سيكولوجيّة الأَلْوَان في رِوايات سعود السنعوسي. وكيف تَحَوَّل الأزرقُ من الأمَان إلى الوَحْشة؟
لا تنفصل حياة البشر عن الألوان منذ ولادتهم وحتى يفنى الكون، إنها تُعد مكونًا هامًا من مكونات الوجود، وهي ليست فقط مقياسًا للذوق واختيار الملابس، بل يمتد تأثيرها على تشكيل الشخصية والحالة النفسية، والتعبير عن الحزن والفرح والأمان والخوف، واستُخْدِمَتْ فى التعبير عن المعتقدات الدينية، وظهر ذلك جليًا فى الحضارات القديمة، حيث استخدمَ المصريُّون فى أعمالهم الفنية ستة ألوان أساسية “الأبيض – الأسود – الأحمر – الأصفر- الأخضر- الأزرق”، ولعبتِ الألوانُ دورًا كبيرًا في ترسيخ مفهوم الطبقية في العالم. على سبيل المثال، كان اللونُ الأزرق مُخَصَّصًا للطبقة العاملة، بينما يرتدي أفرادُ الطبقة الراقية اللونَ الأسود.
الألوان عند سعود السنعوسي
وقع أغلبنا فى فخ تعميم دلالات الألوان، حتى أصبحت قوالب ثابتة، مجرد معانٍ واحدة نستخدمها للتعبير عن أنفسنا، أو عند تفسير معناها فى حلم قد راودنا، ولكنَّ الكاتب الكويتي سعود السنعوسي لم يتبع ذلك النهج، ولم يكن التجريبُ لديه فى اللغة أو السرد أو استخدام الأحجية فقط، لكنه استخدم عجلةَ ألوانٍ خاصة به يشكِّلها كما يحلو له، وظهر تأثُّره بفلسفة اللون فى رواياته فى مواضع كثيرة منها:
تشرق الشمس في منتصف الليل وتردي الظلام قتيلًا… تنفتح الأزهار على الأرض الجليدية، ويتحول البياضُ إلى درجات من اللون الأخضر.
– سجين المرايا
في رواية “سجين المرايا“، لم يجعل سعود اللون الأبيض رمزًا للنقاء بل رمزًا لتجمُّد الحياة، والشمس بمثابة المُخَلِّص الذي يكسر تلك الحالة وينقلها من السكون للنشاط، وحسب المفاهيم البيئية الجليد يكون مرتصًّا على بعضه بشكل أكبر، وتكون كمية الهواء المحتجز قليلة، ولذلك استخدم سعود تعبير الأرض الجليدية ليُوحِيَ بالاختناق، ثم عندما تسقط أشعة الشمس على الأرض الجليدية تعكس لونًا يميل إلى الزرقة وهو أحد مكونات اللون الأخضر، وعند البدء في الذوبان تتنفس الأرض وتزهر.
أحببت اللون الأخضر، لون الحياة، بدرجاته حتى خِلْتُه اللونَ الوحيد فى هذا الكون.
-ساق البامبو
تَأَثَّر سعود فى رواية “ساق البامبو“، باللون الأخضر بشكل واضح حتى وصفه بلون الحياة. بالفعل هو لون البدايات؛ فكلّ ما هو أخضر يطمئنُّ إليه قلبُ الإنسان، كما أنه يُسْتَخْدَمُ في الدلالات الثقافية والدينية. على سبيل المثال، يُعتبر الأخضرُ من الألوان الخمسة الرئيسية في الصين، ولون سيارات الطوارئ في اليابان كنوع من التعبير عن السلامة، ولون الأوراق المالية في الولايات المتحدة الأمريكية ليعبِّر عن القوة، ويُرمز به إلى كهنوت الكنيسة، وورد في القرآن الكريم في قوله تعالى: (فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا).
الحزن مادة عديمة اللون، غير مرئية، يفرزها شخص ما، تنتقل منه إلى كل ما حوله، يُرى تأثيرها على كل شيء تُلامسه، ولا تُرى.
– ساق البامبو
لم يتجه هنا لتشبيه الحزنِ بالأسود كالمعتاد، ولكنه جعله عديمَ اللون مثل الشبح الذي نخشاه ولا نراه، وربما مثل البلاستيدات عديمة اللون التي توجد فى معظم أجزاء النبات البعيدة عن ضوء الشمس، ولا تُرى ولكن يظهر تأثيرها فيما تخزنه من النشا، وكذك الحزن لا يُرى لكن يظهر تأثيره علينا لما يخزنه بداخلنا من ضعف.
أشعة الشمس المتعامدة فوقي تستحيل فضاء أحمر داخل جفنيَّ المُطْبِقَيْن.
– فئران أمي حصة
أما في “فئران أمي حصة“، اختار اللون الأحمر للتعبير عن الشعور الأول بالحرارة، فعند البدء في تسخين أيِّ جسم؛ فإن أول الألوان ظهورًا هو اللون الأحمر ويمثل أولى درجات الاحتراق، ويعتبره العلماء أبرد الألوان على عكس ما نشعر، حيث إنه عندما ترتفع درجة الحرارة بشكل كبير، فإن الألوان تصبح قاتمة حتى تنتهي باللون الأسود.
وحده الرمادي يشبهه لا لون له ولا ذاكرة… لون النهايات، لون الدخان والرماد وحطام البيوت… لون العدم.
– حمام الدار
في “حمام الدار“، استخدم أكثر من لون فى السرد والرمزية، هنا كان اللعب باللون الرمادي يرجع لقدرة تأثير هذا اللون على النفس، وما يخلفه من ارتباك وعدم وضوح، يشبه النهايات التى لا نعرف ماذا سنفعل بعدها؟ هو الناتج عن احتراق جسم بالكامل لم يعد هناك وجود له سوى لون غير مفهوم تتقاذفه الرياح، هذا اللون دائما يشير إلى الخديعة بين حقيقتين يُرْمَزُ لهما بالأبيض والأسود.
اصفرَّ وجهه وهو ينظر إلى غيابهما الوشيك.
– حمام الدار
استخدم سعود فعل “اصفر” ليوحي بوقوع الحدث، واللون الأصفر أكثر الألوان التى تدل على التحول من الشيء لنقيضه، من الحياة للموت، رمز قوي للحزن والفزع والهم والخوف والموت، ويدل على المرض والشُحُوب، صحراء جرداء تبتلع الحياة.
الأزرق بين سعود وبيكاسو
فى رواية “حمام الدار” استخدم سعود سيكولوجية الألوان بطريقة تمزج بين التأثير النفسي و التجربة، ليوضح أن انعكاس الألوان علينا لا ينبع من مدلولها الثابت ولكن من تجاربنا معها، وظهر ذلك بوضوح في ما عرف بـ”الحقبة الزرقاء” عند الرسام العالمي بيكاسو، الذي استخدم الأزرق رمزًا للوحشة والخوف؛ حزنًا على انتحار صديقه الحميم (كاساجيماس) بعد أن رفضته فتاة هامَ بحبها. يقول بيكاسو “إن تفكيري بما حصل لصديقي هو الذي جعلني أرسم بالأزرق”، ومن وقتها وموضوعات لوحات بيكاسو تزداد قتامة وظلمة.
التجربة عند بيكاسو جعلت اللون الأزرق يتحول من رمز للأمان لدلالة تشير إلى الوحشة، وهو ما حدث مع بطل رواية “حمام الدار“، ويتضح ذلك فى الأمثلة التالية:
رمادية داكنة، تجلب الغم للعالم لولا لطخة فيروزية تطوق عنقها.
– حمام الدار
هنا كان اللون الفيروزي وهو أحد ألوان الأزرق كاسرًا للغم وباعثًا للقليل من السعادة والألفة، رغم أن الراوي أعرب عن كراهيته للأزرق طوال سرده للحكايات، بداية من اسم والده الذي كان يقسو عليه، حتى أصبح رمزا للوحشة والخوف بعد ابتلاع السماء الزرقاء للحمامتين زينة ورحّال.
“الأزرق منذ الأزل هو لون الغياب والفقد”
“أراد أن يمضي وراءهما في التيه الأزرق لعله يعيدهما إلى حضنه، نهض عن الأرض، وقف على أطراف أصابعه ينظر بعيدًا. ابتلعتهما الزرقة، لم يعد يراهما”
– حمام الدار
كما سلفنا القول أنه اعتبر اللون الفيروزي باعثا للطمئنينة والألفة، وهذا هو المدلول السائد للأزرق بما يوحيه من نقاء وسكينة؛ فهو لون السماء والبحار والأنهار الذي يمنح الجمال والحرية، وهو عكس المنهج السائد فى الرواية باعتبار اللون الأزرق منبع الشر والحزن، لكن ربما أراد سعود أن يخلق جملة رمزية بتلك البقعة الصغيرة على رقبة الحمامة؛ ليقول: إن ما نخافه ربما يصبح يومًا سبيل النجاة الوحيد؛ فالأزرق المخيف كان المنفذَ الوحيد وسط اللون الرمادي القاتم، والذي يُمَثِّلُ الهلاك.
ويتضح هنا أن دلالات الألوان تتغير بفعل التجارب الخاصة وماضي الأشخاص، ربما الأبيض يصبح لون الموت عندما يرتبط بفقدان عزيز، والأسود يصبح لون الفرح عندما يتعلق بذكرى تبعث السرور لنفوسنا، وبالتالي خلق سعود عجلة ألوان خاصة به يستخدمها حسب تاريخ شخصياته وتجاربهم وليس وفقًا للمتعارف عليه، فالألوان المتناغمة الهادئة قد تكون فى جانب آخر عدائية صاخبة.
غالبًا ما يتبع الروائيون منهجًا خاصًا، ولكن سعود السنعوسي اختار منهج اللامنهج القائم على التجريب والجنون وكسر الثوابت الإبداعية، وخلال رواياته تنوعت أدواتُه وطرق استخدامه للغة والسرد؛ مما جعل القاريء يتنظر منه عملًا مبتكرًا في كل مرة، وفي روايته الجديدة ناقة صالحة نتوقع دربًا جديدًا لتمرد السنعوسي على الرضوخ للمنهج التقليدي والتيمات المحددة للنصوص الإبداعية.