إدارة الوقت
تحظى مسألة تنظيم الوقت اهتمامًا بالغًا في أوساط الباحثين سواء على مستوى الحياة الشخصية أو في الأعمال، بسبب كثرة المشاغل اليومية، وتعدد الواجبات، والرغبة في الاسترخاء وقضاء حاجيات نفسية. فقد ذكرت آشلي ويلانز، وهي أستاذة في كلية هارفارد للأعمال، أن الناس السعداء يستخدمون أموالهم لشراء الوقت (1).
قدم بعض الباحثين حلولًا تكاد تنفع لمجتمع دون الآخر، أو لبيئة دون الأخرى، فاختلاف الثقافات له أثر كبير على تحقيق الغاية. فمثلًا، دعا براين تريسي؛ في كتابه “إدارة الوقت“، إلى التظاهر بالتميز في إدارة الوقت، فبنظره هذا سيقود المرء في نهاية المطاف نحو تنظيم شؤونه وإدارة وقته بالفعالية، ويولد لديه شعورًا بالكفاءة. ولكن أليس هذا خداعًا للنفس! ماذا لو تحدّث الشخص أمام الملأ أنه منظّم ومرّتب خلافًا لوضعه الحقيقي، أليس هذا التصرف سيسقط من مصداقيته. وأيضًا ماذا لو استطاع لمرة تحقيق الهدف، فهل هناك ضمان ألّا يصبح هذا الإنسان مغرورًا أو تافهًا، لأن المبدأ الذي بنى عليه هو التظاهر.
سيخجل الرجل إذا لم تتطابق أفعاله مع كلماته.
-كونفوشيوس
العمل يعكس حقيقة الإنسان وليس التظاهر، فقد يصبح التظاهر عادة يصعب معالجتها. فقد قيل: عندما لا تخدع نفسك تصبح حكيمًا. الإنسان ليس كاملًا وإنما يسعى للكمال، فما المانع أن يعترف أنه يسعى ويجتهد في تنظيم أوقاته وأعماله، فهذه دلالة على كفاح المرء في حياته. وأيضًا لنفترض أن شخصًا تظاهر بالإيمان المرضي والإتقان الدقيق والعدالة المطلقة، فهل سيؤدي به التظاهر إلى تحقيق مقولته!
ذكرت هارفارد في يوليو 2019 -استطلاع شمل عشرة آلاف من كبار التنفيذيين- حيث ذكروا أن السلوك الاستراتيجي هو السلوك القيادي الأكثر أهمية في نجاح المؤسسات، ولكن 70% من هؤلاء التنفيذيين قالوا إنهم يفتقرون إلى وقت للتفكير الاستراتيجي (2).
لا يقصد بهذا الموضوع سرد المهام اليومية وإعداد قائمة لها، ومن ثم تنظيمها عبر تخصيص وقت لكل منها فحسب، وإنما تصور للطريقة التي يمكنها معالجة جوهر المشكلة.
يتحدث العديد من الأشخاص عن انشغالهم اليومي، وازدحام جدولهم، بحيث يعيق لهم التفرع لمهام أخرى. فيعطون أولوية لبعض المهام على حساب الأخرى، ويبذلون طاقاتهم في سبيل هذا الهدف أو ذاك، مما يؤثر سلبًا على بقية جوانب حياتهم، ما قد يقودهم نحو مصير غير مرغوب به، أو قد يؤدي بهم إلى الفشل. وأيضًا لعل البعض قد يعاني باضطرابات أو مشاكل صحية وبدنية، قد يرغمون بوجود شخص إلى جانبهم للاعتناء بهم.
البعض يختلط عليه الأمر بين إدارة الوقت وترتيب الأولويات، فيدعو أولًا إلى وضع أهداف حسب أهميتها، ومن ثم تحديد المدد الزمنية لإنجازها.
في الواقع الأمر مختلف، هناك احتياجات عامة للإنسان، وعلى أثرها يصنّف الوقت، وبناءً على تلك الاحتياجات تظهر أعمال متعددة، ونتيجة لتزاحم الأعمال تستدعي الحاجة إلى ترتيبها حسب الأولوية وفقا لمنظور هذا الشخص، أو حسب الظرف الذي يعيش فيه، أو حسب حاجة المؤسسة التي يعمل لأجلها.
قيل: “الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك“.
يُقصد من العبارة، إن الوقت يمضي سريعًا ولا تدرك الفائت منه، والتّحكم به؛ يستلزم إلى وضع حدود له، وفي حال غياب الضوابط تنقلب الأمور على عقبها، فيصعب تدارك هذه من تلك، فتسوء الأمور وقد تؤدي إلى المهالك، وهذا تشبيه رائع بأن الوقت قطع صاحبه كالتقطيع بالسيف.
يمر الإنسان بمراحل سنية مختلفة وعلى ضوئها تحدد مسؤولياته. ويبدأ بمرحلة التكوين؛ ويراد بها المرحلة التي يقضيها الإنسان في التعليم الأساسي، والمراهقة، وقبل البدء بالعمل وحمل المسؤوليات الأسرية والاجتماعية. ومن ثم مرحلة العمل؛ وتبدأ بانتساب الشخص بالعمل لحين الوصول لسن التقاعد. حيث تشمل المرحلة؛ تحمل المسؤوليات العائلية والاجتماعية والمؤسسية. وأخيرًا، مرحلة الراحة؛ وتبدأ عندما يتقاعد المرء ويتفرغ لشؤونه الخاصة أو الاهتمام بالدائرة الصغيرة جدًا المحيطة به.
وخلاصة الأبحاث والتجارب والخبرات، وبما يناسب كافة المراحل المذكورة، فالطريقة المناسبة في تنظيم الوقت هو تقسيمه في أطر خاصة، بحيث يكون لكل إطار عنوان خاص وهدف أسمى، ويخصص له الحد الأدنى من الوقت، بحيث لا يتعدى وقت أي إطار على وقت إطار آخر، وتكون هناك مرونة بحيث يُنظّم الوقت ولا يتجاوز حدوده، ومن ثم تحدد أهداف كل إطار. وهذه الأطر كالتالي:
الإطار الأول: العبادة
يقصد من هذا الإطار، أداء الفرائض والواجبات الدينية وأداء بعض المستحبات. وهذا الإطار هو المنبع الرئيسي في تكوين شخصية المرء، ومبادئه وقيمه، وتستمر بوجوده وبقائه. فالارتباط مع الله يكوّن لدى الإنسان رادع قوي ضد الوقوع في المهالك. فهدف وجوده في الحياة هو زراعة البذور من أجل إعطاء ثمارها في هذه الحياة، وتكون له رفيقًا أبديًا في الحياة الأخروية.
بالصلاة وحدها نستطيع أن نحقق بين الجسد والعقل والروح اتحادًا يُكسب العود البشري الواهي قوة لا تتزعزع.
-كارليل
أشار مركز أبحاث بيو، يميل الأشخاص الذين ينشطون في التجمعات الدينية إلى أن يكونوا أكثر سعادة وانخراطًا في الحياة المدنية من البالغين من غيرهم. وجدت العديد من الدراسات السابقة ارتباطات إيجابية بين الدين والصحة في أمريكا (3).
الإطار الثاني: تنمية الذات
يستلزم من الإنسان اكتشاف معالم الحياة والتلذذ بطعمها، لكي يحس بقيمة الحياة الأخروية، فإن تقبّع في جانب محصور لا يفتح للمرء آفاقًا واسعة ولا يدرك معنى الكمال، مما يضيق على نفسه خناق الخيارات، والسباحة في آفاق المعالم، فيكون إنسانًا عاديًا وليس بذي همة رفيعة، فإحساس بطعم الماء ما هو سوى الحياة.
اسكن في جمال الحياة. شاهد النجوم، وانظر لنفسك وهي تعمل معهم.
-ماركوس أوريليوس
ولذا، يُلزم التعلم، فمن خلاله يتمكن الإنسان من التطوير والنجاح والوصول إلى درجات الكمال. وأيضًا القراءة، حيث ذكر الخبراء أن القراءة هي طريقة سهلة لتعزيز ذكاء الشخص. والقراءة في سن أكثر تقدمًا هي أيضًا شكل رائع من أشكال التحفيز الذهني. فقد أشارت بعض الأبحاث إلى أن القراءة يمكن أن تؤخر بالفعل ظهور مرض الألزهايمر أو تبطئ عملية فقدان الذاكرة.
استقرار وعزلة حياة هادئة تحفز العقل الإبداعي.
-ألبرت أينشتاين
بالإضافة إلى التأمل والرياضة وفسحة النفس. حيث إن الفسحة تنشط الذاكرة وتخلص الدماغ من تراكمات الأفكار السلبية، وتعيد تنشيط العقل. وذلك من خلال المشي البطيء، أو قضاء وقت على الشاطئ، أو جلسة التأمل بالنظر إلى مساحات خضراء وما شابه.
الإطار الثالث: العلاقات الاجتماعية
إن لتكوين الصداقات، وتقوية الروابط الأسرية والاجتماعية؛ أهمية كبيرة في تكوين مجتمع مترابط، ومساعدة أفراده وحمايتهم، والعمل بنهوضه أمام مختلف التحديات. فالإنسان لم يولد بذاته، ولم يختار البيئة لينشأ فيها، ولا زمان ولادته، وهذا لبيان الإنسان أن عليه مكافحة الظروف، وتيسيرها لصالحه، واتخاذ التدابير الوقائية لكيلا يقع فريسة الأحداث، أو يذهب ضحية الزمان، فالحياة دار الامتحان والابتلاء، وليس مكانًا للهو واللعب.
إذا وصلت إلى عمري في الحياة ولم يفكر أحد فيك جيدًا، فلا يهمني كم هو كبير حجم حسابك المصرفي، حياتك كارثة.
-وارن بافيت
بالرغم أن الإنسان قد قيدت له بعض خياراته، ولكن الحدود المتروك له شاسعة ومتشعبة ومتشابكة، فنجاح المرء في جانب معين منها يعد بحد ذاته فلاحًا أبديًا. إضافة إلى ذلك، ينبغي أن يدرك الإنسان أنه ليس حرًا في جميع الأشياء، وعليه التزامات ينبغي أداؤها، ولا يمكنه مسايرة الواقع مع حرية الاختيارات في كافة الأمور، وهذا يجب أن يكون في ذهنه دائمًا.
الإطار الرابع: العمل
يتغير مجرى المرء فور التحاقه بالعمل، حيث يأخذ العمل منه حيزًا كبيرًا، ويبدأ بالتعلق مع زملائه بالعمل، ويصاولهم للبلوغ إلى مراتب عليا، وتكثر خياراته في دوائر معينة وتزداد ارتباطاته. وأيضًا، يختلف دوره حسب الوظيفة التي يشغلها، وتكثر المهام عند تكوين العائلة، ومن ثم يحتاج إلى إعانة عياله والاهتمام بشؤونهم ومستقبلهم، فقد يختفي ظهوره بالمجتمع أو ينحصر وجوده في مناسبات معينة. وهذه أهم مرحلة بالحياة، وتحتاج إلى دقة في تنظيم الأمور، فقد لا يحالفه حظ بالعمل أو الزواج، أو تقع كارثة معينة، والتي قد تسبب بانهيار معنوياته، ويفقد بذلك الإحساس بالوجود. ولذلك يستدعي الدقة في تنظيم الشؤون وإدارة الوقت، واحترام كل من يرتبط بكيانه.
الحياة هدية، وهي توفر لنا الامتياز والفرصة والمسؤولية لإعطاء شيء يعود من خلاله بعطاء أكثر.
-توني روبينز
ومن المعلوم أنه لا يمكن التكهن بالمعوقات بشكل صحيح خلال هذه المرحلة، فلكل عمل له مخاطره وعواقبه؛ الجيدة والوخيمة، والتي يصعب التنبه بها أو تخيلها، وقد تظهر فجأة، بحيث لا يسع الوقت من أخذ التدابير اللازمة. وللحد من ثقل التبعات؛ ينبغي على الإنسان عدم الدخول في المجالات غير الضرورية، وذلك بهدف الأخذ بالاحتياطات اللازمة أثناء التقلبات الاقتصادية وحدوث الأزمات المالية والسياسية والاجتماعية.
الإطار الخامس: المراجعة
ذكرت العديد من الأبحاث أهمية قيام المرء بمراجعة أعمال اليوم قبل الخلود للنوم، بحيث يسترجع الانسان ذكريات اليوم، ويقيم أعماله وما بدر منه لكي يرى موضع الخلل فيصححه. إن غرس عقيدة المحاسبة اليومية لها بعد استراتيجي كبير، حيث تربط الإنسان بمصيره الأبدي، فعدم المحاسبة يعني خروجه عن المسار الصحيح، وقد يقود المرء إلى أبعاد خطيرة يخسر بها حياته.
لا يوجد رجل لديه فرصة للاستمتاع بالنجاح الدائم حتى يبدأ في البحث في المرآة عن السبب الحقيقي لكل أخطائه.
-نابليون هيل
ارتباط الانسان بالأهداف السمية، تزرع فيه مفاهيم ذات قيم خالدة، مثل العدالة والنزاهة والصدق، وبها تستدام الأعمال، وبها تبقى المؤسسات. ولذلك ركز الدين على هذا الجانب، لكي يتذكر بوجود يوم طويل، يعرض عليه بكل ما تقدم من أعمال مختلفة وبأدق التفاصيل، ووزنها بالمعايير الإلهية النزيهة، حيث إن نجاح المرء في هذا الحساب الدنيوي يدخل في النعيم الأبدي الذي لا زوال له ولا الاضمحلال.
الخلاصة، نشرت نتائج أبحاث جامعة بوسطن وكلية الأعمال بجامعة هارفارد حول التوازن بين العمل والحياة، أن عملية وضع الحدود للأعمال والمحافظة عليها أصبحت من المواضيع الصعبة والأهم من ذي قبل، بسبب وتيرة أعمال المؤسسات وتطور الآليات (4).
ولذلك يعتمد الإنسان على نفسه بالالتزام في تنظيم أوقاته، والدراسات المقدمة في إدارة الوقت ما هي سوى الإرشادات، فالتقيد بحدود الأعمال هو التحدي الرئيسي. قد لا يهم الموضوع للبعض لقلة الأعمال لديهم، ولكن لغيرهم يبدو الأمر مختلفًا.
نرشح لك: ما هو قلق الوقت.. وكيف يمكن مواجهته؟
المصادر (1)آشلي ويلانز، طرق مقترحة لشراء الوقت السعيد بالمال، HBR، 2019، الموقع الإلكتروني: https://hbrarabic.com/شراء-الوقت-السعيد-بالمال/ (2)راسل قاسم، كيف تخصص وقتا للتفكير الاستراتيجي، HBR، يوليو 2019، الموقع الإلكتروني: https://hbrarabic.com/فيديو-كيف-تخصص-وقتاً-للتفكير-الاسترات/ (3) بيو، علاقة الدين بالسعادة، مركز بيو للأبحاث، يناير 2019، الموقع الإلكتروني: https://www.pewforum.org/2019/01/31/religions-relationship-to-happiness-civic-engagement-and-health-around-the-world/(4) ريبيكا زوكر، ساعد فريقك على تحقيق التوازن بين العمل والحياة، HBR، 2017، الموقع الإلكتروني: https://hbrarabic.com/التوازن-بين-العمل-والحياة/ (5) الأقوال المأثورة، الموقع الإلكتروني: https://www.entrepreneur.com (6)بريان تراسي، إدارة الوقت، مكتبة جرير، 2018، الرياض، السعودية