هل للسلميّة جدوى؟
لم يحدث في التاريخ الإنساني كلّه تغيير كبير بدون استعمال العنف.
فقانون الطبيعة الذي يقضي بانتصار الأقوى يحكم، وحتى فيما قبل التاريخ يعتقد بعض العلماء أن أسلافنا (الهوموسابيان) هم سبب انقراض أبناء عمومتهم (النياندرتال) في صراعهم على الموارد.
العنف لا يؤدّي إلّا للعنف، ودائرة الدم المغلقة لا تترك مجالًا لأي تغيير جوهري بل تبقى القاعدة من يملك القوّة والقلب الأكثر قسوة هو من يملك السُلطة.
هذا هو الخلاف الدائم بين وجهتي النظر في حركات التغيير السياسية.
والموقف من العنف قد يكون مبدئيًّا برفضه قطعًا كحال الديمقراطيين عامةً، أو السعي له والنظر إليه كضرورة حتميّة كبعض الجماعات الراديكالية اليسارية والإسلامية التي تحب تسمية نفسها بالجهاديّة (ولا أدري لماذا يوافقهم البعض على هذه التسمية التبجيلية دون موافقتهم الرأي).
ألا أنّه في أغلب الحالات الظروف الواقعية هي التي تُحدد اللجوء أو السقوط في فخ العنف ومدى نفعيّته وكونه يحقق مكاسب استراتيجية من عدمه.
وعندما حققت الهند الاستثناء الكبير الأول بنجاح غاندي ورفاقه في انتزاع استقلال الهند من بريطانيا ظهرت فكرة المقاومة المدنية كفكرة تستحق الالتفات، وفي السبعينات رَوّج المفكر السياسي الشهير جين شارب لفكرة المقاومة المدنيّة وسياسة العمل اللاعنفيّ وهو الاسم الذي اختاره لكتابه المكوّن من ثلاثة مجلدات.
وأعلن فيه رأيه أن المقاومة المدنية ليست فقط وسيلة ناجحة و لكنها أكثر فاعلية من العنف فيقول:
«إن العنف ليس ضروريًا؛ إذا أدرك المواطنون الأشكال المختلفة للقوة التي يمتلكونها، مثل قدرتهم على رفض التعاون، وسحب مهاراتهم وعملهم، ومواردهم المادية. ومن خلال حجب مصادر القوة هذه بصورة تدريجية ومنهجية لن تكون الدولة قادرة على العمل، وعندما يرفض الناس تعاونهم، ويحجبون المساعدة، ويستمرون في عصيانهم وتحديهم، فإنهم يمنعون عن خصومهم المساعدة البشرية الأساسية والتعاون الذي تحتاجه أي حكومة أو نظام هرمي… الناشطون قد يرفضون إطاعة الأوامر، وقد يوقف العمال العمل مما يؤدي لشلل الاقتصاد، وقد يرفض الموظفون الإداريون تنفيذ التعليمات. وقد يصبح الجنود والشرطة متساهلين في القمع؛ حتى أنهم قد يتمردون. إذا قام الناس والمؤسسات بفعل ذلك بأعداد كافية لفترة طويلة بما فيه الكفاية، فلن يكون للحكومة أو النظام الهرمي أي سلطة… وتكون قوتها قد انحلت» .
نرشح لك: ماذا يقول غاندي عن اللاعنف والمقاومة والشجاعة؟
والواقع أن أي صراع إنسانيّ هو في مضمونه صراع بين حزمتين من الأفكار؛ حيث يُمثّل طرفا الصراع أفكارًا يؤمنون بها وينتج عن قناعاتهم الروابط التي تجعلهم جماعات تنظيمية لها أهداف مشتركة وتسعى لتحقيق مصالح معينة وعلى استعداد للصدام مع الآخرين في سبيلها.
والدولة ذاتها عندما تكون طرفًا في الصراع كالصِدام مع النظام الحاكم أو محاولة الاستقلال فمفاهيم الوطنية والهيراركية (بتنوِّعها) هي التي تُحدّد سلوكيّات المنتمين لها مدنيين وعسكريين.. أمّا الأساليب المختلفة للدفاع عن الأفكار ومحاولة تسويدها سواء كانت الكتابة في البلوجات أو البراميل المتفجرة فهي لا تعدوا كونها أدوات للفكر فليس للمدافع عقول خاصّة بها، إذ يُطلقها أشخاص لديهم قناعات معينة تجعلهم على استعداد لإطلاقها على معارضيهم.
اقرأ أيضًا: لماذا خرج اليسار من ثورات الربيع العربي أكثر ضعفًا؟
وبعيدًا عن العوامل الواقعيّة المتغيّرة من يوم لآخر ومن بلدٍ لآخر فقد حاول الباحثون الوقوف على إطار نظري لتحديد جدوى المقاومة السلمية وفاعليتها في إحداث التغيير إحصائيًّا ومن هؤلاء إريكا تشينويث حيث قامت بدراسة موسعة بالاشتراك مع مارياج ستيفان، بعنوان (المنطق الاستراتيجي للكفاح السلمي) حاولت فيها مقارنة نتائج الوسائل السلمية (الإضراب، التظاهر، الاعتصام، المقاطعة) في تحقيق الأهداف السياسية مقارنةً بانتهاج الأساليب العنيفة، حيث قامت في مطلع الألفية حركة (أوتوبور) الصربيّة المكوّنة من نُشطاء شُبّان أغلبهم طلبة جامعيين بتحقيق مفاجأة كبيرة بالإطاحة بدكتاتور الصِرب السفّاح (سلوبودان ميلوسيفيتش) معتمدين على أفكار جين شارب في المقاومة اللاعنفية بشكلٍ مثالي، مما أدّى لمحاولات عديدة حول العالم لمحاكاة نجاحهم (الذي كان معتمدًا بدرجة كبيرة على دعم أمريكي علني وسري قوي) ولفتت أنظار الباحثين إلى أفكار جين شارب مجددًا.
و يمكننا تلخيص نتائج دراسة إريكا في النقاط التالية:-
– حدود الدراسة هي الصراعات السياسية الكبرى التي تهدف إلى تغيير النظام أو التخلّص من الاحتلال، والتي نتج عنها في حالة العنف ضحايا بشرية تتجاوز الألف قتيل، وفي حالة الحركات اللاعنفية التي انخرط بها ألف مشارك نشط على الأقل مع الالتزام باستراتيجية لاعنفيّة، وحددت معيار النجاح فى تحقيق أهداف الحركة وقد تم بحث أكثر من 300 حركة معارضة سياسية سلمية وعنيفة حول العالم وجمع البيانات الكافية عنهم.
– خلال الفترة ما بين 1900-2006م بلغت نسبة نجاح الحركات اللاعنفيّة ضعف نسب نجاح الحركات التي اختارت العنف، سواء في النجاح الكُلّي أو الجزئيّ في تحقيق أهدافها
وخلال العقود الماضيّة تحوّل مُنحنى النجاح لصالح الحركات اللاعنفية واكتسبت فاعلية أكثر خلال الوقت.
– العوامل الأساسية التي رجحت جانب المقاومة اللاعنفيّة هي أنها أصبحت أكثر قدرة على جذب الجماهير لمدة أطول من الحركات العنيفة التي تجتذب أفراد أقل و لفترات ضئيلة من الزمن؛ لطبيعتها المنفِّرة لأغلب شرائح المجتمع وتطلباتها العالية وخطورتها الكبيرة بينما تعتمد المقاومة اللاعنفية على تعزيز قوة الجماهير وزعزعة ثقة أتباع السلطة بها ودفعهم إلى التمرّد بدلًا من مواجهة السلطة مباشرةً.
– فيما يخص نِسَب المشاركة في الحركات المدنية، اقترحت إريكا بناءً على دراسة الحالات حول العالم نسبة تتراوح بين 5% إلى 10% من عدد السكان يشتركون بشكل نشط في حركة المعارضة السلمية لتكون لهم فرصة مُعتبرَة في النجاح، حيث سقطت أغلب الأنظمة التي تعرضت لحركات معارضة بهذا الحجم.
– كُلفة مناهضة الحركات السلمية أكبر من كُلفة مناهضة الحركات العنيفة
حيث تضُم الدولة المناهضين الذين يتحولون للعنف بالإرهاب و تجد دعمًا دوليًا وداخليًا لمجابهتهم، حتى أن بعض الأنظمة تقوم بدفع معارضيها للعنف أو تُلصق بهم تهمًا باطلة بالإرهاب لتعبئة الجماهير والقِوى الدولية ضدهم وتيسير القضاء عليهم.
–الحركات اللاعنفية أكثر مرونة و قدرة على التفاوض، و تستطيع بسهولة الدخول في مفاوضات مع الحكومة ومؤيديها والتوصّل للحلول، بينما الجماعات المسلحة أقل قدرة على التواصل عمومًا مع غيرها. وتتلقى الحركات اللاعنفية الدعم الدولي أكثر من الحركات العنيفة التي توصم الدول التي تؤيدها بدعم الارهاب.
– الحركات اللاعنفية تستطيع اجتذاب أفراد من معسكر السلطة وأقناعهم بعدالة قضيتهم، أو على الاقل يرفضون الإجراءات التعسفية ضدهم، بينما الحركات العنيفة تمثل خطرًا على حياة وأُسر كل المُنتمين لمعسكر السلطة فلا تترك العداوة مجالًا للتواصل بل يواجه عنفها بقبول العنف ضدها.
– كلما ارتفع سقف استعداد النظام للعنف كلما ضعفت فرصة الحركات العنيفة في الانتصار بينما ترتفع نسبة نجاح الحركات اللاعنفية.
– تفشَل الحركات العنيفة والسلمية في تحقيق أهدافها إن لم تتمكن من تحقيق تعبئة شاملة لا مركزية، أو افتقرت إلى حُسن القيادة.
– دور الإعلام حاسم وقد يؤدي إلى قلب الأوضاع وعكس النتائج فيجب إنشاء مصادر مستقلة للإعلام والتکنولوجيا والحفاظ عليها لاعطاء الحركات السلمية فرصة للنجاح.
وهكذا وعلى الرغم من النسبية الشديدة في الموضوع، وحقيقة أنه لا توجد وصفة سحرية تكمن حدوث التغيير أو ربح المعارضين للصراع ألا أنه يمكننا القول أن الادّعاء السائد أن العنف هو السبيل الوحيد لتغيير مغالطة واضحة، بل على العكس تظهر الحركات السلمية احتمالات أكبر في النجاح سواء في تحقيق أهدافها أو الاستمرار في الوجود وتحقيق الاستقرار بعد نجاحها.
وأخيرًا أدعوك للاطلاع على المراجع للاستزادة فيما يخص الموضوع.
المراجع:- لماذا تنجح المقاومة المدنية | محاضرة إيريكا تشينويث على يو تيوب بحوث المقاومة اللاعنفية - شارون إريكسون نيبستاد - ترجمة ناصر ضميرية عرض دراسة لماذا تنجح المقاومة المدنية - المعهد المصري للدراسات - عادل رفيق