البحث عن السعادة… حوار مع الفيلسوف والوزير السابق لوك فيري.
المجلة: كيف يمكن للفلسفة أن تُساعد على العَيْش بشكل أفضل؟
لوك فيري: كل الفلسفات الكبرى هي عبارة عن مذاهب خلاصية، وإذا صَدَّقْنَا المعاجم، فالخلاص هو “الإنقاذ من خطر كبير أو حزن كبير”، إنقاذنا من ماذا أولًا وقبل كل شيء؟ من المخاوف التي تُطَوِّق، التي تُقَلِّص وتنتهي إلى إعاقة وجودنا، وبالتالي منعنا من إدراك الحياة الجيدة. الفكرة التي تُحرّك الرغبة في الحكمة، أي في البحث عن الخلاص -هذه أفضل طريقة من أجل ترجمة كلمة philo-sophia- هي الاقتناع بأن المرء طالما هو مُحاصر من طرف مخاوفه، من المستحيل أن يصل إلى السكينة، من المستحيل أن يكون حرًا في عقله، أو أن ينفتح على الآخرين، يُفكر بحرية ويكون كريمًا. من أجل الولوج إلى السكينة، ينبغي إذن التوصّل إلى هزيمة المخاوف، والفلسفة بخلاف الديانات التوحيدية الكبرى، تَعِدُنَا بإمكانية تحقيق ذلك بالاعتماد على أنفسنا وعلى العقل عوض الاعتماد على شخصٍ آخر (الله) وعلى الإيمان (من خلال التخلي عن العقل لصالح الوحي).
المجلة: عن أي ديانة تتحدثون؟ فيما يخص المسيحية، هي لا تقيم تعارضًا بين الإيمان والعقل ولكن، على العكس من ذلك، تعتبرهما “بمثابة الجناحين اللذين يمكّنان العقل البشري من الارتقاء إلى تأمل الحقيقة” (انظر النص البابوي، “الإيمان والعقل”، جون بول الثاني).
لوك فيري: حتى المسيحية تجد نفسها مجبرةً في بعض الأحيان على التخلي عن العقل لصالح الإيمان، على سبيل المثال، حين يجري الحديث عن انبعاث الأجساد، الذي لا يحتوي في حد ذاته على أي شيء “معقول”، الفكرة التي تُفصِّلُها الرسالة البابوية المُعَنْونَة بـ “الإيمان والعقل” مُستوحاة من توما الأكويني: لا يُمكن أن يُوجد هناك تعارض بين حقائق العقل وحقائق الوحي، وهي أطروحة تدخل في صدامٍ حاد مع مذهب الحقيقة المزدوجة الشهير الذي كان يُدافع عنه سيجر البرابانتي في العصر الوسيط. نلتقي مع نفس هذا الموضوع عند باستور، من خلال مقولته الشهيرة والتي بحسْبها القليل من العلم يُبعد عن الله، لكن الكثير منه يُقرب إليه. يبقى أن المذهب المسيحي الخلاصي (الأمل في انبعاث الأجساد، مذهب “الجسد المجيد”) الذي هو في حد ذاته “الخبر السار” (في الإغريقية كلمة إنجيل تعني eu-Angellia) يرتكز بنسبة 100% على الإيمان وبنسبة 0% على العقل.
المجلة: هل يمكن للمرء أن يتفلسف وحيدًا في بيته؟ كيف نعثر على مُرشد من أجل تَعَلُّم كيفية التفكير؟ ما هي القِراءات التي تنصحون بها القُرَّاء الذين لا يملكون تكوينًا فلسفيًا، ومع ذلك يحبّون الشروع في تَفْكِيرٍ حول كيفية العيش بشكل أفضل وإيجاد السعادة؟
لوك فيري : نعم، يمكن للمرء أن يتعلم التفلسف وحيدًا في بيته، ولكن مع وجوب التوفّر على مُرشد قصد الولوج إلى قراءة الفلاسفة القدماء، لا يُمكننا أن نقرأ أرسطو، سبينوزا، كانط أو هيجل دون التوفر على مفاتيح القصر. كَتَبْتُ لبناتي وأصدقائي كتابًا بعنوان “تعلم الحياة” -متوفر اليوم في النسخة الجيبية، ومُسجل في عدة أقراص صلبة (عند فغيمو)-، فقط بهدف التمهيد لقراءة المُفكرين الكبار، وإذا أراد المرء أن يذهب بعيدًا، فقد نشرتُ أيضًا كتابين يُقدمان فِكر أكبر المؤلفين، بعنوان “حكمة الأمس واليوم”، آسفٌ لأنّي أبدو كمن يُروج لنفسه، لكن لا أفهم كيف لا أنصحكم بما أنصح به أقرب أقاربي! يجب الشروع في التفكير مع وبفضل الآخرين قبل التمكّن من فعل ذلك بالاعتماد على أنفسنا، إذن من الضروري الاستئناس أولًا بتاريخ الفلسفة إذا كان الواحد يريد أن يتجنب الخلط بين الفلسفة وحديث المقاهي.
المجلة: هل البحث عن الحقيقة يتماشى مع طلب التطور الشخصي؟ هل يتماشي مع طلب العيش الرفيه؟
لوك فيري: لا يجب علينا أبدًا الاستغناء عن الحقيقة، لأن الوضوح وحده الكفيل بإنقاذنا، باعتبار أن السراب الأيديولوجي يحتوي دائمًا على آثار مرضية أشك في قدرتها على منح أيٍّ كان سعادة حقيقية. كل الفلسفات الكُبرى، أقول كُلها، بما في ذلك فلسفتيّ كلٍ من نيتشه وهايدغر، ستُشَيَّدُ حول ثلاثة محاور، ثلاثة قضايا؛ الأولى تتعلق بالحقيقة، أي بالمعرفة الصحيحة للعالم والذات: يتعلق الأمر بالتَّعَرُّف على ملعب الوجود الإنساني، بتكوين فكرة سليمة عن العالم الذي يُحيط بنا، هل هو جميل أم قبيح، مفهوم أم غامض، مُقفل أم مفتوح، مُناوئ أم مُساند… إلخ. المسألة الثانية لا تتعلق بالملعب، وإنما، إذا سمحتم لي بمواصلة الاستعارة، بقواعد اللعب التي سنحْتكم إليها جميعًا نحن البشر في لَعِبِنَا: الحديث هُنا طبعًا عن الأخلاق والسياسة، ماذا نعني بمجتمع سليم؟ ماذا نعني بتصرف سليم؟ أخيرًا، المسألة الثالثة تتعلق بالهدف من اللعب ومعناه: ماذا نلعب ولماذا؟
المجلة: هل يُمكن جعل الفلسفة أداةً للتنمية الذاتية؟ تيار فكري جديد ظهر على الساحة: تيار الفكر الإيجابي؟ ما تفسير هذه الظاهرة عندما يُلاحظ الواحد، من وجهة نظر سياسية بسيطة، أن العالم لم يكن يومًا أقرب إلى أزمة عالمية (أزمة في المشرق، أزمة في آسيا، تمزقات اجتماعية في فرنسا…) كما هو عليه الحال اليوم؟
لوك فيري: لِنَحْذَر من هذه الموضة الجديدة التي -باسم السعادة- قد تجعلك أتعس من السابق! مع انتهاء الشيوعية وانهيار الأيديولوجيات الثورية، وأيضًا سقوط المسيحية التي هيكلت الفضاء العام الأوروبي طيلة قرونٍ من الزمن، لاحظنا أن الاهتمام بالذات، بالصحة، بالعيش الرفيه وبالسعادة قد ارتفع بشكلٍ أُسِّي في القارة العجوز، كما لو أن السعادة أصبحت هي المحور الذي تدور حوله الحياة البشرية، نظريات التنمية البشرية وعلم النفس المُسمى بـ “الإيجابي” المستوردة مباشرةً من الولايات المتحدة الأمريكية تدعونا ليس فقط إلى جعل السعادة هي غاية الوجود الوحيدة، ولكنها تُفسر في كل مكان أنها متاحة لكل واحدٍ طالما أنها تمر أولًا وقبل كل شيء عبر اشتغالٍ على الذات. حَسَبَ هذه الأيديولوجية المتفائلة، السعادة لا تتعلق بحالة العالم الخارجي، بقدر ما تتعلق بحالتنا الباطنية الخاصة، هذه هي الأطروحة الأساسية التي قام علم النفس الإيجابي باستعارتها من البوذية والرواقية، السعادة لا تتوقف سوى على قدرتنا على “الدخول في صداقة من أنفسنا”.
أَعْتَقِدُ العكس تمامًا، أي أن لحظات فرحنا تتوقف قبل كل شيءٍ على الآخرين، على أولئك الذين نحبهم، وعلى حالة العالم الخارجي، هذا ما يجعلني أفَضِّلُ الاكتفاء بحكمةٍ أقل تواضعًا. غيابٌ للحزن، هذا في حد ذاته كثير، شواطئ من السكينة تترك الباب مواربًا بتواضعٍ للحظات فرحٍ ينبغي أن نعي جيدًا أنها عابرة، ومهما يكن من أمر، مُتوقفة بشدة على الآخرين أكثر مِمَّا هي متوقفة على كبريائنا الصغير، هذا ما هو مسموح لنا بأن نأمله في هذه الحياة.
المجلة: إذا كان الشك هو نقطة انطلاق التفكير الفلسفي، ألا يحتوي ذلك بالنسبة للشخص الذي ينخرط في عملية تفكيرٍ على خطر توليد القلق في حالة ما إذا لم يُفضي إلى نتيجة؟
لوك فيري: يجب التفريق بين نوعين من الشك، يُوجد شك “جيد”، ذلك الذي يُحرّك العقل النقدي الضروري لتطوّر العلوم، وهو دائمًا مُثمر، ثم هناك شك “مُدَمِّر”، في حدود الشيطاني بِتعبير التوراة، هذا النوع هو الذي يُفقدنا استقرارنا ويُولّد القلق. معك حق، منه يجب توخي الحذر.