حمام الدار .. صناعة الدهشة باستخدام عناصر قديمة

هل الأديب مطالب بالكتابة عن موضوعات لم يطرقها أحد من قبل؟، أم أن التيمات واحدة، والفارق هو في كيفية التناول؟
في روايته “حمام الدار”، يقدم سعود السنعوسي -في رأيي- إجابة حاسمة للأمر، فهو لم يعد اختراع العجلة، ولا تحفل روايته بصور مبتكرة لم يسبقه إليها أحد، فالحمام رمز تراثي للفقد، “وبتغني لمين يا حمام؟” سؤال غنائي دائم التردد في الأغنيات المصرية، وصورة الأب الذي ينتظر ابنه الغائب على الساحل كل ليلة سبق وقدمها رأفت الميهي في رائعته “للحب قصة أخيرة” عبر الممثل “عبد الحفيظ التطاوي”.

حتى مسألة الشخصيات الروائية التي تتمرد على قدرها داخل الرواية، وتدخل في عراك مع المؤلف، سبق وقدمها الأدب العربي من قبل، أذكر مثلًا أن القاص والروائي المصري الكبير فؤاد قنديل قدمها في مجموعته القصصية “حدثني عن البنات” في قصة حملت عنوان “أردته جبانًا”.

ما الذي يجعل هذه الرواية مدهشة إذًا؟ ما الذي يجعلها بديعة وأصيلة وليس فيها شبهة اقتباس أو نقل رغم أنك تصادف داخلها عناصر قديمة؟

الإجابة ببساطة تكمن في قدرة سعود السنعوسي على صناعة الدهشة عن طريق إعادة اكتشاف الأشياء التي يظن الجميع أنه لم يعد فيها ما يكشف عنه ، يكمن الجمال في القدرة على الإشارة إلى مناطق لم يرها أحد في نفس الصور الماثلة أمام الأعين طوال الوقت.

لو أن السنعوسي جلس قبل الكتابة مع ناشره ليخبره أنه يريد أن يكتب قصة عن الفقد، عن رجل فقد إخوته، وأمه وأبناءه، لنصحه الناشر أن يعيد النظر في الموضوع الذي طرقه كثيرون قبله، لكن المبهر هنا أن الكاتب الكويتي المهم، يصنع في روايته فقده الخاص، يقتحم عالم المطروق، ويمضي على خط رفيع للغاية، يمكنه من وضع بصمته واضحة ومؤثرة في موضع تكثر فيه البصمات، وبطريقته الخاصة والجديدة على قدم عناصر تكوينها، كأنه يقدم لجمهوره صنف طعام مدهش، لا يصنعه سواه، بنفس المقادير التي يعرفها الجميع، دون أن يعرف أحد طريقته الشخصية في صناعة الوصفة.

إعلان

الحقيقة أني ممتن للسنعوسي لأن حماماته من لحم ودم وتفاصيل أكثر من أي حمام أخر في أي أغنية عن نوح الحمام، ولأن منوال بن أزرق يختلف عن عبد العزيز -عبد الحفيظ التطاوي-، ولأن فؤاد قنديل ألقى بفكرته في قصة قصيرة، ثم كادت أن تموت، فجاءت حمام الدار لتصنع شيئًا مختلفًا، وتعيد بعث هذا الأسلوب السردي من جديد بمعالجة مختلفة وأكثر تفصيلًا وحبكة من تلك التي استخدمها قنديل قبل سنوات.

ولا أعرف إن كان السنعوسي اطلع على تراث الحمام الغنائي، شاهد “للحب قصة أخيرة”، قرأ قصة قنديل أم لا؟ أغلب الظن أنه لم يفعل، لكن البديع في الأمر أن جمال هذه الأعمال حضر إلى رأسي وأنا أقرأ روايته، فضاعف المتعة ولم يفسد من متعة “حمام الدار” وحدها شيء.

وعلى ذكر متعة “حمام الدار” أود أن أشير إلى التطور الكبير في أسلوب سعود السنعوسي، فالرواية مختلفة عن كل ما قدم سابقًا كمًا وكيفًا، تدخل به إلى منطقة رمزية لم يدخلها من قبل، ويمسك فيها بأدواته باقتدار شديد، فبعد الثناء على اللغة، والسرد، والحبكة إلى أخر هذه الأشياء التي عادة ما يتحدث النقاد عنها، تجب الإشادة برقصاته الجريئة على حبال الأدب، فهو لم يكتف بخط سردي واحد يقيمه بين عرزال ومنوال بطلي روايته، لكنه يتجاوزهم إلى ما هو أعمق، فيحمل روايته الكثير من الرموز الثقيلة، فنجد عبارات مثل “قطنة” الرسولة، والعهد القديم، العهد الجديد، وفصل بعنوان “عرزال” يحمل الكثير من المحاورات الفلسفية التي تعطي الرواية ثقلًا رغم عدم مد السنعوسي لهذا الخط على استقامته، وعودته مرة أخرى إلى خطه الروائي الرئيسي، كأن هذا الفصل من الرواية كان فاصلًا بين عالمين.

وجملة القول هنا أننا أمام عمل يقتنى أنصح به بشدة، أعطيه العلامة الكاملة، وأدفع به إلى يد بعض الروائيين كمثال على صناعة الجديد ببساطة، وبدون “حزق” أو تشنج، أو تعقيد تحت دعاوى الكتابة المختلفة، وكسر التابوهات، إلى أخر تلك الدعاوى التي يحمل بعضها صدقًا كبيرًا ورغبة في التجديد، ويحمل أكثرها فلسًا روائيًا يراد تغطيته، وستر عورته.

نرشح لك: سيكولوجيّة الأَلْوَان في رِوايات سعود السنعوسي. وكيف تَحَوَّل الأزرقُ من الأمَان إلى الوَحْشة؟

صفحة الرواية على موقع جود ريدز

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: حسين السيد أبوحسين

اترك تعليقا